عناصر الخطبة
1/ فضيلة الصمت 2/ عِظَمُ شأن الكلمة 3/ وجوب حفظ اللسان 4/ من آداب الكلام 5/ المرء مخبوء تحت لسانه 6/ مجالاتٌ للقول الطيب وأخرى للخبيثاهداف الخطبة
اقتباس
الكلمةُ الطيّبةُ -عباد الله- تغسلُ الضغائنَ المستكنةَ في الجوارح، وتجمعُ الأفئدةَ، وتجلبُ المودّةَ، ولكم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُسوةٌ حسنةٌ؛ فقد قال: "لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيئًا، وَلَو أنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِقٍ" رواه مسلم. قال عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه-: "البرُّ شيءٌ هيّنٌ؛ وجهٌ طَليقٌ، وكلامٌ ليّنٌ".
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله؛ فإنّ تقواه أفضلُ زاد، وأحسَنُ عاقبة في معاد، (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين) [هود:49].
أيّها المسلمون: الكلمةُ عنوان المرءِ، تُتَرجِم عن مُستَودعاتِ صَدره، وتبرهِن على مكنوناتِ قَلبِه، وتدَلِّل على أصله وعقلِه، وتنبئ عن إيمانه أو نفاقه.
ها هو يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يطلبه الملك بعد أن سمع من النسوة تبرئته: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف:54]، فلما كلمه، وسمع منطقه، وعلم من كلامه صدقه ونصحه ورجاحة عقله، قال: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)، (فَلَمَّا كَلَّمَهُ).
وكما يقال: منطق الرجل أدل عليه من هيئته ولباسه.
وكاين ترى من صامتٍ لك مُعجب *** زيـادته أم نقصـه في التكــلمِ
لســان الفتى نصــفٌ ونصـفٌ فـؤاده *** فلم يبق إلا صورةُ اللحم والدمِ
وقد قيل: فمُ العاقِل ملجَم، إذا همَّ بالكلام أحجَم، وفَم الجاهِلِ مطلَق، كلّ ما شاء أطلَق.
والعاقِلُ -عباد الله- من لزِم الصمت إلا عن حقٍّ يوضِحه، أو باطلٍ يَدحضه، أو خيرٍ ينشُرُه، أو علمٍ يذكره، أو فضلٍ يشكره، فعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخرِ فليقل خيرًا أو ليصمُت" متفق عليه.
وبِتركِ الفضول تكمُل العقول، والخَرسُ خيرٌ من التفوُّه بالباطل، والبكمُ خيرٌ منَ النّطقِ بالكذِب والزّور، وشرّ الناس مائِلٌ بمقاله مميلٌ بلسانِه مُبطِل بكلامِه، وشرّ الكلام ما خالَفَ كتابَ الله وسنّةَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- ممّا تنبو عن قبولِه الطِّباع، وتتجافى عن استِماعه الأسماع.
أيّها المسلمون: عثراتُ القولِ طريقُ الندَم، والمنطِق الفاسِد الذي لا نِظام له ولا خِطام عنوانُ الحرمان ودليل الخذلان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ ما يتبيَّن فيها يزِلّ بها في النارِ أبعدَ ما بين المشرق والمغرب" متفق عليه، وعند الترمذيّ: "إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوِي بها سبعينَ خريفًا في النار"، وعن بلال بن الحارث -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنّ أحدَكم ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه، وإنّ أحدَكم ليتكلَّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطَه إلى يوم يلقاه" أخرجه الترمذي وابن ماجة.
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلَّم به؟! فقال: "ثكِلتكَ أمّك يا معاذ! وهل يكُبّ الناسَ في النار على وجوهِهم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!" أخرجه الترمذي.
أيّها المسلمون: الكلمة الطيّبة مغنَم، والكلِمة الخبيثة مأثم، وقد ضرَب الله لهما مثلاً وشبَّه لهما شبهًا فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم:25-26].
