اقتباس
وبناءً على ذلك: فإنه لا يحق لأحد أن يحرِّم شيئًا من طيبات الأرض على الناس إلا بدليل شرعي قاطع، لا يتطرق إليه الاحتمال؛ إذ أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل بالحظر، وما دام لا دليل فلا حظر ولا تحريم، وذلك على عكس القاعدة في العبادات...
والحق أن "الإباحة" أو "المباح" هو قسم واحد من أقسام الحكم التكليفي، إذ ينقسم الحكم الشرعي التكليفي إلى خمسة أنواع: الأول: الإيجاب أو الواجب أو الفرض، والثاني: الندب أو الاستحباب أو السنة، والثالث: التحريم، والرابع: الكراهة، أما الخامس: فهو الإباحة التي تكلمنا عنها. فالواجب: هو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا، كقوله -تعالى-: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 43]، وفيه إيجاب الصلاة وإيجاب الزكاة. والمندوب: ما طلب الشارع فعله طلبًا غير جازم، كنوافل الصلاة ونوافل الصيام. والمحرَّم: ما طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا، وذلك مثل قول الله -عز وجل-: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء: 32]، وفيه حرمة الزنا، وقوله -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء: 29]، وفيه حرمة قتل النفس.
والمكروه: هو ما طلب الشارع تركه لا على وجه الإلزام والجزم، كقول الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101]، ومن المكروهات: تغميض العينين أو رفع العينين إلى السماء في الصلاة... وأما المباح -والذي عنه كلامنا-: فهو ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته، أو هو: ما استوى فعله وتركه في نظر الشارع، أو هو ما خيَّر الشارعُ المكلَّفَ بين فعله وتركه... ومن أساليب الإباحة: تصريح الشارع بحل الشيء، مثل قول الله -عز وجل-: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) [البقرة: 275]، وقوله -سبحانه وتعالى-: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) [المائدة: 5]. ومن أساليبها: نص الشارع على نفي الإثم أو الحرج أو الجناح عن فاعلها: فنفي الإثم كقوله -تعالى-: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة: 173]، ونفي الحرج كقوله -سبحانه-: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور: 61]، ونفي الجناح كقوله -عز من قائل-: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) [النور: 29]...
وبناءً على ذلك: فإنه لا يحق لأحد أن يحرِّم شيئًا من طيبات الأرض على الناس إلا بدليل شرعي قاطع، لا يتطرق إليه الاحتمال؛ إذ أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل بالحظر، وما دام لا دليل فلا حظر ولا تحريم، وذلك على عكس القاعدة في العبادات؛ فإن القاعدة فيها هي الحظر والمنع ما لم يرد دليل على المشروعية. والمستشعر المتأمل للفظة: "لكم" في قول الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]، وفي قوله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) [البقرة: 29]، وفي أمثالهما من الآيات يحس بتلك المعاني التي نكررها ونؤكدها؛ أن الحلال هو الأصل، وأن الحرام هو الاستثناء، كل المطعومات حلال مباحة إلا ما جاء على حرمته دليل، يقول الخازن في قوله -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) [الأعراف: 31]: "وفي الآية دليل على أن جميع المطعومات والمشروبات حلال إلا ما خصه الشرع دليل في التحريم؛ لأن الأصل في جميع الأشياء الإباحة إلا ما حظره الشارع وثبت تحريمه بدليل منفصل" (تفسير الخازن). وليس المطعومات والمشروبات فقط، بل كل متاع الدنيا وكل زينتها وملذاتها كذلك، يقول البيضاوي في قوله -تعالى-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...) [الأعراف: 32]: "وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة، لأن الاستفهام في: "من" للإنكار" (تفسير البيضاوي). وهذا الطاهر ابن عاشور يقول: "أخذوا من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا): أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها؛ لأنه جعل ما في الأرض مخلوقًا لأجلنا وامتن بذلك علينا" (تفسير التحرير والتنوير)، وعلى نفس الآية علَّق القاسمي قائلًا: "وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها، مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله: "جميعًا" أقوى دلالة على هذا" (تفسير القاسمي).
ومما ينبغي أن ننبه عليه في هذا المقام أن المباح يمكن أن تعتريه الأحكام التكليفية جميعها، وبالمثال يتضح المقال، فالنوم -مثلًا- في الأصل من المباحات، ولكن قد تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة لملابسات تحيط به، فيكون مباحًا أو مستحبًا أو واجبًا أو مكروهًا أو حرامًا، ففي الموسوعة الفقهية الكويتية: "وقد تعتري النوم الأحكام التكليفية لأسباب خارجية تتصل به: فيكون واجبًا أو مستحبًا، أو حرامًا، أو مكروهًا، فالنوم الواجب: هو ما يستطيع المرء به أداء واجب ديني أو دنيوي، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والنوم المستحب: هو نوم من نعس في صلاته أو قراءته للقرآن ونحوهما، فيستحب أن ينام حتى يدري ما يقول أو يفعل، ومن النوم المستحب القيلولة في وسط النهار، والنوم الحرام هو النوم بعد دخول وقت الصلاة وهو يعلم أنه يستغرق في النوم الوقت كله، أو ينام مع ضيق الوقت، ويكون النوم مكروهًا في مواطن منها: النوم بعد صلاة العصر، والنوم أمام المصلين، والصف الأول، أو المحراب، والنوم على سطح ليس له جدار يمنعه من السقوط..." (الموسوعة الفقهية الكويتية، الصادر عن وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت).
