عناصر الخطبة
1/ قصة عجيبة 2/ علو همة عجوز بني إسرائيل 3/ وجوب انتهاز الفرص واغتنام الأوقات 4/ مواقف وعبر عجيبة للسلف في اغتنام أوقاتهم 5/أسباب غفلة المرء عن استثمار الفرص المتاحة أمامه 6/ فرص متاحة للعمل لهذا الدين.اهداف الخطبة
اقتباس
يُذكر أن أحد كبار الأثرياء ومن مشاهير المال في عصرنا سُئل في إحدى المقابلات: كيف أصبحت مليارديراً؟ فأخرج الثري من جيبه شيكاً، وناوله لسائله قائلاً له: اكتب في هذا الشيك المبلغ الذي تريده وهو لك! وتحت وطأة الخجل وصدمة المفاجأة قال الإعلامي: عفواً، فإني لا أقصد ذلك.. وعندها استعاد الثري شيكه وقال لسائله: لقد حانت أمامك فرصة لتصبح غنياً فلم تستثمرها، كبقية الناس الذين تلوح أمامهم فرص ثمينة دون أن يستثمروها، أما أنا فأختلف عنكم، أني انتهزت الفرص التي سنحت لي، فصرت...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: يُذكر أن أحد كبار الأثرياء ومن مشاهير المال في عصرنا سُئل في إحدى المقابلات: كيف أصبحت مليارديراً؟ فأخرج الثري من جيبه شيكاً، وناوله لسائله قائلاً له: اكتب في هذا الشيك المبلغ الذي تريده وهو لك! وتحت وطأة الخجل وصدمة المفاجأة قال الإعلامي: عفواً، فإني لا أقصد ذلك.
وعندها استعاد الثري شيكه وقال لسائله: لقد حانت أمامك فرصة لتصبح غنياً فلم تستثمرها، كبقية الناس الذين تلوح أمامهم فرص ثمينة دون أن يستثمروها، أما أنا فأختلف عنكم، أني انتهزت الفرص التي سنحت لي، فصرت كما تقول مليارديراً!.
إن صحَّت هذه القصة بهذا التفصيل فقد صدق هذا الشهير. وقد ورد مثل هذا المعنى في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعرابياً فأكرمه، فقال له: ائتنا فأتاه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: سلْ حاجتك، فقال: ناقةً نركبها، وأعنـزاً يحلبها أهلي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ قالوا: يا رسول الله! وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى عليه السلام لما سار ببني إسرائيل من مصر، ضلوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً من الله أن لا نَخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا: عجوز من بني إسرائيل.
فبعث إليها فأتته فقال: دلِّيني على قبر يوسف، قالت: حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة، فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة، موضع مستنقع ماء، فقالت: أنضِبوا هذا الماء! فأنضبوه، فقالت: احتفروا! فاحتفروا فاستخرجوا عظام يوسف، فلما أقلُّوها إلى الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار". (رواه ابن حبان وصححه الإمام الألباني).
عباد الله: إن الأمر في النصوص بانتهاز الفرص واغتنام الأوقات أكثر من أن يُحصر، ومن ذلك: قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الضحى: 7- 8]. وقوله -عز وجل-: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِين)[الأعراف: 205].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" (رواه البخاري).
وقال -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". (رواه الحاكم في المستدرك وسنده صحيح).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا". (رواه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة". (رواه مسلم).
أيها المسلمون: والمتأمِّل في حال النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد دون عناء أن اهتبال الفرص واغتنام الأوقات كان هدياً راسخاً وسِمَة ثابتة له -صلى الله عليه وسلم-، ومن شواهد ذلك:
ما رواه المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: "إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟" (رواه البخاري).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "إن كنّا لنعدّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم" (رواه أبو داود وهو صحيح).
وعن علقمة قال: "قلت لعائشة -رضي الله عنه-ا: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يختص من الأيام شيئاً؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطيق؟"(رواه البخاري).
وقد عظمت مراعاة السلف لذلك فشمَّروا عن ساعد الجِدِّ في استثمار الفرص واهتبال اللحظات، ومن شواهد ذلك ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا. قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا. قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا. قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعْنَ في امرئ إلا دخل الجنة" (رواه البخاري).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي" وقال: "إني لأمقت الرجل أن أراه فارغاً ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة".
وقيل لنافع مولى ابن عمر: "ما كان يصنع ابن عمر في منـزله؟ قال: لا تطيقونه، الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما". وقال: "كان ابن عمر لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر".
وكان ابن عباس -رضي الله عنه-ما يقول: "لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت لرجل من الأنصار: هلمَّ نسأل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي -عليه السلام- من ترى؟! فترك ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح عليَّ التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله! ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك. قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني".
وقال الحسن: "أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم".
وقال الفضيل بن عياض: "أدركت أقواماً يستحيون من الله سواد الليل، من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال: ليس هذا لك، قومي خذي حظك من الآخرة".
وقال حماد بن أبي حنيفة: "إن مولاة كانت لداود -يعني: الطائي- تخدمه، قالت: لو طبختُ لك دسماً تأكله، فقال: وددت، فطبختْ له دسماً ثم أتته به، فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان؟ قالت: على حالهم، قال: اذهبي بهذا إليهم، فقالت: أنت لم تأكل أدماً منذ كذا وكذا، فقال: إن هذا إذا أكلوه صار إلى العرش، وإذا أكلته صار إلى الحش، فقالت له: يا سيدي! أما تشتهي الخبز؟ قال: يا داية! بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية".