أيُّها الناس: للألفاظِ والكلماتِ دلائلُها ومعانيها التي تحملُ في طيَّاتها الخير فيُجازى عليها الإنسانُ بالإحسان إحسانًا، أو تحملُ في طيَّاتها الشرَّ والفُحْشَ والبذاءَ فيُجازى عليها بالسيئات المضَاعَفَةِ إلى يوم المعاد، وإنَّ لجارحة اللسانِ أعظم الأثرِ في حياةِ المسلمِ دينًا ودنيا، ربطَ اللهُ عليها الفلاحَ، وعلَّقَ عليها السعادةَ أو الشقاوةَ في العاجلِ والآجلِ، ورتَّبَ عليها الجزاءَ والعقابَ.
بلكمةٍ واحدةٍ يدخلُ العبدُ في الدين والملَّة؛ ألا وهي كلمةُ التوحيدِ الخالصِ: "لا إله إلاّ الله محمدٌ رسولُ الله"، وبكلمةٍ واحدةٍ يتبوّأُ العبدُ في الجنة غُرفًا من فوقها غُرفٌ مبنيّةٌ تجري من تحتها الأنهار، وبكلمةٍ أُخرى يزلُّ العبدُ في النار أبعدَ ممّا بين المشرق والمغرب! ولَرُبَّ كلمةٍ أوردت صاحبَها المواردَ، فندمَ عليها ولاتَ ساعةَ مندم!.
إِنَّ الكلمات -عباد الله- هي الترجمانُ المعبِّرُ عن مستودعات الضمائر، والكاشفُ عن مكنوناتِ السرائرِ، فإِذا أردت أن تستدل على ما في قلب الإنسان فانظر إلى كلماته وألفاظه، فإنَّها الدليل على ما يكنُّه في قلبه من خير أو شرٍّ، شاء أم أبى، قال الإمام يحيى بن معاذٍ التَّابعيُّ: "القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مصارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلَّم، فإنَّ لسانه يغترف لك مما في قلبه".
الكلمات التي تنطق بها الألسن، وتتحرك بها الشفاه، لها شأنٌ، وأي شأن! فكم من كلمة أفرحت وأخرى أحزنت، وكم من كلمة فرقت وأخرى جمعت، وكم من كلمة أقامت وغيرها هدمت، وكم من كلمة أضحكت وأخرى أبكت، وكم من كلمة انشرح لها الصدر وأنس بها الفؤاد وأحس بسببها سعة الدنيا وأخرى انقبضت لها النفس واستوحشها القلب وألقت قائلها أو سامعها في ضيق أو ضنك، فضاقت عليه الدنيا على رحابتها والأرض على سعتها! وكم من كلمة واست جروحاً وأخرى نكأت وأحدثت حروقاً!.
ولئن كان المسلم ينزه نفسه عن شغل هذا اللسان بالكلمة الباطلة، فإنه يجب عليه -أيضاً- أن ينزه سمعه عن استماع الكلمة الباطلة؛ انطلاقاً من قول الله -جل وعلا-: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55].
وإنَّ من الأمور المقرَّرة المشاهدة في حياة الناس وواقعهم ما ذكره العلاَّمةُ ابنُ القيِّم الجوزيَّة -رحمه الله- من أنَّ الإنسان يهون عليه التحفُّظُ والاحتراز عن كثيرٍ من أفعال الحرام، من الظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، ويصعب عليه التحفُّظ من حركة لسانه؛ حتَّى إنَّك لترى الرجل يُشار إليه بالدين والعبادة والزهد ونحوها من صفات الخير ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ويتقلَّبُ في المحرمَّات، لا يبالي بما يقول، يتكلَّم بالكلمات من سخط الله -تعالى- لا يلقي لها بالاً، يهوي بالكلمة الواحدة في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، والله المستعان.
قال بعضُ السلف: "لا تجدُ شيئًا من البرِّ يتبعُه البرُّ كلُّه غيرَ اللسان؛ فإنَّكَ تجدُ الرجلَ يصومُ النهارَ ويُفطرُ على الحرامِ، ويقومُ الليلَ ويشهدُ الزورَ بالنهار، ولكنَّكَ لا تجدُه لا يتكلَّمَ إلاَّ بحقٍّ فيُخالفُ ذلك عملُه أبدًا".
