عناصر الخطبة
1/غربة الإسلام والمسلمين قديماً 2/ أوصاف الغرباء وأقسامهم 3/ أنواع الغربة 4/ فتن الشبهات والشهوات 5/ فتنة اليأس والقنوط 6/ فتنة العجلة 7/ غربة الديار والأوطاناهداف الخطبة
اقتباس
الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات التي تصاغ بين الفينة والأخرى ويتولى كبرها أهل الملل والأديان ومن افتتن بهم من أبناء المسلمين الذين شكلوا طابوراً خامساً يفتتون في عضد الأمة ويصطادون في الماء العكر، ويرمون من التزم بالسنة بالإرهاب، فأعيدت صياغة مقولة المشركين ..
عباد الله: بدأ الإسلام غريباً بين الأديان، وأهله غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريباً بين أهله وعشيرته، يؤذى بسبب ذلك ويعادى ويفتن في دينه، وكان المسلمون صابرين راضين بقضاء الله مطيعين لأوامر رسوله حتى قوي الإسلام واشتد عوده فزالت غربته، وأضحى أهله هم الظاهرين على من ناوأهم، وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ -كما هو حال زماننا هذا؛ لقلة المتمسكين به- فطوبى للغرباء، قال أحمد بن عاصم الأنطاكي -وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني-: " أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصفُ الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يُحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً، وسائر ذلك من الرعاع ". أخرجه أبو نعيم في (الحلية)، وبعد أن أورد ابن رجب هذا الأثر عقب عليه قائلاً: " فهذا وصف أهل زمانه؛ فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله؟" ونحن ماذا عسانا أن نقول عن زماننا هذا إذا كان ذلك حال زمانهم فرحماك ربنا رحماك.
إلى الله نشكو غربة الدين والهدى *** وفقدانـه من بين من راح أو غـدا
فعاد غريبا مثلما كان قـد بـدا *** على الدين فليبكي ذوو العلم والهدى
أيها المسلمون: أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن صفات هؤلاء الغرباء فقال عليه الصلاة والسلام -كما عند مسلم من حديث أبي هريرة- قال: " بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء ".
وأخرجه الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره: قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: " النُّزَّاع من القبائل"، و النُّزَّاع من القبائل هم الآحاد منهم تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم ودخلوا في الإسلام فكانوا هم الغرباء حقاً.
وأخرجه كذلك الآجُرِّيُّ بسند صحيح وعنده: " ومن هم يا رسول الله؟ قال: " الَّذين يُصْلِحون إذا فسد الناس".
وأخرجه أحْمد والطبراني من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " طوبى للغرباء"، قلنا: وما الغرباء؟ قال: " قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، مَنْ يَعصيهِمْ أكثَرُ مِمَّن يُطيعهم " وصححه غير واحد، قال ابن رجب: " وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يُصلح ما أفسد الناس، وهو أعلى القسمين وأفضلهما ".
أيها المسلمون: إن هذه الأوصاف المذكورة للغرباء تدلنا على أنهم أهل غيرة، ودعوة، وإصلاح، ولم يكونوا صالحين يائسين، مستسلمين لواقعهم الفاسد، وإنما سُمُّوا غرباء لقلتهم في الناس جداً فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة – الذين يميزونها من الأهواء والبدع – غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًّا، فلا غربة عليهم، وهم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ "رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة.
أيها المسلمون: الغربة أنواع؛ فأولها: غربة أهل الحق بين الخلق وهي الغربة الممدوحة، وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، أما الغربة المطلقة في كل الأرض فلا تكون إلا قبيل قيام الساعة، أما قبل ذلك فلن تخلو الأرض من قائمين بالحق ولو كانوا قلة، قال تعالى: ( فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ..)[هود:116]. وقال ابن القيم رحمه الله في شرحه لمنازل السائرين عند هذه الآية: " الغرباء هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية ".
النوع الثاني من الغربة: غربة مذمومة وهي غربة أهل الباطل فهم غرباء وان كثروا لأنهم إنما يعرفون في أهل الأرض فقط.
أما النوع الثالث فهي غربة مشتركة: لا تحمد ولا تذم و هي الغربة عن الوطن فإن الناس كلهم في هذه الدار غرباء إذ ليست مستقر لأحد قال النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عمر: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ".
