عناصر الخطبة
1/من أعظم نعم الله وأظهر مِنَنه 2/أهمية نعمة الماء والأمطار 3/وقفات مع أزمة القحط وقلة الأمطار 4/من أسباب منع الأمطار 5/أهمية صلاة ودعاء الاستسقاء.اقتباس
لقد كان من حكمة الحكيم الخبير الذي يعلم أحوال عباده ويطلع على قلوبهم وأعمالهم: أن ينوّع لهم الأحوال ولا يبقيهم على حال واحدة؛ فيطغوا أو يقنطوا، بل يبتليهم بالسراء والضراء والشدة والرخاء والخصب والجدب؛ لعلهم أن يرجعوا إلى ربهم، فمن لم يتب في حال الرخاء فعساه أن يتوب في حال الشدة...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الله تعالى قد منح عباده منحاً كثيرة، وأسبغ عليهم نعماً غزيرة، منها ما ظهر ومنها ما بطن، (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النحل: 18].
ألا وإن من أعظم نعمه وأظهر مننه: نعمةَ الرزق والكفاية الغذائية التي بها قيام أبدان الكائنات الحية، وبقاء حياتها، من جن وإنس، وحيوان وطير. قال -تعالى-: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[هود: 6]، وقال: (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت: 60].
عباد الله: إن من أعظم نعم الله -تعالى- في الرزق: نعمةَ الماء الذي ينزل من السماء ويدخره الله لعباده في جوف الأرض ليستنبطوه وينتفعوا به إلى حين؛ قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ)[الزمر: 21].
إن هذه النعمة تنزل من عند الله -تعالى- وحده لتغيث عباده، وتذكرهم فضله، فهلا شكروه، ونسبوها إليه دون غيره، قال -تعالى-: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة 68-70].
وعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أنه قال: صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب"(متفق عليه).
إن الماء -معشر المسلمين- هو عنصر الحياة، وسبب البقاء والنماء على هذه الأرض. قال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)[الأنبياء: 30].
فقد أنبت الله به النبات الذي هو قوام حياة الإنسان والحيوان، وأحيا به الأرض بعد موتها، فأصبحت مشرقة بعد جدوبها، مبتهجة بعد عبوسها، متزينة بالاخضرار بعد الاسوداد والكآبة، فبعثت في النفوس الانشراح والارتياح، قال -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الروم: 24]، وقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[فصلت: 39].
وهذه آية تستحق النظر والتأمل، والشكر لواهبها، قال -تعالى-: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)[عبس: 24-32].
أيها المسلمون: لقد كان من حكمة الحكيم الخبير الذي يعلم أحوال عباده ويطلع على قلوبهم وأعمالهم: أن ينوّع لهم الأحوال ولا يبقيهم على حال واحدة؛ فيطغوا أو يقنطوا، بل يبتليهم بالسراء والضراء والشدة والرخاء والخصب والجدب؛ لعلهم أن يرجعوا إلى ربهم، فمن لم يتب في حال الرخاء فعساه أن يتوب في حال الشدة. قال -تعالى-: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء: 35].
وكم من إنسان انتفع بالضراء ما لم ينتفع في السراء، وأفادته المحنة ما لم تفده المنحة.
قد ينعم الله بالبلوى ولو عظمت *** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فلو بقي الإنسان في النعمة دائماً لنسي قدر النعمة وشكرَ المنعم واللجوء إليه، فالنعم قد تبطر بعض الناس وتجعله متكبراً على ربه، فيأتي سوط البلاء ليرد العبد إلى معبوده، والمخلوق إلى خالقه، والمولى إلى سيده. فتصرّفُ الأحوال يعيد الشاردين إلى باب ذي الرحمة والإفضال. قال -تعالى-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)[الشورى: 27].
إننا في هذه الأيام -عباد الله- نعاني أزمات متعددة، ومن هذه الأزمات: أزمة القحط وقلة الأمطار. لقد أصبحت الأرض مكفهرة عابسة، غبراء قاتمة، ترسل للعيون الضيق والحزن، وغدا الجو مشحوناً بالكآبة متشحاً بالأسى، فأضحت النفوس ضيقة كئيبة.
