عناصر الخطبة
1/لماذا نرجع إلى اجتهادات العلماء دون غيرهم؟ 2/شروط الاجتهاد وضوابطه 3/واجب المسلم نحو اجتهادات العلماء.اقتباس
وَمِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمَقْبُولِ: أَنْ يَكُونَ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ شَرْعِيٌّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَمَّا مَا كَانَ فِيهِ نَصٌّ فَلَا يُقْبَلُ أَيُّ اجْتِهَادٍ يُعَارِضُهُ أَوْ يُعَطِّلُهُ، فَآرَاءُ الرِّجَالِ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْصُومَةِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَخْلُوقٌ خُلِقَ مِنْ ضَعْفٍ، وَرَافَقَهُ الضَّعْفُ حَتَّى مَاتَ، وَجَاءَ الْحَيَاةَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ فَتَعَلَّمَ أَشْيَاءَ وَجَهِلَ أَشْيَاءَ أُخْرَى، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النَّحْلِ: 78]. وَظَلَّ مَصْحُوبًا بِضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ وَعَجْزِهِ حَتَّى أَتَاهُ أَجَلُهُ مِنْ رَبِّهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الرُّومِ: 54].
فَهَلْ هَذَا الْإِنْسَانُ سَيُصِيبُ فِي كُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ؟!
إِنَّهُ -بِلَا شَكٍّ- سَيَكُونُ عُرْضَةً لِلْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَلَوْ بَلَغَ فِي الْفَهْمِ الْغَايَةَ، وَوَصَلَ فِي الْحِفْظِ النِّهَايَةَ.
وَهَكَذَا اجْتِهَادَاتُ الْبَشَرِ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- هِيَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، وَالنَّقْصِ وَالْقُصُورِ، فَلَا عِصْمَةَ فِيهَا وَلَا كَمَالَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ إِنْ طَلَبْـ *** ـتَ مُهَذَّبًا رُمْتَ الشَّطَطْ
مَنْ ذَا الَّذِي مَا سَاءَ قَـ *** ـطُّ وَمَنْ لَهُ الْحُسْنَى فَقَطْ؟
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَمَعَ هَذَا الضَّعْفِ الَّذِي رَافَقَ الطَّبْعَ الْبَشَرِيَّ فِي بَنِي آدَمَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- رَفَعَ مِنْ شَأْنِ صِنْفٍ مِنْهُمْ؛ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِدِينِهِ، الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ وَيَفْهَمُونَهُ وَيُبَلِّغُونَهُ، فَقَالَ -تَعَالَى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[الْمُجَادَلَةِ: 11].
وَمِنْ إِعْلَائِهِ لِشَأْنِهِمْ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ مِنَ الشُّهُودِ عَلَى تَوْحِيدِهِ فَقَالَ -تَعَالَى-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آلِ عِمْرَانَ: 18].
وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: "وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ).
وَلَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ كَانَ لِاجْتِهَادَاتِهِمْ مَكَانَتُهَا وَاحْتِرَامُهَا؛ لِهَذَا كَانَ عَلَيْنَا -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- الرُّجُوعُ إِلَى اجْتِهَادَاتِ عُلَمَائِنَا الْعَامِلِينَ الرَّاسِخِينَ، وَذَلِكَ فِي الْقَضَايَا الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نُصُوصٌ شَرْعِيَّةٌ، فَلَا نَرْجِعُ إِلَى أَنْفُسِنَا الْقَاصِرَةِ، وَلَا إِلَى مَنْ حَوْلَنَا مِنَ الْمُتَعَالِمِينَ أَوِ الْجُهَّالِ أَوِ الْمُتَطَفِّلِينَ عَلَى مَوَائِدِ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ.
وَإِنَّنَا -فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ الْمَلِيءِ بِالْمُسْتَجِدَّاتِ الْحَيَاتِيَّةِ الْكَثِيرَةِ- لَفِي حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ لِلرُّجُوعِ إِلَى اجْتِهَادَاتِ عُلَمَائِنَا؛ لِنَعْرِفَ مِنْ خِلَالِهَا الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي الْمَسَائِلِ الْعَصْرِيَّةِ الَّتِي لَا نَجِدُ لَهَا ذِكْرًا فِي كُتُبِ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النَّحْلِ: 43].
وَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الِاجْتِهَادَاتِ الْمَقْبُولَةَ وَالَّتِي يُدْعَى الْمُسْلِمُونَ لِلْأَخْذِ بِهَا، لَيْسَتْ كُلَّ الِاجْتِهَادَاتِ الْمَطْرُوحَةِ، وَلَيْسَتِ الِاجْتِهَادَاتُ مَقْبُولَةً مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، بَلْ هُنَاكَ شُرُوطٌ فِي الِاجْتِهَادِ، وَشُرُوطٌ فِي الْمُجْتَهِدِ الَّذِي تُقْبَلُ اجْتِهَادَاتُهُ؛ فَمِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمَقْبُولِ:
أَنْ يَكُونَ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لَا فِي أُصُولِهَا، مِثْلَ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، لَا الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ.
وَمِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمَقْبُولِ: أَنْ يَكُونَ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ شَرْعِيٌّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَمَّا مَا كَانَ فِيهِ نَصٌّ فَلَا يُقْبَلُ أَيُّ اجْتِهَادٍ يُعَارِضُهُ أَوْ يُعَطِّلُهُ، فَآرَاءُ الرِّجَالِ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْصُومَةِ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لِبَعْضِ مَنْ جَادَلَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ: "يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟!".
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْقِيَادُ التَّامُّ لِقَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَقَوْلِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَقْدِيمُهُمَا عَلَى قَوْلِ كُلِّ أَحَدٍ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ".
وَمِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمَقْبُولِ: أَلَّا يُخَالِفَ ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ إِجْمَاعًا، فَإِنْ خَالَفَهُ فَلَيْسَ اجْتِهَادًا مَقْبُولًا؛ فَهُنَاكَ مَسَائِلُ لَا نَصَّ فِيهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَكِنْ فِيهَا إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ، أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِيهَا الْقَوْلُ بِإِجْمَاعِهِمْ؛ وَمِنْ أَمْثِلَةِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ: إِجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُوبِ تَنْصِيبِ خَلِيفَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَقْدِيمِ دَيْنِ الْمَيِّتِ عَلَى وَصِيَّتِهِ مِنَ التَّرِكَةِ قَبْلَ قَسْمِهَا، وَعَلَى حُرْمَةِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ كَلَحْمِهِ".
وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لَهُ شُرُوطًا؛ مِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَبِسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعَالِمًا بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَعَالِمًا بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَبِمَبْحَثِ الْقِيَاسِ فِيهِ خُصُوصًا، وَعَالِمًا بِعُلُومِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَالِمًا بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ.
أَرَأَيْتُمْ -عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ سَهْلًا، وَأَنَّ الْبَابَ لَيْسَ مَفْتُوحًا لِكُلِّ قَوْلٍ وَلِكُلِّ قَائِلٍ، فَالِاجْتِهَادُ الْمَقْبُولُ لَهُ شُرُوطٌ فِيهِ وَفِي صَاحِبِهِ:
وَلَيْسَ كُلُّ اجْتِهَادٍ جَاءَ مُعْتَبَرًا *** إِلَّا اجْتِهَادٌ بِهِ أَشْيَاءُ تُشْتَرَطُ
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ؛ قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمٍ تَتْرَى، وَآلَاءٍ لَا أُدْرِكُ لَهَا حَصْرًا، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ الْأَوْفِيَاءِ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ وَاجِبَنَا نَحْوَ اجْتِهَادَاتِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ:
أَوَّلًا: أَلَّا نَعْتَقِدَ فِيهِمُ الْعِصْمَةَ فِيمَا اجْتَهَدُوا، فَلَا نُقَدِّسُ أَقْوَالَهُمْ وَنَرَى أَنَّهَا صَائِبَةٌ صَوَابَ النَّصِّ، وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ بِأَنَّ أَقْوَالَهُمْ لَا تَسْلَمُ مِنَ الْغَلَطِ، وَأَنَّهُمْ رَاجِعُونَ عَنْهَا إِنْ حَصَلَ فِيهَا خَطَأٌ:
فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "قَوْلُنَا هَذَا رَأْيٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، فَمَنْ جَاءَ بِأَحْسَنَ مِنْ قَوْلِنَا فَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَّا".
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ، فَاعْرِضُوا قَوْلِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ".
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُلْتُ أَنَا قَوْلًا فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْ قَوْلِي، وَقَائِلٌ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (لَا تُقَلِّدْ دِينَكَ الرِّجَالَ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا مِنْ أَنْ يَغْلَطُوا).
وَمَا أَجْمَلَ قَوْلَ الْقَائِلِ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لِهَؤُلَاءِ الْأَعْلَامِ:
وَقَوْلُ أَعْلَامِ الْهُدَى لَا يُعْمَلُ *** بِقَوْلِنَا بِدُونِ نَصٍّ يُقْبَلُ
فِيهِ دَلِيلُ الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ *** وَذَاكَ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ
وَقَالَ آخَرُ:
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْإِمَامُ *** لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ إِسْلَامُ
أَخْذٌ بِأَقْوَالِي حَتَّى تُعْرَضَا *** عَلَى الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ الْمُرْتَضَى
وَمَالِكٌ إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ *** قَالَ وَقَدْ أَشَارَ نَحْوَ الْحُجْرَةِ
كُلُّ كَلَامٍ مِنْهُ ذُو قَبُولِ *** وَمِنْهُ مَرْدُودٌ، سِوَى الرَّسُولِ
وَالشَّافِعِيُّ قَالَ: إِنْ رَأَيْتُمُ *** قَوْلِي مُخَالِفًا لِمَا رَوَيْتُمُ
مِنَ الْحَدِيثِ فَاضْرِبُوا الْجِدَارَا *** بِقَوْلِي الْمُخَالِفِ الْأَخْبَارَا
وَأَحْمَدُ قَالَ لَهُمْ: لَا تَكْتُبُوا *** مَا قُلْتُهُ بَلْ أَصْلَ ذَاكَ فَاطْلُبُوا
فَانْظُرْ مَقَالَاتِ الْهُدَاةِ الْأَرْبَعَهْ *** وَاعْمَلْ بِهَا؛ فَإِنَّ فِيهَا مَنْفَعَهْ
لِقَمْعِهَا لِكُلِّ ذِي تَعَصُّبِ *** وَالْمُنْصِفُونَ يَقْتَدُونَ بِالنَّبِيِّ
وَمِنْ وَاجِبِنَا نَحْوَ اجْتِهَادَاتِ الْعُلَمَاءِ: أَنْ تُعْرَضَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا رُدَّتْ تِلْكَ الِاجْتِهَادَاتُ؛ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْحُجَّةَ مَوْضُوعَةً عَلَى الطَّرِيقِ فَهِيَ قَوْلِي".
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَعُوا قَوْلِي".
وَمِنْ وَاجِبِنَا نَحْوَ اجْتِهَادَاتِ الْعُلَمَاءِ: الْأَخْذُ بِاجْتِهَادَاتِهِمْ فِي الْمَسَائِلِ غَيْرِ الْمَنْصُوصَةِ، وَغَيْرِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَإِجْلَالُهُمْ وَاحْتِرَامُهُمْ، وَتَقْدِيمُ أَقْوَالِهِمْ فِي تِلْكَ الِاجْتِهَادَاتِ عَلَى أَقْوَالِ غَيْرِهِمْ.
وَمِنْ وَاجِبِنَا نَحْوَ اجْتِهَادَاتِ الْعُلَمَاءِ: إِذَا رَأَيْنَا بَعْضَهُمْ قَدِ اجْتَهَدَ وَبَذَلَ وُسْعَهُ فِي بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ فَأَخْطَأَ الصَّوَابَ فَنَعْذُرُهُ وَلَا نَحُطُّ مِنْ قَدْرِهِ، وَنُبْقِي لَهُ الْإِجْلَالَ وَالِاحْتِرَامَ، فَإِنْ فَاتَهُ الْأَجْرَانِ لَمْ يَفُتْهُ الْأَجْرُ الْوَاحِدُ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: احْفَظُوا لِلْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ حُرْمَتَهُمْ، وَأَقْبِلُوا عَلَى الْأَخْذِ بِاجْتِهَادَاتِهِمُ الَّتِي لَا تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَشَرٌ يُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ، فَلَا تَتَعَصَّبُوا لِلْأَشْخَاصِ، وَلَكِنْ تَعَصَّبُوا لِلْحَقِّ وَالدَّلِيلِ، وَاعْرِفُوا الْحَقَّ تَعْرِفُوا أَهْلَهُ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحْفَظَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ دِينَهَا، وَعُلَمَاءَهَا وَخِيَارَهَا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
التعليقات