ولأجل هذا -أيُّها الناسُ- كان من أولى الاهتمامات في حياة المسلم حفظُ لسانه إلاّ من الخير، وإحسان كلامه، وإطابتُهُ، وحفظُهُ عَنْ قَوْلِ الشَّرِّ.
وإذا أنعم اللهُ -سبحانه وتعالى- على العبد بصدق اللهجة، وطيب الحديث، وجمال المنطق؛ شَرُفَ قدرُهُ، وحُمِدت سيرتُهُ، وحَسُنَت عاقبتُهُ، فملكَ قلوبَ الناس، وأمنوه على أقوالِهم ووصاياهم وأماناتِهم. من صَلحَ منطقُ لسانه وطاب ظهرَ ذلك على سائرِ عملهِ، فأكسبَه حُسْنًا وأجرًا وقبولاً، ومن فسَد منطقُهُ وخَبُثَ انعكس أثرُه على سائر عمله.
الكلامُ هو حصادُ اللسان، ولذا كان لِزَامًا على المرءِ العاقل أن يكون كلامُه فيما يعودُ عليه بالنفع ويُجنّبه الضّررَ، وأن يحترسَ من زَلَلِهِ، وأن يحذرَ من فضولِه بالإمساكِ عن كثيرِه والإقلالِ منه إلاَّ ما كان في طاعة الله -سبحانه- من تهليلٍ وتحميدٍ وذكرٍ وتسبيحٍ ودعاءٍ واستغفارٍ؛ فإنَّ الإكثارَ منه هو النجاةُ.
جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: دُلَّني على عَملٍ يُدخلُني الجَنَّةَ، قَالَ: "أَطْعِمِ الجَائعَ، وَاسْقِ الظَمآنَ، وأمُر بالمعروفِ، وَانْهَ عن المنكرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ فَكُفَّ لِسَانَكَ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ" رواه ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ جيّدٍ.
وعند الترمذيِّ بسندٍ صحيحٍ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاء كلَّها تكفِّرُ اللِّسان، فتقول: اتَّق الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".
أيها الإخوة في الله: لقد ذكر أهل العلم آدابا للكلام، فمن ذلك: اختيارُ الكلمات والألفاظ التي يتكلَّمُ بها المرءُ من أطايبِ الكَلاَمِ وأنفسِهِ، والبُعْد عن البَذَاءَةِ والفُحْشِ في القولِ والمنطقِ؛ قال -تعالى-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ولم يقل الحسنى أو الحسن، بل (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53].
فأحقُّ ما طهَّر الإنسانُ لسانه؛ لأنَّ اللسانَ عنوانُ صاحبِه، يُترجمُ عن مجهوله، ويُبرهنُ عن محصوله، فهو وزيرُه الذي يُستدلُّ به على رجحان عقله وفصاحة لسانه، حتى لقد قال بعضُ السلف: "ما الإنسانُ لولا اللسانُ؟! هل كان إلاّ بهيمةً مهملةً أو صورةً مُمثّلةً؟!".
وإنَّ لسانَ المرءِ ما لم تكن له *** حَصَاةٌ على عَوراتِه لَدليـلُ
وإنَّ عُظَمَاءَ الخلقِ لَهم الذين يَزِنُونَ ألفاظهم، ويتخيَّرون أطايب الكلام وأحسنه في عباراتهم، ويلتزمون في أحوالهم جميعًا أن لاّ تبدُرَ منهم كلمةٌ قبيحةٌ، أو لفظةٌ سائبةٌ مغلوطةٌ أو مكذوبةٌ، فيكونون بها سفهاءَ أو متطاولين على غيرهم؛ لأنَّ الكلمةَ يملكها الإنسان ما لم يتكلَّم بها، فإذا خرجت من فمه ملكته.