وقال أحمد الرقام: سألت عبد الرحمن -يعني: ابن أبي حاتم- عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالاته من أبيه، فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه.
وقال أبو الحسن الرازي: "وبلغني أنه كان يسأل أباه أبا حاتم في مرضه الذي توفي فيه عن أشياء من علم الحديث وغيره إلى وقت ذهاب لسانه، فكان يشير إليه بطرفه: نعم ولا". وأخبار القوم لا تنتهي.
أيها المسلمون: وإذا كان الشرع والعقل يدعوان إلى استثمار الأوقات واغتنام الفرص، وكان العمر قصيراً، والأحوال تتبدل، والأزمنة تمضي دون أن تعود، والحاجة جلية إلى إتيان المرء أعمالاً تعود عليه بالفلاح وعلى أمته بالرفعة والعزة، فلماذا والحالة هذه يتوانى كثير من باذري الخير وسعاة الإصلاح عن اهتبال الفرص الكثيرة السانحة أمامهم، والتي قد تعود على هذا الدين العظيم وعلى هذه الأمة المباركة بالنصر والتمكين؟!
إن غفلة المرء عن استثمار الفرص المتاحة أمامه أو عدم مبادرته إلى اقتناصها قبل أن تزول يعود في الغالب إلى أمرين:
الأولى: غياب الهدف: فالفرص هي مركب المرء وأداته لتحقيق أهدافه، فكيف يبحث عن مركب أو يقتني أداة من لا هدفَ لديه يسعى لتحقيقه ولا غاية؟!.
الثانية: إلى السلبية: وضعف الجِدِّية والشعور المتدنِّي بالمسؤولية تجاه النفس أو الأمة.
ومن ضَعُفَ الباعث لديه ولم يملك قلباً يحترق لإسعاد نفسه وإصلاح أمته امتطى بوابة التسويف والكسل، وتوانى عن صعود الصعاب وتحمُّل مشاق ارتقاء المكاره.
أيها المسلمون: الغفلة عن النظر والتأمُّل في الآتي ومحدودية التفكير في المستقبل، نتيجة العيش في الماضي والتعلق بأحداثه، أو الاشتغال بالظرف الراهن واللحظة الآنية، مما حال دون استشراف القادم ومحاولة صنعه أو التأثير في أحداثه.
وقلة التوفيق والبركة الناجمة عن تضخيم المرء دورَ الأسباب وقلة التضرع والانطراح بين يدي الله –تعالى- والتقصير في طلب معونته وتسديده، لمن أهم الأسباب في أن فرص الخيرات تمر أمامنا ولا نستطيع قطفها والاستفادة منها.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ..
بارك الله..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: إن أمتنا أفراداً ومؤسسات ومجتمعات ليست مطالبة فحسب بانتظار الفرص السانحة، ومن ثم المبادرة إلى اغتنامها، بل إنها مطالبة بالقيام بزراعتها وتوليدها، وتهيئة أسباب النجاح في اهتبالها، من خلال ارتباطٍ صادق بالله -عز وجل- ودراسات معمقة للواقع، ومعرفة عالية بجوانب التأثير وأدواته.
ولو أراد أحدنا أن يتعرف على حجم الإشكال وشديد الخطورة في هذا الجانب لتساءل: كم فرصة لاحت أمام الصادقين من أبناء هذه الأمة ولم يتم استثمارها؟! وكم ولَّد عدم الاستثمار ذلك في أوساط الأمة من جوانب ضعف وأفقدها من عوامل قوة ومفاتيح نهضة؟!.
ولذا، فلا بد من قيام كل مخلص بعملِ ما في وسعه لإيقاف هدر استثمار الفرص وعدم الاستمرار في إضاعتها وتوالي فقدانها على المستويين الشخصي والجمعي، سواء ما كان منها ظاهراً نتيجة حضوره ومباشرته أو كان شديد الخفوت؛ نظراً لكون حدوثه مترتِّباً على تحقُّق عوامل عدة واحداً تلو الآخر.
وختاماً: فإن من تمام صدق أمتنا والوفاء لدعوتنا القول: إن مجالات النهوض كثيرة، والفرص المتاحة للعمل لهذا الدين تفوق الحصر في كل مجتمع ومجال وبيئة، لكن الغرق في أوحال الترف وضعف الجِدِّية وعدم الشعور العالي بالمسؤولية الدعوية في مجتمعاتنا الغنية، والتعلق بالدنيا والسعي المضني في البحث عن لقمة عيش هنية في مجتمعاتنا الفقيرة، إضافة إلى فقر المناهج التربوية، وفقدان الثقة، وشيوع الروح اليائسة، وعدم تشجيع ثقافاتنا السائدة للمرء على الجِدِّية وعلو الهمة والمبادرة إلى اهتبال الفرص واستثمارها، مما يزيد من عبء نَصَحَة هذه الأمة ويضاعف من مسؤوليتهم، والأمانة المطلوب حملها على عواتقهم.
نسأل الله –تعالى- أن يسخِّر لأمتنا من أمرها رشداً، وأن يجعل منا مفاتيح خير مغاليق شر، وصلى الله تعالى وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
اللهم..
التعليقات