عباد الله: إن من أشد ما يخشى على أهل الإسلام في أزمنة الغربة مظاهر من الفتن يمكن إجمالها فيما يلي:
أولاً: الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات التي تصاغ بين الفينة والأخرى ويتولى كبرها أهل الملل والأديان ومن افتتن بهم من أبناء المسلمين الذين شكلوا طابوراً خامساً يفتتون في عضد الأمة ويصطادون في الماء العكر، ويرمون من التزم بالسنة بالإرهاب، فأعيدت صياغة مقولة المشركين: " نعبد رب محمد سنة على أن يعبد محمد الأصنام سنة " في قالب التسامح والتعايش، وطمست الكراهية ضد الأديان، ومحيت مفاهيم الولاء والبراء والجهاد فضلاً عن سعيهم الحثيث لإخراج المرأة من نور الحجاب إلى ظلمة حضارة الرجل الأبيض!.
ثانياً: الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشهوات: تلك الفتنة التي تطمّ وتنتشر عادة في عصور الغربة، وقلة أهل الحق، وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس؛ حيث أجلب إبليس وأعوانه من شياطين الإنس علينا بخيله ورجله، فامتطوا صهوة الثورة التقنية والاتصالات لفتح أبواب الفواحش والشهوات عبر القنوات الفضائية والشبكات العنكبوتية وغيرهما فلا يكاد يثبت ويستقيم على أمر الله مع كل هذه الضغوط إلا القليل الذين يعتصمون بالله، ويقومون بأمره، ويدعون إلى سبيله، ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخشى على أمته هاتين الفتنتين، كما في مسند أحمد عن أبي برزة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إنَّما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم، ومضلاَّت الفتن "، وفي رواية " ومضلاَّت الهوى".
ثالثاً: فتنة اليأس والقنوط من ظهور الحق وانتصاره أمام تكالب الأعداء وتمكنهم وتسلطهم على أهل الخير بالأذى والابتلاء: مما قد يؤدي ببعض أهل الغربة إلى اليأس، وترك الدعوة حين يرى 'إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً... فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله.
رابعاً: فتنة العجلة، وقلة الصبر على الأذى في الغربة: مما يؤدي ببعض من يقاسي ضغوطها إلى التسرع والاصطدام مع أهل الفساد دون مراعاة للمصالح والمفاسد؛ فينشأ جرّاء ذلك فتنة أشد، وفساد أكبر على أهل الغربة.
يوصي ابن القيم رحمه الله إخوانه قائلاً: " إذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً في سنة رسوله، وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه؛ من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه - فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وازدرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه وإمامه -صلى الله عليه وسلم-، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل. فهو غريب في دينه؛ لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة؛ لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده؛ لفساد عقائدهم، غريب في صلاته؛ لسوء صلاتهم، غريب في طريقه؛ لضلال وفساد طرقهم.
أيها المسلمون: أرعوني أسماعكم لهذه الكلمات النيرات من الإمام الآجري لعلها تخفف عنا بعض ما نلاقيه في أزمان الغربة: " من أحب أن يبلغ مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزوجته وإخوانه وقرابته. فإن قال قائل: فلم يجفوني وأنا لهم حبيب وغمهم لفقدي إياهم إياي شديد؟ قيل: لأنك خالفتهم على ما هم عليه من حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها، ولتمكن الشهوات من قلوبهم ما يبالون ما نقص من دينك ودينهم إذا سلمت لهم بك دنياهم، فإن تابعتهم على ذلك كنت الحبيب القريب، وإن خالفتهم وسلكت طريق أهل الآخرة باستعمالك الحق جفا عليهم أمرك؛ فالأبوان متبرمان بفعالك، والزوجة بك متضجرة فهي تحب فراقك، والإخوان والقرابة قد زهدوا في لقائك. فأنت بينهم مكروب محزون، فحينئذ نظرت إلى نفسك بعين الغربة فأنست بمن شاكلك من الغرباء، واستوحشت من الإخوان والأقرباء، فسلكت الطريق إلى الله الكريم وحدك؛ فإن صبرت على خشونة الطريق أياماً يسيرة واحتملت الذل والمداراة مدة قصيرة، وزهدت في هذه الدار الحقيرة - أعقبك الصبر أن ورد بك إلى دار العافية، أرضها طيبة ورياضها خضرة، وأشجارها مثمرة، وأنهارها عذبة.