وإنَّ من الناس -عباد الله- من يعيشُ صفيقَ الوجِه، شَرِسَ الطبع، مُنْتِنَ الفَمِ، خبيثَ اللسانِ، لا يحجُزُه عن كلامِ السوءِ حاجزٌ، ولا يعرفُ للحُسْنِ سبيلاً، لسانُه مِهْذارٌ، وفمُه ثَرْثَارٌ، تَعوَّدَ على السِّبَابِ والشَّتْمِ واللَّعْنِ والفُحْشِ والبذَاءِ، لا يسلمُ منه قريب ولا بعيد، ولا صغيرٌ ولا كبيرٌ، حتى إنَّ الكلمةَ الحَسَنَة لو صَدرت منه لعُدَّت من الغريبِ النادرِ في حياته.
ولقد قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِه وَيَدِه" رواه مسلم، وفي الأثر: "ما أُوتيَ رجلٌ شرًّا من فضلٍ في لسانٍ". قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: استأذنَ رجلٌ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ هُو!"، فلَّما دخلَ انبسطَ إليه وألاَنَ له القولَ، فلّما خرجَ قلتُ: يا رسولَ الله، حينَ سمعتَ الرجلَ قلتَ كذا وكذا، ثم انطلقتَ في وجهه وانبسطتَ إليه! فقال: "يَا عَائشَةُ، مَتَى عَهِدتِني فَاحِشًا؟! إنَّ مِن شَرِّ الناسِ عِنْدَ اللهِ -تعالى- منزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ مَن تَرَكَهَ النَّاسُ اتَّقَاءَ فُحْشِهِ" رواه البخاري.
أيها المسلمون: لقد جاءت الشريعة، وحثت على اختيار الطيب من القول، وأمرت بحسن الكلام، ونهت عن الضد من ذلك، فقال الله -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]، وقال: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]، وقال: (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء:148].
والله -جل وتعالى- أنكر على الصحابة قول المنكر من الألفاظ ونهى عنها، ألم تسمع لقول الله -تعالى-: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [المجادلة:2]، قالوا ألفاظ الظهار، وهي ألفاظ محرمة، لا يليق بمؤمن أن يتلفظ بها مع زوجته، لما فيها من التعدي والتحريم، فقول الرجل لامرأته: "أنت عليّ كظهر أمي"، هذا قول منكر، ولفظ لا يجوز للمؤمن أن يأتي به، ولهذا شرعت له الكفارة.
بل إن الله -عز وجل- لينكر على الصحابة الجهر بالقول والزيادة في الصوت، فضلاً عن اللفظ نفسه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات:2].
ولهذا؛ فقضية اللفظ والقول، وحُسن تخيّر الكلام وحسن أسلوبه مع من تخاطبه مما جاءت به الشريعة وحضت عليه، تأملوا قول الله -تعالى- عن عيسى -عليه السلام- وعن أمه وقد اتخذهما النصارى إلهين من دون الله فقال: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) [المائدة:75]، وما الجديد في أنهما كانا يأكلان الطعام؟ ولكن الله -تعالى وتقدس- يوحي ويذكر من اتخذوهما إلهين بأن عيسى وأمه -عليهما السلام- كانا يأكلان الطعام، ومعلوم ما يتبع أكل الطعام من مغص أو تعب ومن قضاء حاجة وإخراج ونحو ذلك مما ينزه عنه الإله الحق -سبحانه-، فانظروا إلى هذا الأسلوب القرآني العجيب في البعد عن قبيح الألفاظ وسيئها حتى في نفي الألوهية عن عيسى وأمه!.
جاء في كتاب فتح المغيث للسخاوي -رحمه الله- ما نصه: "روينا عن المزني قال: سمعني الشافعي يوما وأنا أقول: فلان كذاب، فقال: يا إبراهيم، اُكس ألفاظك أحسنها! لا تقل: فلان كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء".
