عناصر الخطبة
1/مهانة المجاهرة بالمنكر 2/دلائل قانون المجاهرة بالمنكر 3/خطر ظهور المنكر وضررها 4/وجوب الاحتساب على إنكار المنكر 5/وسائل منع وقوع المجاهرة بالمنكراقتباس
إِذَا راجتْ المنكراتُ علانية، وعزَّ سوقها، وتعطَّل النكير، وخَفَتَ صوتُه، كَثُرَ الْمُتَلَصِّصُونَ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَالْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى الْحُرُمَاتِ، وَرَاجَتْ ثَقَافَةُ التَّنَكُّسِ الْأَخْلَاقِيِّ، والتطاول على الدِّين، ووَيْلٌ يومئذ لِلْأَخْيَارِ مِنَ الْفُجَّارِ، وَوَيْلٌ...
الخطبة الأولى:
إخوة الإيمان: يَجْلبُ غضبَ اللهِ، ويُعَجِّلُ سَخَطَ الله، ويُعاجِلُ مَكْرَ الله. وهو هَلاكٌ مُنْتَظر، وَجُرْمٌ لَيس بِمُسْتَصْغَرٍ، وهُو إِثْمٌ عَظيمٌ، وَخَطَرهُ على المجتمعِ عَمِيْمٌ. إذا تُرِكَ بلا تغير ولا نكير دمَّرَ الأخلاق، وَجَرَّأَ أهلَ الِّنفاقَ، وَأَفْسدَ الدِّينَ، وَأَبْعَدَ النَّاسَ عن عافيةِ ربِّ العالمينَ، قال عنه سيُّدُ المرسلين: "كل أُمَّتي معافى إلا المجاهرِين".
المجاهرةُ بالمحرماتِ والمنكراتِ إِثْمٌ، له ما بعده من الآثام، به تَشْقى المجتمعاتُ، وَعَبْرَ بَوَّابتِه تَتَسارعُ النَّكباتِ، وهو مُؤَشِّرٌ على ضعفِ الإيمانِ والتقوى، وبُعْدٍ عن طريقِ الصراطِ والوسطية والهدى.
المُجَاهِرُ بالمعاصي كَشَفَ سِتْرَ اللهِ عليه فسوَّقَ للمنكراتِ، وأَشَاعَ المحرمات فَسُلِبَ مِنْ قَلْبِهِ استقباحُ الذَّنْبِ، وهانَ بين جنبيه تَعْظيمُ الرَّبِّ فكانَ جزاؤُهُ أنْ حُرِمَ مِنْ عافيةِ الله، وكانَ إِثْمُهُ أنْ يَحْمِلَ أثقالَ غَيْرِهِ مَعَ وِزْرِهِ، وفي الحديث: "وَمَنْ دَعا إلى ضَلالَةٍ كانَ عليه مِنْ الإثمِ مِثْلُ آثامِ مَنْ تَبِعَهُ ، لا يَنْقُص ذلك من أوزارِهم شيئًا"(أخرجه مسلم).
المجاهِرُ بالمنْكَرِ يَودُّ لو أنَّ المجتمعَ كلَّه مُجَاهِر، حتى لا يَستوحشَ ولا يُنبذ، ولا يُستقبحَ ولا يُلفَظ. نَعَمْ، لَنْ يَسْلَمَ المَرْءُ مِنَ العِصْيانِ وَالخَطَأِ، وَأَيُّنَا الْعَبْدُ الَّذِي مَا أَلمَّ بِذَنْبٍ؟
والعبد ما دام ذا ذنبٍ يُعَاقِره *** فتابَ منه فإنَّ الغافرَ اللهُ
لَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يُذْنِبُ وَيَطْلُبُ السَّتْرَ وَيَخْشَى الْعَيْبَ، وَبَيْنَ مُجَاهِرٍ مُتَبَجِّحٍ لَا يَعْبَأُ بِنَشْرِ الْقَاذُورَاتِ وَالمُفَاخَرَةِ بِهَا.
شَعَرَ المُجَاهِرُ أمْ لمْ يَشْعُرْ أنَّ نهايةَ هذا المشروعِ إغراقُ المجتمعِ في فتن وأزمات وهلاك وبلاءات، مصداق ذلك قول من لا ينطق عن الهوى حينما سئل: أنهلِكُ وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كثر الخَبَثُ".
وأسوأُ صورِ المجاهرةِ بالمحرماتِ هو أن تُشَرْعَنَ هذه المجاهرة، أو أنْ تفرضَ على أنها نوعٌ من الحرية؛ فتُسْتَعْلَنُ المحرَّمات التي نُقِلَ الإجماعُ على تحريمها، ثم يُجادل في حِلِّها ويُحامى عنها تحتَ ذريعة أنَّه قول قيل فيهِ بالجواز، وبالتالي ففي المسألة قولان، حتى رقَّ الدِّين بعد ذلك ولان، ويُعرض عن مئاتِ العلماءِ القائلينَ بالتَّحْرِيْمِ، بل وبالنَّصِ الشَّرعِيِّ الصحيحِ الدَّالِ على حرمتِهِ.
