عناصر الخطبة
1/ هَوْلُ الحسابِ يوم القيامة 2/ الاستعداد لحساب الآخرة بمحاسبة النفس في الدنيا 3/ مجالات محاسبة النفس 4/ البِدار بالتوبة ومحاسبة النفساهداف الخطبة
اقتباس
إنَّ مَن أراد تخفيف الحساب عليه يوم القيامة والنجاة يوم الحساب العظيم يوم العرض الأكبر على الله فعليه أن يسعى لمحاسبة نفسه في هذه الدنيا قبل مفارقتها، ومناقشتها على أعماله الصغيرة والكبيرة والدقيقة والجليلة والخاصة والعامة والقاصرة والمتعدية، فإنه -والله!- إنما يخف الحساب يوم القيامة على أقوام حاسبوا أنفسهم في هذه الدنيا. ورحم الله...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد فيا عباد الله: ما من وصية أعظم ولا أجمع ولا أنفع ولا أشمل من وصية الله لعباده بالتقوى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء:131].
وكيف لا تكون الوصية بالتقوى أعظم وصية؛ وهي السبب الموصل لكُلِّ خيرٍ، والسبب الجامع لكل خير في الدنيا والآخرة، وصدق الله -عز وجل- إذ يقول في محكم كتابه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3].
يجعل الله له مخرجاً من المضايق في الدنيا والآخرة، فقد حاز أجرا ًعظيماً، وثوابا جسيماً، ألا فلنتواص عباد الله فيما بيننا بتقوى الله، ولنسع لتحقيقها، ولنجاهد أنفسنا على لزومها وتلافي كل تقصير يقع منا في تطبيقها، فإنه من كان محققا للتقوى حاز خيري الدنيا والأخرى، جعلني الله وإياكم ممن عمرت قلوبهم بالإيمان واليقين، وتجملت جوارحهم بالتقوى والتسليم لله رب العالمين.
أيها الإخوة المسلمون: إن أعظم هدف وأسمى غاية يسعى العبد لتحقيقها في هذه الدنيا تحقيقه العبودية لله رب العالمين، تحقيقه للهدف الذي من أجله خُلِق، ومن أجله أوجد في هذه الدنيا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
تحقيقه لهذه العبودية بأن يكون عبداً مطيعا لمولاه، منقادا لأوامر سيده، مستجيبا لدعوة خالقه في أموره كلها وجوانب حياته المختلفة.
أَلَا وإنَّ من أعظم ما يعين العبد على تحقيقه لهذا الهدف ووصوله لهذه الغاية العظيمة أن يكون العبدُ في هذه الدنيا ملازماً لمراقبة نفسه ومحاسبتها، في جميع الأحوال، وعموم الأزمان والأماكن.
وتتأكد هذه المحاسبة في أحوال: عند تصرم الأيام ومرور الشهور والأعوام، وعند تقدم السّنّ وضعف البدن ووهن العظم، كما تتأكد هذه المحاسبة عند مجيء الفرص ومرور النعم وتجددها، كنعمة الفراغ والصحة والأمن والأولاد والرزق والمال، وغير ذلك من نعم الله التي لا نحصي لها عَدَّاً.
إن المسلم يدرك يقينا أن أعماله في هذه الدنيا منذ أن جرى عليه قلم التكليف وبلغ سن البلوغ محصاة عليه، مسجلة في كتاب دقيق لا يغادر هذا الكتاب صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا أحصاها؛ ومِن لازم هذا الإحصاء والتسجيل في ذلك الكتاب أن يحاسب العبد على جميع أعماله وأفعاله وتصرفاته التي صدرت منه في هذه الدنيا.
يا الله! جميع الأعمال والأفعال والأقوال التي صدرت من العبد منذ تكليفه وإلى إن يفارق هذه الدنيا سيحاسب عليها جميعا.
ومما يزيد الأمر خطورة أن المحاسِب للعبد هو الله -سبحانه وتعالى-، هو الله الذي لا تخفى عليه خافية من أمر العبد، ولا يعزب عنه مثقالُ ذَرَّةٍ من تصرُّفاتِ العبد: (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ) [البقرة:284].
إنها محاسبة عامة، محاسبة شاملة، لا تختص هذه المحاسبة بما ظهر من أعمال العبد، بل تشمل حتى الأمور الخفية التي فعلها العبد ولم يطلع عليها سوى الله رب العالمين: (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:29-30]
هل سمعت -أيها المسلم- عن محاسبة أعظم وأدق وأخطر من هذه المحاسبة؟! ومما يزيد الأمر مخافة وهولا، والوضع رهبة وذعرا، أن لا مجال للعبد في ذلك الموقف يوم الحساب من الإنكار، وأنه ليس للعبد يوم الوقوف على ربه أن ينكر شيئا من أعماله وأفعاله وأقواله التي صدرت منه، ولو دَقّ ذلك الفعل أو القول وصغر، كيف له أن ينكر؛ والشهود عليه جوارحه التي كانت شاهدة وحاضرة يوم إقدامه على ذلك الفعل؟ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:24].
