عناصر الخطبة
1/ أهمية الترويح والترفيه 2/ الترفيه عند الصغار 3/ الترفيه عند الكبار 4/ التعبد بالترويح 5/ الترويح المحرم 6/ من أحكام الترويحاقتباس
إذن؛ ليس العتبُ على مَن أراح نفسه وأجَمَّها بالمباح لتنشط للعبادة، إنما العتب على مَن يجعل اللهو واللعب هو الأساس في حياته، وإليه تنصرف مُجْمَلُ أوقاته.
أما بعد: نحن في الإجازة؛ لذا يُقبل كثير من الناس على الترويح والترفيه، بل قد لا يفهم بعض الناس من الإجازة إلا هذا المعنى.
والمتأمل لحياة الناس المليئة بالشواغل والصوارف والضغوط النفسية والاجتماعية، يدرك أنها ولَّدَت شيئاً من النَّهم واللهث غير المعتاد تجاه الترويح والترفيه.
ولا شك -عباد الله- أن الترويحَ عن النفوس، وإدخالَ السرور عليها، والتنفيسَ عنها، أمرٌ فطري لا بد منه.
فعن سِمَاك بن حرب قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ، فَكَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ، قَلِيلَ الضَّحِكِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ، وَأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِهِمْ فَيَضْحَكُونَ، وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ. رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.
وفي صحيح مسلم أن حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا ذَاكَ؟" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه! لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً".
قال الأُبّي رحمه الله : ومعنى قوله: "يا حنظلة، ساعة وساعة" قال العلماء: يعني لا يكون الرجل منافقا بأن يكون في وقتٍ على الحضور، وفي وقتٍ على الفتور، ففي ساعة الحضور تؤدون حقوق ربكم، وفي ساعة الفتور تقضون حظوظ أنفسكم، يعني في المباحات. اهـ
عباد الله: وإذا تحدثنا عن الأطفال، فإن اللعب والترفيه يعد أمراً أساسياً في حياتهم، فقد فطرهم الله -سبحانه وتعالى- على محبة اللعب، ولم يلزمهم من الأعمال والتكاليف ما ألزم الكبار.
وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي.
ومن هنا أجاز العلماء صور وتماثيل العرائس في لعب البنات، وفيها مصلحة تعويد الفتاة على مشاعر الأمومة ورعاية الولد.
وفي الصحيحين، عن عائشة في قصة بناء النبي -صلى الله عليه وسلم- بها، قالت: فَأَتَتْنِي أُمِّي وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ، وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي، قالت: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ.
ولما كبرت عائشة -رضي الله عنها- سابقها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وستَرَها وهي تنظر للحبشة وهم يلعبون في المسجد.
وكان عليه الصلاة والسلام يلاعب الحسن والحسين، وربما ارتحلاه فصَعَدا فوق ظهره الشريف وهو يصلي.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إني ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا بُغِي منه حاجة وجد رجلاً.
وقال أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي: العاقل إذا خلا بزوجاته وإمائه، لاعَبَ ومازَحَ وهازل، يعطي للزوجة والنفس حقهما، وإن خلا بأطفاله خرج في صورة طفل، وهجر الجدّ في بعض الوقت. اهـ.
وإذا كان للصغار ترويح، فإن للكبار ترويحاً يناسب حالهم، كما كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم مزاح أيضا مع بعضهم وخصوصا في الأسفار، وكانوا يتبادحون -أي يترامون- بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. وقال علي -رضي الله عنه-: روحوا القلوب ساعة، فإنها إذا أكرهت عميت.
وكان بعض العلماء يروحون عن أنفسهم بالشعر والقصص كما ورد عن ابن عباس، وكان ابن سيرين والأعمش وغيرهم يداعبون أصحابهم بالمزاح المباح بينهم لكي ينشطوا في العلم.
ونقل ابن عبد البر -رحمه الله- عن أبي الدرداء أنه قال: إني لأستجمّ نفسي بالشيء من اللهو غير المحرم، فيكون أقوى لها على الحق.
إذن؛ ليس العتبُ على مَن أراح نفسه وأجَمَّها بالمباح لتنشط للعبادة، إنما العتب على مَن يجعل اللهو واللعب هو الأساس في حياته، وإليه تنصرف مُجْمَلُ أوقاته.
عباد الله: وإذا كان الترويح عن النفس أمراً فطرياً مباحاً للنفوس، فإنه يتحول إلى عبادة وقربة، متى اقترنت به نية صالحة، أو ترتبت عليه مصلحة شرعية.
فقد روى الترمذي وغيره عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ".
قال ابن العربي رحمه الله: ليس مراده بقوله: (باطل) أي أنه حرام، وإنما يريد به أنه عارٍ من الثواب. اهـ.
هذا في اللهو المباح، وأما اللهو المحرم فقد قال الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه: "باب كل لهو باطل، إذا أشغله عن طاعة الله" قال ابن حجر: أي كمن التهى بشيء من الأشياء مطلقاً، سواء كان مأذونا في فعله أو منهياً عنه، كمن اشتغل بصلاة نافلة، أو بتلاوة، أو ذكر، أو تفكر في معاني القرآن مثلاً، حتى خرج وقت الصلاة المفروضة عمداً، فإنه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغب فيها، المطلوب فعلها، فكيف حال ما دونها؟. اهـ.
وقد قال الله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَـارَةِ وَللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ) [الجمعة:11].