وجاء في كتاب السير أن زبيدة لامت زوجها الرشيد عل حبّه المأمون دون الأمين، فقال لها: الآن أريك عذري، فدعا الرشيد ولده الأمين -وكانت عنده أعواد مساويك- فقال له: ما هذه يا محمد؟ فقال: مساويك! ثم دعا المأمون، وقال له: ما هذه يا عبد الله؟ قال: ضدّ محاسنك يا أمير المؤمنين! فقالت زبيدة: الآن بان لي عذرك. وذلك أنها عرفت أن ما كان عليه المأمون من الذوق الرفيع، وحسن التلفظ، وجمال العبارة، جعل له المنزلة الرفيعة عند الرشيد.
ومما يدخل في هذا نزاهة اللسان عن الفحش والبذاءة وساقط القول، سواء في الكلام أو في تسمية الأشياء بأسمائها وإن كانت حقاً! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش البذيء".
قال الإمام النووي: ومما ينهى عنه ذكر الأمور المستقبحة بعبارة صريحة، وأن كانت صحيحة والمتكلم بها صادقاً، وينبغي أن يستعمل في ذلك الكنايات، وبهذا جاء القرآن والسنن الصحيحة المكرمة، قال -تعالى-: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة:187]، وقال -تعالى-: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) [النساء:21]. قال العلماء: فينبغي أن يستعمل في هذا وأشباهه من العبارات التي يستحيا من ذكرها الكنايات المفهمة، كما كنى الله عن الجماع بالرفث والإفضاء، وكنى عن قضاء الحاجة بالغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض، وكنى عن مظنة وقوع الفاحشة أو حدوث ما لا تحمد عقباه بنوم الأبناء بنين وبنات بعد سن العاشرة مع بعضهم بقوله: "وفرقوا بينهم في المضاجع"، من غير تفصيل أو تصريح بما قد يقع، والقرآن والسنة مملوءان بكثير من أمثلة ذلك.
فعلى المسلم أن تكون ألفاظه مضرب المثل في السمو والأدب، وألا يتوهم أنه إذا كان صريحا وصادقا في كلامه فأنه لا بأس عليه أن يلبس عباراته أي ثوب شاء!.
عباد الله: ومن آدابِ الكلامِ التي يجبُ على العاقل أن يَزمَّ بها لسانَه الاعتدال في المدح والذمِّ، فلا يتجاوزُ في المدح قدرَه، ولا يُسرف في الذَّمِ عن حدِّه، ولا يذكرُ كلمةً يُرضي بها بشرًا، ويُسخطُ بها ربَّ البشرِ -سبحانه وتعالى-.
ومن أعظم آداب الكلام في الإسلام أن يُصَّدِّقَ الفعلُ القول؛ لأنَّ مخالفةَ القولِ للفعل نفاقٌ، واتِّفاقَهما إيمانٌ صادقٌ، واللهُ -عزَّ وجلَّ- يقول لعباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف:2-3].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيُّها الناس، اتقوا الله -تعالى- واشكروه وأطيعوه وراقبوه، واعلموا أنَّكم ملاقوه.
يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]، قال ابن كثير في تفسيره -رحمه الله تعالى-: يقول الله -تعالى- آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولاً سديداً، أي: مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح أعمالهم، أي: يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التوبة منه. اهـ.
قال العلاّمةُ القرطبيُّ -رحمه الله-: "ينبغي للإنسان أن يكونَ قولُه للناس ليّنًا، ووجهُه منبسطًا مع البَرِّ والفاجرِ، من غير مُدَاهَنةٍ؛ لأنّ الله -تعالى- قال لموسى وهارون: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44]، يعني: لفرعون، فالقائلُ ليس بأفضلَ من موسى وهارون، والفاجرُ ليس بأخبثَ من فرعون، وقد أمرَهما ربُّهما باللين معه".
وقال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ" رواه مسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "عَلىَ كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقةٌ"، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فَيَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّق"، قالوا: فإن لم يستطعْ أو لم يفعل؟ قال: "فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوف"، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فَلْيَأمُرْ باِلمَعْروفِ"، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فَليُمْسِكْ عَن الشَرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ" رواه البخاري.