قانون المجاهرة لا يقول للناس عاقروا السيئات في بيوتكم، بل يقول لهم: هلموا إلى محافل عامة مفتوحة، واجتمعوا جميعًا ثم اقترفوا ما أنتم مقترفون.
يدعوك قانون المجاهرة إلى أن تفقد إحساسك بالذنب حتى يتآكل في صدرك، ثم يكون معروفًا لديك، ومن ينكره فإنه يستحق الإنكار عليه.
إنه قانون يتلمع بالحريات ولا يسمح بمعارضته، ولسان حالهم ومقالهم من لا يريد المجاهرة فليلزم بيته وداره.
عباد الله: إِذَا راجتْ المنكراتُ علانية، وعزَّ سوقها، وتعطَّل النكير، وخَفَتَ صوتُه كَثُرَ الْمُتَلَصِّصُونَ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَالْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى الْحُرُمَاتِ، وَرَاجَتْ ثَقَافَةُ التَّنَكُّسِ الْأَخْلَاقِيِّ، والتطاول على الدِّين، ووَيْلٌ يومئذ لِلْأَخْيَارِ مِنَ الْفُجَّارِ، وَوَيْلٌ لِلصَّالِحِينَ مِنْ سَفَهِ الْجَاهِلِينَ، وَانْتَظِر حِيْنَها وبَعْدَهَا العُقُوبَةَ أيًّا كان نوعها؛ من أزماتٍ اقتصاديةٍ، أو شيوعٍ للظلم، أو حصولٍ للفرقةِ والتنافرِ والتباغض والتدابر، (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)[الأنعام:65]؛ كم مرَّت رياح المنكرات على بلاد فأفسدتها ثم أفقرتها؛ فما أغنت عنهم مناظر التفسخ والاختلاط من شيء، وما جلبت لهم إلا فساد الأخلاق والقيم!
عباد الله: وإذا كانَ قَدَرٌ في كل مجتمعِ أنْ تَظْهَرَ فيه المنكراتِ وتُسْتَعْلَنَ؛ فمن الواجب الشرعي الذي لا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ إلَّا به أنْ يُعْلَنَ إنكاره صراحة؛ إبراءً للذمَّة وإعذارًا عند الله.
إذا وُجِدَ المنكرُ وارتفعَ فالواجبُ على كلِّ مسلمِ محبٍّ لدينه، غيورٍ على مجتمعهِ، أن يكونَ موظَّفَ حِسْبَةٍ، وأن يستجيب لله، فيكون من أولي البقية الذين ينهون عن السوء، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله) ([آلعمران:110].
أخي الكريم: يا من رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا: استجمع معنا القلب لهذا الخطاب الإنذاري المحمدي لأمته حال ظهور المنكرات؛ فلْنَسْتَشْعر جميعًا أننا نحن المخاطبون من نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ثم لننظر بعدها مدى استجابتنا لها؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال:24].
أخي الحبيب: حدثنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ للهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ).
وحدثنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذَّب الله الخاصة والعامة".
وحدثنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من رأى منكُم منكرًا فلْيُغَيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"؛ فتألمك أخي المبارك لرؤية المنكر دليل الإيمان، فإياك إياك أن يزول منك هذا الشعور، فليس وراء إنكار القلب مثقال ذرة من إيمان.
فحدِّد موقفك من هذا التغيير، ولا تحتقر النصيحة بخطاب أو مقال، أو بمشافهة أو رسالة جوال، ويكفي أنك قدمت بعد أن علمت، ويكفي أنك كنت إيجابيًّا ولم تقل هلك الناس، وفي قديم الزمان قال الحكيم لقمان: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
أما بعد:
فيا أهل الإيمان: وحتى لا تقع المجاهرة فكم نحن بحاجة -عباد الله- أن نتذكر ونذكر أبناءنا وشبابنا مبدأ تعظيم الله في القلوب، وتعظيم شعائره وعدم تهوين المحرمات؛ فما هانت المجاهرة إلا حينما هان الذنب في القلوب.
وبعد الممانعة والمقاطعة؛ فكم نحن بحاجة -أيها الكرام- أن نقدم للمجتمع مشروعات مثيلة يُجاهر فيها بالمباحات والبدائل؛ لتبني وتؤسِّس الخير والفضائل، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)[الرعد:17].
وأخيرًا: ليَعلم كل إنسان أنه عمَّا قريب سيرحل ويذهب، ولكن ستبقى الأعمال والآثار، وسيراها هذا الإنسان مسطورة أمامه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:30].
اللهم صلِّ على محمد...
التعليقات