لقد حل بلاء الجدب لكي يظهر العباد افتقارهم إلى ربهم، ويبتهلوا بين يديه، ويعلموا أن ضرهم لا يكشفه عنهم إلا مولاهم، بإظهار فقرهم للغني الحميد. قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر: 15].
وقال -تعالى- في الحديث القدسي: "يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أَهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم"(رواه مسلم).
إن بعض الناس قد لا يدرك هذه البلية؛ لغفلته عن شكر نعمة الغيث النافع، ولظنه أن نفع المطر إنما هو لأهل المواشي والزروع، وسكان البوادي والقفار، ولا يدري أن أكله وشربه وصلاح بيئته قائم على نعمة الأمطار. فلا صلاحَ لعيش الناس في أي مكان كانوا إلا بالمطر، قال -تعالى-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ)[الملك: 30].
أيها الإخوة الكرام: إن الله رحيم بعباده، كريم في عطائه، قادر على غوث خلقه وإزالة بلواهم، لكنه يحب أن يعلمهم أن طاعته سبب كل خير، ومعصيته سبب كل شر.
إن تأخر المطر عن ميعاده، مع شدة الحاجة إليه له أسبابه، فما هي أسباب حبس المطر عنا -يا عباد الله- ونحن في موسمه الذي ينزل فيه؟
لقد انحبس الغيث عن الأرض حينما جفت القلوب من غيث الإيمان، وفاضت بالاعتماد على غير الله، واليقين بمن سواه، ورجاء غيره، ونسيان حقه.
وصارت مملؤة بالأحقاد والحسد، والأضغان والكراهية الممقوتة، والرغبة في الدنيا والحرص عليها، ولو أدى ذلك إلى ترك الدين الحق وخسارة الآخرة.
وحُبِس المطر لأن الألسنة جفت كثيراً عن ذكر الله وشكر نعمة الغيث وآثاره، وأصبحت رطبة بذكر الدنيا، وعبارات اليأس والقنوط، والكلام في أعراض المسلمين أحياء وأمواتًا. قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
وحبس المطر لأن الأرض صارت تشكو إلى ربها تخمتها من ذنوب بني آدم، فبساط المعصية مازال ممدوداً بين الناس فمستقل منه ومستكثر.
ألا وإن من أعظم المعاصي: ظلم العباد بعضهم بعضًا، فكم من دماء تسيل بغير حق، وكم من أعراض تنتهك، وكم من أموال تمتد إليها أيادي الناس بالحرام.
لقد غدت المعاصي أعمالاً شريفة يجاهر بها أهلها ويدعون الناس إليها، وهذا عنوان الهلاك للمجتمعات المسرفة على أنفسها، أو للساكتين عن وعظ المسرفين معذرة إلى الله ولعلهم يرجعون.
حتى لقد تضررت بمعاصي بني آدم الحيوانات فحرمت الغيث الذي ينبت لها رزقها.
قال عكرمة -رحمه الله-: "دواب الأرض وهوامها، حتى الخنافس والعقارب يقولون: مُنعنا القطر بذنوب بني آدم".
وانحبس المطر لأن بعض أرباب الأموال التي وجبت فيها الزكاة لم يؤدوا زكاة أموالهم؛ حرصاً على الدنيا، وضعف يقين بما عند الله من الأجر والعوض.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا"(رواه الطبراني وابن ماجه، وهو حسن).
أليس من الإثم والعيب أن يكون بنو آدم سبب انقطاع الغيث، وتكون البهائم سبب نزوله؟!
وانحبس الغيث لأن الغش والخداع في البيع والشراء كثر واستشرى، وصار ظاهرة من الظواهر التي تقضي على اقتصاد المجتمعات المسلمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذِوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم"(رواه الطبراني وابن ماجه، وهو حسن).
وهذه الآثار كلها واقعة هذه الأيام، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
إخوتي الكرام: إذا أردنا أن يغير الله ما بنا من الشدة واللأواء فلنغير ما بأنفسنا من شر إلى خير ومن معصية إلى طاعة، ومن إعراض عن الله -عز وجل- إلى إقبال عليه.
قال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 53]؛ فلنعمر قلوبنا وحياتنا بالإيمان والتقوى، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
ولنتب إلى الله -تعالى- من جميع ذنوبنا صغيرها وكبيرها، سرها وعلنها ما بيننا منها وبين الله، وما بيننا وبين الناس.