فالكلمةُ الطيّبةُ -عباد الله- تحفظُ المودّة َ، وتستديمُ الصحبةَ، وتمنعُ كيدَ الشيطان أن يُوهِيَ بينَ الأصدقاءِ والإخوان من المسلمين الحبالَ ويفسدَ ذاتَ بينِهم؛ (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا(.
بل إنَّ طيبَ الكلام حتى مع الأعداءِ مطلوبٌ؛ لأنَّه سببٌ في إطفاء الخصومة وإخماد الغضبِ؛ مِمَّا يُقرِّبُ القلوبَ ويُذهبُ غيظَ الصدورِ، )وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( [فصلت:34].
قال طلحةُ بن عمرَ التابعيُّ لعطاء بن أبي رباحٍ: إنّك رجلٌ يجتمعُ عندك ناسٌ ذووا أهواء مختلفةٍ، وأنا رجلٌ فيَّ حِدّةٌ، فأقولُ لهم بعضَ القول الغليظ. فقال: لا تفعل؛ فإنّ اللهَ -تعالى- يقول: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا)، قال عطاءٌ: فدخلَ في هذا اليهودُ والنصارى، فكيف بالحنيفيِّ؟! يعني: المسلم.
الكلمةُ الطيّبةُ -عباد الله- تغسلُ الضغائنَ المستكنةَ في الجوارح، وتجمعُ الأفئدةَ، وتجلبُ المودّةَ، ولكم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُسوةٌ حسنةٌ؛ فقد قال: "لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيئًا، وَلَو أنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِقٍ" رواه مسلم. قال عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه-: "البرُّ شيءٌ هيّنٌ؛ وجهٌ طَليقٌ، وكلامٌ ليّنٌ".
فكلُّ كلمةٍ -أخي المسلم- لا تضرُّ في الدين ولا تُسخطُ الربَّ الكريمَ وتُرضي الجليسَ فلا تبخلْ بها على أخيكَ المسلمِ، يأجُرُكَ الله عليها، وتكون حِجَابًا لكَ من النار. قال -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقوا النارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" متفقٌ عليه، وعن أبي المقدامِ عن أبيه عن جدّه قال: قلتُ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أخبرني بشيءٍ يوجبُ الجنةَ، قال: "عَليكَ بِحُسْنِ الكَلاَمِ، وَبَذْلِ الطَّعَامِ" رواه البخاري.
ثمَّ اعلموا -يا رعاكم الله- أنَّه كما أنَّ مجالَ الكلمة الطيّبةِ واسعٌ فإنَّ مجالَ الكلمة الخبيثة أوسعُ؛ أعظمُه الإشراكُ بالله -تعالى-، والقولُ على الله بغير علمٍ، وشهادةُ الزورِ، والسحرُ، والقذفُ، والشتمُ والسّبابُ، والغيبةُ والنميمةُ، والكذبُ، والمراءُ والجدالُ بالباطل، وتزكية النفوسِ، والخصوماتُ، والغناءُ المحرّم، والسُّخريةُ والهمزُ والاستهزاءُ بالمسلمين وبدينهم، كلُّ هذه من أُمّهات الخبائث الموجبة للحرمان من رحمة الله، المورثة للضغائن والأحقاد بين الناس.
فاتّقوا اللهَ رحمكم الله، واحفظوا ألسنتَكم، وطهّروها من الخُبْثِ والخبائث، واجعلوها رطبةً بذكر الله -تعالى- وطاعته، واعلموا أنّكم لن تسعوا الناسَ بأموالكم، ولكن يسعُهم منكم بسطُ الوجه، وكفُّ الأذى، وحسنُ الخُلُقِ، وطيبُ الكلام.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على من أمرَكم اللهُ -تعالى- بالصَّلاةِ والسَّلامِ عليه في قوله -عزَّ من قائلٍ-: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا" رواه مسلم.
فاللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد بن عبد الله صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدين، وارضَ اللهُّم عن أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين...
التعليقات
زائر
17-02-2022جزاك الله خيرا وحفظك ووفقك واسعدك
زائر
25-02-2024جديل جدا