عناصر الخطبة
1/اختصاص الله وحده بعلم الغيب 2/وجوب الإيمان بالغيب 3/أقسام الغيب وأنواعه 4/تحريم ادعاء علم الغيب 5/خطورة الكهانة ومفاسدها 6/تنوع صور الكهانة في العصر الحديث وتعددها.اقتباس
واليوم تنوعت صور الكهانة وتعددت, فلم تعد تتجلى في أفَّاكٍ يُذهَب إليه فيسألُ عن بعضِ الحوادث المستقبلة الخاصّة أو العامة, بل صار ثمة كهانٌ جددٌ. منها: ما يسمى بقراءة الكفّ, والنظر في الخطوط فيها.. وقراءة الفنجان.. وحساباتٌ في برامج التواصل تزعم أنها تعرف ما يحصل لك في غدٍ, كلها منابر للكهان الجدد. واعرف مستقبلك من خلال بُرجِك الذي فيه وُلِدْتَ, أو من خلال بعض المعلومات عنك, وما يسمى بأبراج الحظ, صورة من الكهانة منتشرة. وتحليل الشخصية من خلال معرفة الاسم, أو اللون المفضل, ليخبره بعد ذلك بمستقبله وما سيحصل له, نوع من الكهانة خطير.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ! ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللهِ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللهِ، وَاللهُ يَقُولُ: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الأنعام:103]، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللهِ، يَقُولُ اللهُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)[المائدة:67]، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللهِ، وَاللهُ يَقُولُ: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)[النمل:65]".
ولما كانت جاريتان تنشدان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قالتا: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدِ، فَقَالَ: "أَمَّا هَذَا فَلَا تَقُولُوهُ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ".
عِلمُ الغيب -يا كرام- مما اختصّ الله به, وما كان لأحدٍ أن يطَّلع عليه إلا بعلم الله وحكمته ومشيئته (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)[آل عمران:179]، (قُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ)[يونس:20] لا يقدر عليه إلا هو –سبحانه-.
وقال -تعالى-: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[هود:123]، له مُلك كل ما غاب لا يخفى عليه شيء ولو قلَّ ودقَّ، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام:59].
فهو -سبحانه- العليم بالغيب, وإذا كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب فغيره من باب أولى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)[الجن:26-27].
لأجل كل هذه النصوص المتضافرة -يا مؤمنون- كان من أجلى صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب, ويعتقدون أن علمه خاص بالله -سبحانه-، وأنَّ مَن ادَّعى عِلْم الغيب فهو كاذب كفار, وحين عدَّ ربنا صفات المتقين ابتدأها بقوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)[البقرة:3].
عباد الله: والغيب منه ما هو غيبٌ مُطلق, لا يعلمه إلا الله, فهذا لا يمكن لمخلوق أن يعلمه (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)[النمل:65]، ومن ذلك مفاتح الغيب الخمسة (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لقمان:34]، فلو اجتمع الخلق بكلّ علومهم, بكل قدراتهم, على أن يطلعوا على شيء من هذا ما قدروا.
وثمة غيبٌ نِسبيّ, غاب عن بعض الخلق دون آخرين, فهو في حقِّ من غاب عنه غيبٌ, كالأمور التي تحصل في بلد آخر وأنت غائب عنها, فهي غيب عندك, لكنه معلوم عند غيرك ممن شهده.
عباد الله: وكل مَن ادعى عِلم شيء من الغيب فقد كذب, وعارض القرآن واتصف بصفات الكفار.
ومن أجلى صور ادعاء الغيب: الكهانة؛ بأن يدّعي معرفة شيء من أمور الغيب التي ستحصل ويخبر بها الناس. وأصلُ صنيع الكهان استراقِ الجنِّ السمعَ من كلام الملائكة, فربما رمتهم الشُّهب قبل ذلك, وربما ولحكمة يعلمها ربك -سبحانه- أمهلم حتى يسمعوا الكلمة فيلقونها في أذن الكاهن, فيزيد على ذلك مائة كذبة.
قالت عائشة: سأل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أناسٌ عن الكهان؟ فقال: "إنهم ليسوا بشيء"، فقالوا يا رسول الله، إنهم يحدّثونا أحيانًا بشيء فيكون حقًّا! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قرّ الدجاجة، فيخلطون معها مئة كذبةٍ"(رواه مسلم).
وعند البخاري "إن الملائكة تنزل في العنان، وهو السحاب، فتذكر الأمر قُضِيَ في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مئة كذبةٍ من عند أنفسهم".