وما يقال عن النوم يقال عن الزواج، فيكون الزواج واجبًا على المستطيع الذي تاقت نفسه إليه ويخشي الوقوع في الزنا... ويكون مستحبًا للمستطيع الذي تاقت نفسه إليه، لكنه يأمن على نفسه العنت... ويكون محرمًا على من لم تتق نفسه إليه، وليس لديه القدرة عليه، وتيقن أنه إن تزوج لن يستطيع أداء حق الزوجة من النفقة والوطء... ويكون مكروهًا إن علم أنه سيخل بحق الزوجة لكنه إخلال قليل لا يرقى لمرتبة الضرر... فإذا انتفت الدواعي إليه وانتفت الموانع منه صار مباحًا. وما هذان إلا مثالان، وإلا فهي قاعدة عامة أن كل أمر مباح قد تعتريه الأحكام كلها تبعًا للظروف والأوضاع والملابسات التي تحيط به.
ومع أن الأصل في العمل المباح أنه لا يتعلق بفعله ولا بتركه ثواب ولا عقاب، إلا أنه يتحول بالنية الصالحة إلى قربة يؤجر صاحبها عليها، وعلى هذا المعنى وردت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-، ومنها ما يلي: النفقة على العيال بالنية عبادة: فعن أبي مسعود البدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبها، كانت له صدقة" (متفق عليه)... وإطعام الزوجة عبادة: فعن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك" (متفق عليه)... وإتيان الزوجة مجامعًا بالنية عبادة: فعن أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (مسلم). وفي الجملة: فكل أمر من المباحات يحتسب فيه المسلم نية صالحة أصبح طاعة من الطاعات مما يؤجر عليه، فعن عمر بن سعد، عن أبيه سعد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه" (أحمد، وصححه الألباني).
وإن الناظر المتأمل في المباحات والمحرمات يجد أن المحرمات قليلة معدودة محصورة، أما باقي الأشياء فكلها حلال وكلها مباح وكلها جائز، وبالمثال -أيضًا- يتضح المقال، ففي مجال الطعام والشراب فقد حصر القرآن المحرَّم منها في قوله: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [الأنعام: 145]، وفي الاعتقادات والمعاملات يقول -تعالى-: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [الأنعام: 151]...
وهكذا الأمر دائمًا؛ المحرمات قليلة معدودة والمباحات كثيرة لا تنحصر. وإنما أعدت هذه الحقيقة الآن لأقول: فيا عجبًا لمن زهد في الحلال الطيب الكثير، وحامت نفسه حول الحرام الخبيث القذر! فيا متجاوزًا الحلال وواقعًا في الحرام: إن لك في المباحات مندوحة عن الحرام، أحل الله لك جميع الطيبات وهي كثيرة لا تنحصر، وحرَّم عليك الخبائث وهي قليلة معدودة محصورة، فما لك فاحذر تزيين الشيطان لك وخداعه إياك أن يزهدك في الكثير الحلال ويمنيك بالحرام!
ولأن هذا الأمر كبير متعدد الجوانب، وهو على أهمية عظيمة، فقد رأينا في ملتقى الخطباء أن نقيم له ملفًا علميًا خاصًا به، هو أشبه بالصرح الذي قام على أعمدة أربعة هي محاوره؛ فأما المحور الأول فقد خصصناه لتعريف المباح وما يشابهه وتعداد أقسامه وطرق ثبوته، وأما المحور الثاني فهو أعم إذ يدور حول الأحكام التكليفية كلها وعلاقتها بالمباح، أما المحور الثالث فقد عقدناه حول موضوع مهم خطير، ويكاد أن يكون موضوع الساعة، وهو تقييد المباح؛ هل يجوز؟ وإن كان جائزًا فمن له الحق في تقييده، وإلى أي مدى يجوز له أن يقيده، وهل كل المباحات قابلة للتقييد... وكان المحور الرابع الذي جمعنا فيه المراجع والكتب التي تؤصل لكل ما ذُكر من المسائل...
هذا، وأملنا في الله -عز وجل- أن ينفع به جامعه ومراجعه وكل من عاون أو ساهم فيه، وأن ينفع به كذلك متصفحه وقارئه... والله من وراء القصد عليم، وهو نعم المولى ونعم النصير.
التعليقات