هذا اللسان الذي يطلقه الإنسان في الغيبة والنميمة والسب والشتم وقول الزور والسخرية وغير ذلك من أنواع المعاصي والكبائر والذنوب، وهذه اليد التي يختلس بها الإنسان ويسرق ويعتدي على الناس، وهذه الرِّجْل التي يمشي بها إلى الحرام، وهذه العين التي يبصر بها ما حرم الله -عز وجل-، وهذه الأذن التي يسمع بها العبد ما حرم الله -عز وجل-؛ كل هذه الجوارح وغيرها ستكون الشاهد عليك يوم القيامة: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور:24-25].
(حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) [فصلت:20-23].
الله أكبر! يا له والله من موقف رهيب! يا له والله من موقف عظيم تبلغ القلوب معه الحناجر وتضطرب أعضاء البدن ويشرّق الفكر فيه ويغرب! فاللهم يا حي يا قيوم يا أرحم الراحمين هون علينا وعلى والدينا وذريتنا وإخواننا المسلمين هون علينا الحساب يوم القيامة، واجعلنا بفضلك وكرمك وجودك ممن عنيتهم بقولك: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) [الانشقاق:7-9].
أيها الإخوة المسلمون: إنَّ مَن أراد تخفيف الحساب عليه يوم القيامة والنجاة يوم الحساب العظيم يوم العرض الأكبر على الله فعليه أن يسعى لمحاسبة نفسه في هذه الدنيا قبل مفارقتها، ومناقشتها على أعماله الصغيرة والكبيرة والدقيقة والجليلة والخاصة والعامة والقاصرة والمتعدية، فإنه -والله!- إنما يخف الحساب يوم القيامة على أقوام حاسبوا أنفسهم في هذه الدنيا.
ورحم الله أمير المؤمنين أبا حفص الفاروق عمر يوم قال ناصحا: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وَزِنُوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر على الله، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
وما أعظم ذلك النداء الرباني الذي يدعو فيه الرب -سبحانه وتعالى- وهو الغني عن خلقه، الرحيم بعباده، يدعوهم -سبحانه- إلى محاسبة النفوس استعدادا للقدوم على الله غدا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
يا ترى؛ كم طرقت هذه الآية أسماعنا وآذاننا؟ كم سمعناها وكم قرأناها؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
ولكن السؤال: هل يا ترى عملنا بموجب هذه الآية؟ هل راجع كلٌّ منا نفسه ونظر فيما قدم لغده القريب، واتقى الله -عز وجل- فيما سلف وفيما بقي من عمره؟!.
إنها دعوة من الخالق -سبحانه- من الرب الرحيم الذي يفرح بتوبة عبده، ويحب التوابين من عباده، ويكافئ عباده على التوبة بقبولها منهم، بل وتبديل سيئاتهم السابقة مهما كثرت ومهما عظمت، يبدلها فضلا منه وكرما وإحسانا وجودا، يبدلها بالتوبة النصوح حسنات منه -سبحانه وتعالى-.
إنه حقيق بكل مسلم ومسلمة، بكل صغير وكبير، أن يجتهد في محاسبة نفسه قبل القدوم على الله، وما أقرب القدوم عليه -سبحانه وتعالى-! يحاسبها أولا على الحقوق التي بينه وبين الله، يحاسبها في علاقتها مع الله في امتثال الأوامر واجتناب النواهي، في فعل الطاعات والبعد عن المعاصي والمحرمات، يجعل نصب عينيه دائما هذا الشعار العظيم: بألا يراه الله حيث نهاه، ولا يفتقده حيث أمره.
فمتى ما رأى في علاقته مع ربه حسنا حمد الله على ذلك وسعى في تقويته وتعميقه، ومتى رأى خللا أو تقصيرا اجتهد في تلافيه وبادر سريعا إلى تكميمه وإصلاحه. وهكذا يكون المسلم في جميع أحواله وأيامه وأعماله وساعات ليله ونهاره.
ثم يحاسب العبد نفسه على علاقاته مع من حوله من أهل وأقارب وجيران وأصحاب، يتأمل في علاقاته معهم: أمحسن هو معهم أم مسيء؟ أقائم هو فيها بما أوجب الله عليه، أم مقصر ظالم لنفسه؟!.
يتأمل في جميع ما صدر منه تجاه من حوله من والِدَيْنِ وزوجة وأبناء وبنات وأقارب وجيران، أهو ناصح لهم مؤدٍّ للحقوق الواجبة لهم؟ أم هو على الضد من ذلك؟!.