واليوم تنوعت صور الكهانة وتعددت, فلم تعد تتجلى في أفَّاكٍ يُذهَب إليه فيسألُ عن بعضِ الحوادث المستقبلة الخاصّة أو العامة, بل صار ثمة كهانٌ جددٌ.
منها: ما يسمى بقراءة الكفّ, والنظر في الخطوط فيها, ليستدلَّ بذلك على معرفة مستقبلك نوع من الدجل.
وقراءة الفنجان؛ حيث يطلب الكاهنُ الشرب في فنجان معين, ثم يأخذه الكاهن ويديره مرات, ثم يخبر صاحبه بما سيحدث له في المستقبل, صورة من الكهانة.
وحساباتٌ في برامج التواصل المتعددة, تتسمى بمسميات عدة, كلها تزعم أنها تعرف ما يحصل لك في غدٍ, كلها منابر للكهان الجدد.
واعرف مستقبلك من خلال بُرجِك الذي فيه وُلِدْتَ, أو من خلال بعض المعلومات عنك, وما يسمى بأبراج الحظ, صورة من الكهانة منتشرة.
وتحليل الشخصية من خلال معرفة الاسم, أو اللون المفضل, ليخبره بعد ذلك بمستقبله وما سيحصل له, نوع من الكهانة خطير.
والنظر في النجوم والأفلاك, ليخبر من خلال هذا عن المغيبات, كل هذا تكهن وتنجيم.
وما يسمى بالطاقة الخفية, والعلوم النورانية, كلها من ألاعيب الكهان وحِيَلهم.
ولربما روّج الكهان أنفسهم بأسماءَ فيها تلبيس وتدليس, كالروحاني, والخبير, والمجرب, أو جلب الحبيب, وهي أسماء لا تعدو كونها للخداع, ومؤدَّى الجميع لا يعدو كونه ادّعاء للغيب, وهذا كفرٌ بالله, ومنازعةٌ لله في ربوبيته, فلا يعلم الغيب إلا هو, ومن ادعى ذلك فقد كفر بالله.
وعقيدة المسلم تؤكد أنه لا يعلم الغيب إلا الله, وأن الكهان ليسوا بشيء, وأن كل من ادعى غيباً فهو كاذب، وفي الحديث "ليسَ مِنّا مَنْ تَطيَّر أوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أو تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ لَهُ، أو سَحَر أوْ سُحِرَ لَهُ".
اللهم اعصمنا من الزيغ والزلل....
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده...
إذا كان ما مضى هو في بيان حال الكهان, فإن الذهاب إليهم من أكبر الكبائر, ولو كان لمجرد حبّ الاستطلاع, وعدم تصديقهم, وفي الحديث "مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً"، فما أعظمَها من خسارةٍ! وما أشدَّها من عقوبةٍ!
فأما إن كان يصدّقهم فيما يخبرون من علم الغيب فالأمر أشنع, والشأن أعظم, فلا يجتمع في قلبٍ واحدٍ إيمانٌ باللهِ وتصديقٌ بهؤلاء الكهنةِ الدجالينِ؛ قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-".
عباد الله: ولا يُشتَرط في الذهاب للكهنة أن يكون ذهابًا حقيقيًّا, بل الدخولُ في حساباتهم عبر برامج التواصل, أو التواصلُ معهم عبر القنوات, أو التصفحُ لمواقعهم الإلكترونية, ومشاهدةُ مقاطعهم, كل ذلك ذهابٌ لهم وإتيان.
وبعد: فالمؤمن ينأى بدينه عن كل هذه المنكرات من ضروب التكهن, ويربأ بعقله عن هذه الخرافات, لأنه مؤمن بربه, راضٍ بتدبيره, مُسلِّمٌ لقضائه وقدره.
واليقينُ أن الخلق كُلَّهم لن يقدروا أن يضرّوك والله ما أراد, ولن يخبروك بغيبٍ أراد الله له الخفاء, فهوِّن عليك, وسلِّم أمرك لخالقك.
وإذا أردت أن تعرف كذب الكهان ودَجَلهم؛ فانظر كم من حدث تنبأوا به وأخبروا بوقوعه مبشرين أو مرهبين, فما رأى الناس شيئاً, وقد قيل: "كذب المنجمون ولو صدقوا".
وكم نحتاج يا كرام إلى التذكير بخطورة الأمر وشناعته, وتحذير الجيل من الولوج في هذه المحرمات, فالشأنُ دين وإيمان, والمجال لا يحتمل التجربة والتساهل, والخسارة فادحة، والخطرُ على العقيدة عظيم.
اللهم احفظ علينا إيماننا وعقيدتنا...
التعليقات