عناصر الخطبة
1/أهمية قواعد المعاملات في الإسلام 2/من آفات المعاملات المالية المحرمة 3/تحريم الغش وذِكر أبرز صوره 4/عواقب الغش التجاري وآثاره السيئة 5/تحريم احتكار السلع 6/رسائل ووصايا للتجار.اقتباس
واحتكارُ السِّلَعِ وحَاجَاتِ النَّاسِ، يَحْمِلُ في طَيَّاتِهِ بُذُورُ الهَلَاكِ، لما يُسَبِّبُهُ مِنْ ظُلْمٍ للعبادِ، وإهدارٍ لتجارةِ المسلمينَ وصناعَتِهِمْ، وتضييقٍ لأبوابِ العملِ والرِّزْقِ وغلاءٍ في الأسعارِ، وخاصَّةً في المواسِمِ كَدُخُولِ رَمَضَان.
الخُطْبَة الأُولَى:
الْحَمْدُ للهِ الذي أحلَّ لعبادِهِ الطَّيِّبَاتِ، وحَرَّمَ عليهم الخبائِثَ والمنْكَرَاتِ، فَأَحَلَّ البيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، وجَعَلَ في الحلالِ غُنيةً عن الحرامِ، أَحْمَدُهُ -سبحانَهُ- المحمودُ بكلِّ لِسَانٍ المعبودُ في كلِّ زمانٍ، يَعْلَمُ مَا يَكُونُ وَمَا كَانَ، ولا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عنْ شَأْنٍ، تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: فمن اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، ومَن آَوَى إليهِ آوَاهُ، ومَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ ومَن اهْتَدَى بِهِ هَدَاهُ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق:4].
أيُّهَا المؤمنونَ: إنَّ السماحةَ واليُسْر، وحفظَ الحقوقِ، وتحريمَ كلِّ ما يُفْضِي إلى الخلافِ والنِّزَاعِ مِنْ أهمِّ الصِّفَاتِ الجوهريَّةِ، والقواعِدِ الكلِّيَةِ التي قَامَتْ عليهَا الشريعةُ الإسلاميَّةُ، قالَ -تعالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ)[النساء: 29]، وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى"(أخرجه البخاري: 2076).
عِبَادَ اللهِ: والمسلمُ كمَا يَتَعَبَّدُ للهِ -عزَّ وجلَّ- بالصَّلَاةِ والصِّيَامِ، يَتَعَبَّدُ كذلكَ بِتَحِّري الحلالِ، والبُعْدِ عن الحرامِ، قالَ -تعالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا)[البقرة: 168]؛ ولأنَّ النَّاسَ في حياتِهم اليوميَّةِ يحتاجونَ إلى الطَّعَامِ والشَّرَابِ والسَّكَنِ والكِسَاءِ وغَيرِهِ؛ فقدْ جاءت الشَّرِيعَةُ الإسلاميَّةُ بتشرِيعِ كُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ الناسُ مِنَ الْبَيْعِ والشِّرَاءِ، والْقَرْضِ، والسَّلَمِ، والإِجَارَةِ، والوَكَالَةِ، وغيرِ ذلكَ، وتَحْرِيمِ كلِّ ما يؤدي للخلافِ والنِّزَاعِ، وهَضْمِ الْحُقُوقِ.
أيُّهَا المؤمنونَ: ومِنْ آفَاتِ المعاملاتِ الماليِّةِ المحرَّمَةِ، الغِشُّ، وهو خَدِيعَةٌ وخِيَانَةٌ وضَيَاعٌ للأمَانَةِ، وإيثارُ الحرامِ الَّذِي يطغى عَلى الحلالِ الذِي يَبقى، وقَدْ عَدَّهُ بعضُ العلماءِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، ولِذَا طَهَّرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- قلوبَ أهلِ الجنةِ منَ الغِشِّ بِقولِهِ: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)[الحجر: 47]؛ قالَ مُقَاتِلُ -رحمه اللهُ-: "يَعْنِي مَا كَانَ فِِي الدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِم مِنْ غِشٍّ".
عِبَادَ اللهِ: وللغشِّ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا التدليسُ والكَذِبُ في البيعِ والشِّرَاءِ، وَكِتْمَانُ عُيُوبِ السِّلْعَةِ وإخْفَاؤُهَا، أو البَخْسُ في ثَمَنِهَا، أو تَطْفِيفُ كَيْلِهَا ووزْنِهَا، أو خَلْطُ الجَيِّدِ بالرَّدِيءِ، فقد مَرَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على صُبْرَةِ طَعامٍ فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلًا؛ فقالَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قالَ أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: "أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي"(أخرجه مسلم: 102).
أيَُهَا المؤمنونَ: والغِشُّ مَمْحَقَةٌ للبركةِ، وأَكْلٌ لأموالِ النَّاسِ بالباطِلِ، واسْتِهَانَةٌ بِنَظَرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "البَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِما"(أخرجه البخاري ٢٠٧٩، ومسلم ١٥٣٢).
وكانَ جَرِيرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا قَامَ إلى السِّلْعَةِ يَبِيعُهَا؛ بَصَّرَ عُيُوبَهَا ثُمَّ خيَّرَهُ، وقَالَ: إنْ شِئْتَ فَخُذْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ مِثْلَ هَذَا لَمْ يَنْفَذْ لَكَ بَيْعٌ، فَقَالَ: إِنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ آفَاتِ المعاملاتِ الماليَّةِ المحرَّمَة احتكارُ السِّلَعِ وَتَخْزِينها واحتجازهَا؛ لِبَيْعِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِسِعْرٍ أَعْلَى، والاحتكارُ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ أهلِ العلمِ، قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَحتَكِرُ إلَّا خاطِئٌ"(أخرجه مسلم: 1605)؛ أي: عاصٍ لله ورسوله، وقال أيضًا: "مَن احْتَكَرَ عَلى المسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللهُ بِالجُذَامِ والإفلاسِ"(أخرجه ابن ماجه ٢١٥٥، وصححه ابن حجر في الفتح 4/408).
عِبَادَ اللهِ: واحتكارُ السِّلَعِ وحَاجَاتِ النَّاسِ، يَحْمِلُ في طَيَّاتِهِ بُذُورُ الهَلَاكِ، لما يُسَبِّبُهُ مِنْ ظُلْمٍ للعبادِ، وإهدارٍ لتجارةِ المسلمينَ وصناعَتِهِمْ، وتضييقٍ لأبوابِ العملِ والرِّزْقِ وغلاءٍ في الأسعارِ، وخاصَّةً في المواسِمِ كَدُخُولِ رَمَضَان.
والاحتكارُ نوعٌ من مَحَبَّةِ الذَّاتِ يُؤَدِّي إلى تَضَخُّمِ الأموالِ في طائفةٍ قليلةٍ من النَّاسِ، فيكونُ المالُ دُولَةً بين الأغنياءِ يُحْرَمُ مِنْهُ الفقراءُ، قالَ -تعالَى-: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)[الحشر: 7].
أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ)[الشورى: 47].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآَنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ فَاسْتَغْفِرُوا اللهَ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عُدْوَانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ وليُّ الصالحين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه خاتمُ الأنبياءِ والمرسلينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ ورسالتي لإخوانِي التجار، وأربابِ المحالِّ التجاريَّةِ، والمؤسساتِ الماليَّةِ: اعلموا -رعاكم اللهُ- أنَّهُ يجبُ عليكم التَّفَقُّهُ في أَحْكَامِ البيوعِ، قالَ عُمَرُ بنُ الخطابِ -رضيَ اللهُ عنْهُ-: "لا يَبِعْ فِي سُوْقِنَا إِلا مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ"(رواه الترمذي 487).
والزموا الصِّدْقَ، ولا تَكُنْ هِمَّتُكُمْ قَاصِرَةً عَلى جَمْعِ المالِ فَقَطْ؛ فقد كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْرُجُ إلى التُّجَّارِ قائلاً: "يَا معْشَرَ التُّجَّارِ إيّاكُمْ والكذِبَ"(أخرجه الطبراني ٢٢/٥٦، رقم ١٣٢).
وأُوصِيكُم بالصَّدَقَةِ، قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ التُّجّارِ! إنّ هذا البيعَ يَحْضُرُه اللَّغْوُ والحَلِفُ، فشُوبُوه بالصدقةِ"(أخرجه أبو داود ٣٣٢٦، وصححه الألباني في صحيح الجامع 7974).
واعلموا أنَّكُمْ قد وُلِّيتُم أمرًا هلكتْ فيه الأممُ السّابقةُ المِكيالُ والميزانُ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.
اللَّهُمَّ ادْفَعْ عَنَّا الغَلاءَ والْوَبَاءَ والرِّبَا والزَّلازِلَ والمِحَنَ وسوءَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، اللَّهُمَّ اصْرِفْ عَنَّا الغَلَاءَ، وقِنَا شَرَّ الدَّاءِ، ونَجّنَا بلطفكَ مِنْ كُلِّ بَلاءٍ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ أمِّنَا في أوطانِنَا، وأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أمُورِنا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ عامةً لِلْحُكْمِ بكتابِكَ والعملِ بسنَّةِ نبيِّكَ، اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ وسموَّ وليِّ عهدِهِ لكلِّ خيرٍ، واصْرِفْ عنهمَا كلَّ شرٍّ، اللهم سَدِّدْهُمْ وأَعْوَانَهُم ووُزَرَاءهُمْ لما فيه خيرُ البلادِ والعِبَادِ، ولما فيه عزُّ الإسلامِ وصلاحُ المسلمينَ.
اللهمَّ ارْبِطْ على قلوبِ رجالِ الأمنِ، والمرَابِطِينَ عَلَى الْحُدُودِ، الّذِينَ يُدَافِعُونَ عن الدِّينِ والمقدساتِ والأعراضِ والأموالِ، اللهُمَّ احفظهمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمِ ومِنْ خَلْفِهِمِ وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هَذَا الجمعَ مِن المؤمِنِينَ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّهُمْ، وَنَفِّس كَرْبَهُمْ، وَاقْضِ دِيُونَهُم وَاشْفِ مَرْضَاهُم، وَارْحَمْ مَوْتَاهُمْ، واغْفِرْ لَهُم ولآبَائِهِم وأُمَّهَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ وَوَالِدِينَا وَأَزْوَاجنا وذُرِّيَّاتِنَا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10].
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
التعليقات