ويا ويله -والله!- من لقي ربه وهو خائن في هذه المسؤوليات والواجبات، يا ويل المسكين يوم يقدم على ربه وهو ظالم لمن حوله في حقوقهم باخس لهم فيها! ويوم القيامة لتؤدنّ الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
والله! يا خسارته يوم يكون ممن عناهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله في الحديث الصحيح: "أتدرون من المفلس؟ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام"، يأتي بأعمال عظيمة، "يأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فألقيت عليه ثم طرح في النار" عياذا بالله -عز وجل-!.
ثم إن المسلم بعد ذلك يحاسب نفسه على ما يحمله حتى في قلبه من خطرات ومشاعر، يجتهد المسلم في أن يكون قلبه معمورا بحب الله وإجلاله ومحبته وخوفه -سبحانه- والإنابة إليه، لا يحمل المسلم في قلبه غلا ولا حقدا ولا حسدا على أحد من إخوانه المسلمين، بل هو بَرٌّ ناصحٌ لإخوانه المسلمين، لا يضمر العداوة لهم ولا الغش لهم ولا الخيانة لهم، يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه.
المسلم -أيها الإخوة في الله- يحاسب نفسه حتى على خطرات القلب ووسوسة الصدر، وأما جوارح المسلم فشأنه معها في المحاسبة شأن آخر، فهو يجتهد في أن تكون جوارحه كلها مستقيمة على الطاعة، منقادة للعبادة، منكفّة عن المعصية، يحذر من أن يصدر منه ما فيه جناية على الدين والعقيدة من كلمة أو كتابة أو مقال.
يحذر من أن يصدر منه تصرف يفرق به جماعة المسلمين، وينال به من وحدتهم وتماسكهم، هكذا شأن المسلم في أحواله كلها، ومتى كان المسلم كذلك محاسبا لنفسه ومجاهدا لها على الطاعة صلحت نفسه واستقامت، وانفتحت أمامه أبواب الخير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي من أطاعه واتقاه، ومعزّ مَن لاذ بحِمَاه، ومُذِلّ من خالف أمره وعصاه، أحمده -سبحانه- على عظيم إحسانه وتتابع امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومَن شَذَّ عنهم شَذَّ في النار.
عباد الله: اتقوا الله في السراء والضراء، راقبوه -سبحانه- في الشدة والرخاء، كونوا على الحق أعوانا، وفي إصلاح ذات البين إخوانا، وفي إعلاء كلمة الله أركانا؛ راقبوا علام الغيوب، واجتهدوا -رحمكم الله- في إصلاح القلوب، مَنَّ الله عليَّ وعليكم بهداه، ووالى علينا من خيراته وبركاته، وَجَمَّل بواطننا بالإيمان والتقوى، وظواهرنا بالاستقامة والسنة، إن ربي على كل شيء قدير.
أيها الإخوة المسلمون: إن من أعظم الأدواء التي يُصاب بها العبد تأخيره المحاسبة وعدم مبادرته إليها، فكثير من الناس في أمور الآخرة يسوّف المحاسبة ويؤجّل ويماطل وكأنه يملك أماناً من فجائع الزمن ومصائبه، بينما تراه في أمور الدنيا يهتم بالمحاسبة اهتماما دقيقا: كم أنفق في اليوم وكم حصل؟ وكم ربح وكم خسر؟ وكيف يتلافى الخسارة في المستقبل؟ وكيف ينمي أرباحه ويقلل خسائره؟ وكم وكم وكم...؟ مما يتعلق بأمور دنياه، وهي أمور لا يعاب عليها الإنسان؛ لكن المشكلة تكمن يوم يفتقد هذا الحس وهذه الدقة في المحاسبة فيما يتعلق بالأوامر الأخروية التي يترتب عليها الفوز الأبدي والربح الحقيقي أو الخسارة السرمدية.
لنبادر -أيها الإخوة- جميعا بمحاسبة أنفسنا، وعلينا بتلافي تقصيرنا وتفريطنا؛ فإن العمر -والله!- قصير مهما طال، والموت يأتي بغتة، والسعيد -والله!- من قدِمَ على ربه وقد استعد للقاء مولاه بتوبة نصوح، ومحاسبة مثمرة، وعمل صالح مبرور مقبول.
مَنَّ الله -عزَّ وجل- عليَّ وعليكم بالتوبة والإنابة والمحاسبة والمراقبة، وختم لنا جميعا حياتنا بخير ما ختم به لعباده وأوليائه الصالحين، إن ربي رحيم ودود.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً".
اللهم صل وسلم وبارك...
التعليقات