فَيَا مِحْنَةَ الإسْلامِ مِنْ كُـلِّ جَاهِـلٍ *** وَيَا قِلّـَةَ الأَنْصَارِ مِنْ كُـلِّ عَالِمِ
وَهَذَا أَوَانُ الصَّبْرِ إنْ كُنْتَ حَازِمًـا *** عَلَى الدِّينِ فَاصْبِرْ صَبْرَ أَهْلِ الْعَزَائِمِ
فَمَـنْ يَتَمَسَّكْ بِالْحَنِـيفِيَّةِ الَّتِـي *** أَتَـتْنَا عَنِ الْمَعْصُـومِ صَفْـوَةِ آدَمِ
لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ امْرَأً مِنْ ذَوِي الْهُدَى*** مِنَ الصَّحْبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الأَكَارِمِ
فَنُحْ وَابْكِ وَاسْتَنْصِرْ بِرَبِّكَ رَاغِبًـا *** إلَيْـهِ فَـإنَّ اللهَ أَرْحَـمُ رَاحِــمِ
لِيَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ مِنْ بَعْدِ مَا عَفَـتْ *** مَعَالِمُـهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ الْعَوَالِـمِ
وَصَلِّ عَلَى الْمَعْصُـومِ وَالآلِ كُلِّهِـمْ *** وَأَصْحَابِهِ أَهْـلِ التُّقَى وَالْمَكَارِمِ
الخطبة الثانية
عباد الله: غربة الديار والأوطان من أنواع الغربة المؤلمة، فلا مكانَ في الحياةِ -بالنِّسبةِ للإنسان- أجملُ وأبهى من المكان الذي ولد فيه وترعرع، وتفيأَ ظلالَه وارتوى من فراتِ مائِهِ، فهو جزء من كِيانِ الإنسانِ، فمهما ابتعد عنه، وشطت به الدارُ فلا بد أن تبقى أطلالُ بلادهِ في ثنايا مُخَيّلتِه، وكثير من الناس من ارتشف شراب الهجر والغربة، في كؤوس من الحنين والأشواق، وكم من مغترب قال بلوعةٍ الألم:
كمْ منزلٍ في الأرضِ يَأْلفهُ الفتَى *** وحنينهُ أبداً لأوّلِ مَنزلِ
وكم من مهاجرٍ يتغنى صباحَ مساء بقول القائل:
بلاديْ وإنْ جارَتْ عليَّ عزيزةٌ *** وأهلِي وإنْ ضنُّوا عليَّ كِرامُ
أيها المسلمون: الكلُّ يعلم أنّ طريق الهجرة وعرةُ المسلك، ومليئةٌ بالمنغّصات، ومهما بقي الإنسان في بلاد الغربة فاسمه "غريب"، وتبقى ساعةُ الوداع مؤثّرة، والوقوفُ على الأطلال يرافقه البكاء، حتى الصحابة رضي الله عنهم، عندما هاجروا إلى المدينة -كما تذكر عائشة رضي الله عنها- تذكّروا مكة وجبالهَا، وخاصة أنّ المدينة أوبأُ أرض الله من الحمّى، وقد أصابت الحمّى بعضَ الصحابة، وكان بلالٌ إذا أقلع عنهُ الحمّى اضطجعَ بفناء البيت ثمّ يرفعُ صوته:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً *** بوادٍ وحَوْلي إذْخرٌ وجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يوماً مِياه مَجنّةٍ *** وهل يبدوَن ليْ شَامَةٌ وطَفِيلُ
قالت عائشة رضي الله عنها: ثم إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: " اللّهم حبِّبْ إلَينا المدينةَ كحبِّنا مكّةَ، اللّهم وصحّحها وبارك لنا في مُدّها وصاعِها، وانقلْ حُمَّاها واجعَلْها بالجحفَة "،فغرس الله بعد ذلك حبَّ المدينة في قلب الصحابة ومَنْ بعدهم أبدَ الدهر.
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ *** مآرِبُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا
إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكَّرَتْهُمُ *** عهودَ الصِّبَا فيها فحنُّوا لذلِكا
لقد ألِفَتهُ النفسُ حتى كأنّـهُ *** لها جَسَدٌ إن بانَ غُودِرَ هالكا
التعليقات