ولنكثر من الاستغفار الصادق بالقلوب والألسنة، قال -تعالى- عن نبيه هود -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ)[هود: 52].
عن الشعبي -رحمه الله- قال: "خرج عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستسقي، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له: ما رأيناك استسقيت! فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)[نوح: 10-12]".
وإذا أردنا المطر النافع فلنؤد حق الله -تعالى- علينا من الواجبات، وترك المحرمات، ولنسارع إلى فعل المستحبات، وترك المكروهات.
عباد الله: إن الغيث المدرار النافع يحصل حينما يكف أصحاب الظلم عن ظلمهم، وأهل الفساد عن فسادهم، وذوو الإجرام عن جرائمهم.
وإذا دفع أرباب الأموال زكاة أموالهم طيبة بها نفوسهم، من غير إخفاء للحق عليهم أو تحايل فيه، وهم بأداء هذا الحق رابحون الخيرَ في الدنيا والآخرة غير خاسرين.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبدالله، ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة فقال له: يا عبدالله، لِمَ تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان، لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثه"(رواه مسلم).
وعن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس"، أو يقول: "حتى يحكم بين الناس"(رواه أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم، وهو صحيح).
قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء ولو كعكة ولو بصلة.
فانظروا -يا أهل الأموال- ماذا يلاقي باذل الخير في سبل الخير من الجزاء الحسن والعوض الكريم.
عباد الله: إن المطر يسقي البلاد التي تعيش على الأمانة في البيع والشراء، ويعيش أفرادها على الإخاء والمحبة، وتجمع كلمتها على الحق، فلنكن كذلك؛ حتى يغيثنا ربنا.
وعلينا أن نوقن بأن الله قريب مجيب سميع كريم، فلا نيأس ولا نقنط، وإن تعاظم البلاء، فما ابتلانا إلا ليسمع دعاءنا، ويرى تضرعنا ورجوعنا إليه وحده.
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشورى: 28].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم القريب، الرحيم المجيب، مغيث المستغيثين، وراحم المضطرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون: لقد شرع الله لعباده حين الجدب والقحط أن يستسقوا ربهم، إما بالدعاء في مساجدهم وغيرها، وإما بالخروج للمصلى لصلاة ركعتين، ودعاء وتضرع واستغفار في خطبة تلي الصلاة، على هيئة مفتقرة متخشعة عليها سيما التواضع والتضرع؛ لعل الله أن يرحم عباده وقد جاءوا إليه على هذه الحال المستكينة داعين محتاجين، ناوين العودة إلى بيوتهم من حال سيئة إلى حال حسنة، عازمين على التوبة والإنابة، والإقبال على الطاعة وهجر المعصية.
وقد فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلتا الكيفيتين.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً دخل المسجد يوم جمعة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا، قال: فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا"، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا". أي: أسبوعًا.
ففي هذا الحديث بيان أن الاستسقاء حصل بالدعاء على المنبر.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد"(رواه أحمد وابن حبان البيهقي والترمذي والنسائي، وهو حسن).
وفي هذا الحديث بيان الخروج إلى المصلى للاستسقاء.
عباد الله: من هذا المكان سنطلب الله -تعالى- السقيا؛ لعله أن يرحمنا ويكرمنا بإجابة دعائنا.
فاللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الكريم ونحن المحتاجون، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، يا مجيب دعاء المضطرين، ويا كاشف كرب المكروبين، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تحبس عنا بذنوبنا رحمتك.
اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت.
اللهم اسقنا غيثاً مغيثا، سحاً غدقا، مَريعاً طبقا، عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضار.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم تحيي به البلاد، وترحم به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته قوة على طاعتك، وبلاغاً إلى حين.
اللهم إن بالعباد والبلاد من الضر واللأواء والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، فاكشف عنا ضرنا وبلوانا، وأجب دعاءنا وارحم شكوانا.
اللهم ارحم الأطفال الرضع والشيوخ الركع والبهائم الرتع.
اللهم نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا.
اللهم ارفع عنا الجَهد والجوع والخوف، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت.
اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، ووطنا بالخيرات والأمان.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجمع كلمتنا على الحق والهدى، يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على عباده المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
التعليقات