عناصر الخطبة
1/ معنى المداهنة 2/المداهنة أسلوب جاهلي قديم 3/تحذير الرسول - عليه الصلاة والسلام- من المداهنة 4/مداهنة بعض المسلمين اليوم لأعداء الله 5/صور من المداهنة 6/الفرق بين المداراة والمداهنةاقتباس
إن المسلم يجب عليه أن يكون ثابتاً على دينه، مستقيماً عليه، لا يزيغ عنه ولا يتزعزع، فضلاً عن أن يبدل فيه أو يحرف أو يساوم أو يداهن، فمنهج الإسلام هو المنهج الحق الذي لا محيد عنه، ولا يجوز لأحد من المسلمين - كائناً من كان- أن يفاوض في شيء من عقائده، أو يداهن في أي حكم من أحكامه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي وعد المؤمنين بالنصر والتأييد، ودفع عن الذين آمنوا كيد كل كفار عنيد، وأشهد أن لا إله إلا الله الولي الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي جاهد في الله حق جهاده لإعلاء التوحيد، وما داهن ولا جامل أهل الشرك والتنديد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين انتصروا بالدين وانتصر بهم الدين حتى علا على كل دين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: من الظواهر السيئة التي راجت وانتشرت في زماننا هذا ظاهرة المداهنة، وهي: أن يظهر الإنسان المصانعة واللين لأهل الباطل، ويتلطف لهم، ويقرهم على باطلهم، ويتركهم على هواهم، ويظهر خلاف ما يضمر.
إن هذه الظاهرة الخبيثة ليست وليدة اليوم، ولا صنيعة الأمس، وإنما هي ظاهرة قديمة، وأسلوب من الأساليب الماضية التي استخدمها أهل الباطل, فحينما جاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريدون أن يساوموه على منهجه، ويحرفوا مسيرة جوهر دعوته؛ لعلهم يظفرون منه بشيء من التنازل عن مواقفه، والتراجع عن ثوابته؛ لكي يضيعوا المضمون، ويميعوا الحق، ويلتقوا معه في منتصف الطريق.
ولكن الله -تبارك وتعالى- أخبره بمكرهم، وأعلمه بمداهنتهم، وحذره من شراكهم وأساليبهم، وأمره أن يرد عليهم بكل قوة وحسم ووضوح، فقال له عندما قالوا له: يا محمد نعبد إلهك يوماً وتعبد آلهتنا يوماً!؛ فجاء الحسم من الله في عدم المساومة على الحقائق والثوابت: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * ولا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ) ] [سورة الكافرون1: 6].
وأرادوا أن يحرفوه عن الحق الذي معه، وأن يفتنوه عن الوحي الذي أوحاه الله إليه، فقال الله له: (وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً) [الإسراء: 73-75].
وأنزعج الكفار من ثبات الرسول -صلى الله عليه وسلم- على مضمون الدعوة وجوهرها، وعدم تراجعه عنها ومساومته عليها، ونجاحه في سلوك الأسلوب الناجح في عرض هذه الحقائق وتقديمها للناس، فأرادوا أن يساوموه ويداهنوه، فأعلمه الله بمكرهم، فقال له: (ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم: 9]. يودون أن لَوْ تَلِين فَيَلِينُوا لَكَ، ويودون أن تَرْكَن إِلَيْهِمْ وَتَتْرُك مَا أنت عليه من الحق فيمايلونك, وتوافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه فيداهنونك، ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، ولا تطع هؤلاء المكذبين المعاندين.
إن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- لم يرضَ بهذه المساومات، ويكره هذه المداهنات، فعندما أراد بعض الصحابة أن يساوموه في شأن المرأة المخزومية التي سرقت، وتوسطوا لها لكي يسقط الحد عنها، وأمروا -أسامة بن زيد- الذي كان حبيباً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لها, فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أُسَامَةُ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فَقَالَ: إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" [البخاري (3475) مسلم(1688)].
غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أسامه مع أنه كان حبه وابن حبه، وقام وخطب الناس، وزجرهم عن مثل هذه المداهنات التي يراد من خلالها تمييع منهج الله وتضييع أحكامه، وأخبرهم أن هذا هو الهلاك بعينه.
بل إن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قطع كل طريق أو مسلك يؤدي إلى مداهنة أهل الباطل والسير في ركابهم، فنهى عن التشبّه بهم، وخالف شعائر دينهم وعباداتهم، وحذر من اتباعهم والمشي وراءهم وسلوك مسالكهم، ونهى عن مجاملتهم ومداراتهم على حساب الدين، أو السكوت على ما هم عليه من المنكر والباطل، وزجر -عليه الصلاة والسلام- عن تلقيبهم بألقاب الفخامة، أو إطلاق عليهم ألفاظ السيادة، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدَنَا؛ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدَكُمْ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ" [أحمد (22939)].
إن المسلم يجب عليه أن يكون ثابتاً على دينه، مستقيماً عليه، لا يزيغ عنه ولا يتزعزع، فضلاً عن أن يبدل فيه أو يحرف أو يساوم أو يداهن، فمنهج الإسلام هو المنهج الحق الذي لا محيد عنه، ولا يجوز لأحد من المسلمين - كائناً من كان- أن يفاوض في شيء من عقائده، أو يداهن في أي حكم من أحكامه؛ لأنه منهج الله -سبحانه وتعالى- ودينه.
إن بعض الناس وبعض الفرق الإسلامية وبعض الجماعات ربما داهنت الكفار في شيء من الدين؛ بسبب ما يرونه في الواقع من غلبة الباطل وكثرة مناصريه، وضعف الحق وتشتت أهله، فيرون أنه لابد من مصانعة الكفار في بعض الأمور والتنازل لهم عن بعض الأشياء، ويزعمون أن ذلك أمراً مما يدعيه الواقع ويفرضه الزمن المعاصر.
إن هؤلاء المداهنين نسوا أو تناسوا قول الله -جل وعلا-: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 120]، وقوله: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103]، ونسوا (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف:106] وقوله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام:116].
بعضهم اليوم لا يجرؤا على المطالبة بتطبيق أحكام الشريعة؛ مداهنة لأعداء الله، ويصرح لهم أنه لو حكم الناس فلن يُحكّم الشريعة، ولن يخالف قوانين الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، وأنه سيحارب الإرهاب وسيقضي عليه، ويقوم بتسليم كل من طلبه الكفار بهذه التهمة، وهو يعلم أن الكفار يقصدون بحربهم على الإرهاب حرب الإسلام، وتجفيف منابعه، والقضاء على ثوابته، فأي مداهنة هذه المداهنة؟ وهل هناك تنازل بعد هذا التنازل؟.
حتى على مستوى الأفراد من أبناء الأمة الإسلامية؛ تجد هناك مظاهراً كثيرة من مظاهر المداهنة لأهل الباطل، وما هذا التشبه بأعداء الله في الملبس والمأكل والمشرب والعادات إلا مظهراً من مظاهر المداهنة، وصورة من صورها، وفينا من يترحم على زعمائهم وقياداتهم عند موتهم، وبعضنا معجب ببعض قوانينهم وأفكارهم المخالفة تماماً لمنهج الله وأحكامه، ولهذا تجد فينا من يدعي الإسلام وهو مؤمن بالأفكار الديمقراطية أو الليبرالية أو الاشتراكية، وما علم أن الإسلام منهج متكامل مستقل، ولا يجوز فيه للمسلم أن يداهن أعداء الله في أي أمر من الأمور.
وفينا أيضاً من يداهن أهل الباطل ويسكت عن شرهم، ويجاملهم في منكراتهم، ويراهم وهم على باطلهم وفسوقهم فلا ينكر عليهم، ولا يكلف نفسه عناء النصح لهم، ويكتفي دائماً بالإنكار عليهم بقلبه، مع قدرته على الإنكار عليهم بلسانه وربما بيده، وتراه جالساً معهم ومصاحباً لهم وهو يعلم في نفسه أنهم على الباطل عاكفون، وفي المنكر خائضون، وهو بينهم وحاضر معهم، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 68].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس: ومن صور المداهنة المنتشرة اليوم بيننا: السكوت والخنوع عن الظلم والفساد، والرضا بما يصدر عن الظلمة والفجرة من ظلم وفجور، والاستكانة لهم في ذلك وإعذارهم فيه، والدفاع عن باطلهم وتزيينه ببعض الحجج التافهة، والدعاء لهم بالحفظ والبقاء، ونسي هؤلاء قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل: "أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ" [أحمد (18830)].
ومن صور المداهنة: أن يثني الرجل على الرجل في وجهه، فإذا انصرف عنه أطلق لسانه في ذمه وتكلم عليه وذكر مساويه، وهذه للأسف ظاهرة منتشرة، وصورة من صور المداهنة، موجودة مع أنها ظاهرة مذمومة ومحرمة.
أيها المسلمون: بعض الناس يخلط بين المداراة والمداهنة، ويفعل أفعالاً هي من مداهنة الأشرار ومصانعة الفجار، ثم يزعم أن هذه ليست مجاملة لهم ولا مداهنة وإنما هي مدارة لهم.
والحق أن المداهنة هي خلاف المداراة تماماً، فالمداراة هي: الرفق بالجاهل في التعليم، والتدرج مع العاصي في تحذيره من الكبائر والموبقات، والتلطف معه في الدعوة بالأسلوب الأفضل والطريقة الأجمل، وبالحكمة والرفق والموعظة الحسنة، كما قال الله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل:125].
إن المدارة هي التلطف مع الكفار والعصاة في إظهار الحق، وليس التلطف معهم في إخفاء الحق وتزيين الباطل، كما قال الله لموسى وهارون: ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه 44:43]، فأمرهم أن يدعوه إلى التوحيد والحق، ولكن بالأسلوب الحسن والقول اللين.
إن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو يرده إليه، أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليُقره على الباطل، ويتركه على هواه.
هذه خلاصة بسيطة للفرق بين المداهنة والمداراة، فيجب علينا أن لا نخلط بينهما، وأن نتجنب المداهنة بكل أشكالها وصورها؛ لأن المداهنة ما شاعت في قوم إلا قضت على كرامتهم، وأدخلت الاستكانة في نفوسهم، وقضت على قيمهم وثوابتهم.
إن علينا أن نعلن الجهاد على هذا الخلق المشؤوم -خلق المداهنة- وأن ننفيه من بيننا، ونقضي عليه من أوساطنا، ونحذر أهلنا وأبناءنا وطلابنا منه ومن أهله.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم إنا نعوذ بك من المداهنة والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق.
اللهم ارزقنا الشجاعة في قول الحق ومجابهة الباطل، واعصمنا من مداهنة أهل الباطل وممالأتهم، ونسألك الثبات على الحق حتى الممات.
التعليقات