وإذا كان هذا هو مفهوم اللهو والترويح في الإسلام، فإننا ندرك البون الشاسع بينه وبين كثير من صور اللهو والترويح في عالم اليوم، مما يوجب النظر في موافقتها للشرع، ومدى الإفادة منها في تحقيق المصالح للفرد والمجتمع، في توازن وتكامل، وعدم مزاحمة للبناء والعمل الجاد، وبعدٍ عن الاسترخاء الفكري، وهشاشة الضابط القيمي.
لقد ازدهرت صناعة الترفيه اليوم، وتفنن الكفار في صناعتها، حتى تحولت إلى أصل في الحياة بعد أن كانت أمراً تكميلياً يؤخذ منه بقدر، حتى وصلت مرتبات بعض مهندسي الترفيه وصانعي الألعاب ومخترعي ألعاب البلاي ستيشن، في السنة إلى نحو من 50 مليون دولار سنوياً للواحد! بينما لا تصل المرتبات السنوية لأكبر الأطباء والمفكرين والمخترعين والباحثين إلى واحد في المائة من هذه الأرقام!.
ومن العجيب أن ترى أهل الكفر صناع الترفيه، ينشطون ويتعبون في أعمالهم ووظائفهم ومصانعهم وأمور دنياهم، ثم يقضون بقية يومهم في لعب ولهو ونوم وشهوات، بينما يشكو الكثير من المسلمين من البطالة والكسل وضياع الأوقات في النهار، ثم يمضي بقية يومه في اللعب واللهو، فلا نحن أخذنا بجد الكفار في طلب الدنيا، ولا نحن أخذنا بجد أسلافنا في طلب الدنيا والآخرة.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، إنه على كل شيء قدير، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
عباد الله، وإذا كانت العطلة الصيفية استراحة بين فترتين دراسيتين، فإنه لا بد فيها لأبنائنا من اللعب والترفيه، وهنا يرد سؤال هام: لماذا يظن كثير من الناس أن اللعب والترفيه لا بد أن يكون بمعزل عن الفائدة؟ هل هناك تعارض بين الترفيه والفائدة، بين اللعب والتربية؟.
الجواب: لا. لقد أثبتت التجارب والبحوث أن أفضل أنواع الترفيه للطفل هو ما حقق المتعة والفائدة معاً، الفائدة بتنمية قدرات العقل، أو تربية الروح وتهذيب الخلق، أو بناء الجسم.
ولهذا، كان من أهم مجالات الترفيه الألعاب التعليمية، أو التربوية، أو الحركية، التي لا تقتصر فائدتها على الترفيه فقط.
ومن مجالات الترفيه في الإجازة على -سبيل المثال- الاشتراك في النوادي الصيفية، أو نوادي الرياضات المفيدة، كالسباحة والرماية والفروسية كألعاب الدفاع عن النفس التايكندو والكراتيه وغيرها، ومن الأنشطة الترويحية المفيدة مطالعة الكتب ومجلات الأطفال، وقراءة القصص الهادفة، والسفر والرحلات والمفيدة.
ومن الترفيه المطلوب اللعب المباح بالألعاب المختلفة مع مراعاة الضوابط الشرعية. ما الذي يجوز من الألعاب والنشاطات الترفيهية؟ لا يمكن أن نعدد في هذا المقام ما يباح من الألعاب، فالأصل في الأشياء الإباحة -كما نعلم- إلا ما دل الدليل على تحريمه، وإنما طريقة الشريعة أن نبين المحظورات، وأما ما سواها فهو مباح على الأصل.
وعلى هذا فمما جاء تحريمه في الشريعة -مثلا- ضرب الوجه كما في بعض ألعاب القوى كالملاكمة وغيرها، ومن المحرمات أيضاً الألعاب المشتملة على محظور، كصور محرمة، أو أصوات موسيقية، أو الألعاب التي تشتمل على القمار أو الرهان المحرم، أو شيء من السحر، أو رموز الكفر كالصلبان فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكسر الصليب ويزيله.
ويشترط في اللعب أن لا يصل إلى حد الإسراف وتجاوز الحد الوسط في الإنفاق فيها، وأن لا يكون فيه سخرية أو تنابز بالألقاب، ولا إيذاء لبدن الشخص أو خطورة على نفسه كما يفعله بعضهم من القفز من الارتفاعات الشاهقة، أو المغامرة بالحركات الخطيرة، ولا إضرار بالبهائم كألعاب التحريش بين الديكة، وصراع الأكباش، ومصارعة الثيران.
ومن الضوابط الشرعية العامة والهامة أن لا يكون اللعب صادا عن ذكر الله وعن الصلاة، أومضيعا للفرائض والحقوق، وأن لا يستغرق الوقت أو أكثر الوقت ويضيع الحياة.
عباد الله: ومع انتشار الألعاب الإلكترونية فلا بد من الانتباه لبعض الأفكار الخطيرة في بعضها، من حُب الكفار، وتقديس الصليب، بل ومحاربة المسلمين، وتدمير المساجد والأهداف الإسلامية، وقتال أهل الأرض الأخيار لأهل السماء الأشرار، وبث العقائد الباطلة مثل تناسخ الأرواح، مما يفسد عقائد الأطفال، ناهيك عن التربية على الإجرام والقتل كما في عدد من هذه الألعاب، أو التعري وظهور العورات المكشوفة في بعض الألعاب، بل قد تكون جائزة الفائز بالمرحلة صورة امرأة عارية، أو يحظى اللاعب بتقبيل المرأة له، كما تذكر بعض التقارير.
فلْيَتَّقِ اللهَ الأبُ المسلم، والأم المسلمة، وليكن لعب أولادنا وترويحهم عن أنفسهم بريئاً، سليماً من الآفات الفكرية والخلقية التي تفسد الدين، وتهدم الخلق.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم