عناصر الخطبة
1/ الأمر بمعاملة الناس بالظواهر 2/ ضرورة اعتناء المرء بإصلاح باطنه وقلبه 3/ الجمال جمالان: ظاهر وباطن 4/ الخطأ في الإغراق في الظاهر وإهمال الباطناهداف الخطبة
اقتباس
والقلب هو محل نظرِ الرب سبحانه، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرةَ عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله لا ينْظُرُ إِلى أجْسَامِكُمْ، ولا إِلى صُوَرِكمْ، وَلَكن ينْظُرُ إلى قُلُوبِكمْ وأعمالكم". فهذا حديث واضح الدِلالة على أن العمدة على عمل القلب والجوارح، ولا عبرة بالصور والأجسام فهي إلى الفناء، فعلى العبد أن يجتهد في إصلاح باطنه، وإحسانِ عمله، وألا ينشغل بجمال ظاهره، فلا قيمة له عند الرب -جل في علاه-.
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: لقد جاء الإسلام حاثًّا على العمل الصالح والإخلاص فيه، ومحذرًا من المجاهرة بالمعاصي، آمرًا الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مطالبًا الناس أن يتعاملوا مع بعضهم البعض بالظاهر، وأن يكلوا علم البواطن لله تعالى.
من هذا المنطلق سنتحدث في هذه الخطبة بمشيئة الله تعالى عن هذا الموضوع المهم، فالبعض من الناس يغرق في ظاهره ويهمل باطنه، وهذه حال المنافقين، والآخر يعتني بالباطن ويهمل الظاهر وهؤلاء فرق من الصوفية، وأما من يهمل الباطن والظاهر فهم المجانين.
معاشر المؤمنين: سنتكلم -بإذن الله- عن عناية المرء بباطنه، والمقصود به القلب، الذي هو مناط التكليف، لأنه العقلُ الحقيقي للإنسان، وهو المضغة التي في الجسد إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ولا نجاة للعبد يوم القيامة إلا أن يأتي بقلب سليم كما قال سبحانه: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
والقلب هو محل نظرِ الرب سبحانه، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرةَ عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله لا ينْظُرُ إِلى أجْسَامِكُمْ، ولا إِلى صُوَرِكمْ، وَلَكن ينْظُرُ إلى قُلُوبِكمْ وأعمالكم".
فهذا حديث واضح الدِلالة على أن العمدة على عمل القلب والجوارح، ولا عبرة بالصور والأجسام فهي إلى الفناء، فعلى العبد أن يجتهد في إصلاح باطنه، وإحسانِ عمله، وألا ينشغل بجمال ظاهره، فلا قيمة له عند الرب -جل في علاه-.
قال ابن القيم في روضة المحبين: "اعلم أن الجمال ينقسم إلى قسمين: ظاهرٍ وباطن؛ فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته كما في الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وهذا الجمال الباطن يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال فتكسو صاحبها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتست روحه من تلك الصفات، فإن المؤمن يعطى مهابة وحلاوة بحسب إيمانه، فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه، وهذا أمر مشهود بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة وإن كان أسود أو غير جميل، ولا سيما إذا رُزق حظًّا من صلاة الليل، فإنها تنور الوجه وتحسنه... ومما يدل على أن الجمال الباطن أحسن من الظاهر أن القلوب لا تنفك عن تعظيم صاحب جمال الباطن ومحبته والميل إليه".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وأما الجمال الظاهر فزينة خص الله بها بعض الصور عن بعض، وهي من زيادة الخلق التي قال الله تعالى فيها: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ)، قالوا: هو الصوت الحسن والصورة الحسنة، والقلوب كالمطبوعة على محبته كما هي مفطورة على استحسانه، وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، قالوا: يا رسول الله: الرجل يحب أن تكون نعله حسنة وثوبه حسنًا، أفذلك من الكبر؟! فقال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس". فبطر الحق جحده ودفعه بعد معرفته، وغمط الناس النظر إليهم بعين الازدراء والاحتقار والاستصغار لهم.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وكما أن الجمال الباطن من أعظم نعم الله تعالى على عبده فالجمال الظاهر نعمة منه أيضًا على عبده يوجب شكرًا، فإن شكَرَه بتقواه وصيانته ازداد جمالاً على جماله، وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه قلبه له شينًا ظاهرًا في الدنيا قبل الآخرة، فتعود تلك المحاسن وحشة وقبحًا وشينًا، وينفر عنه من رآه، فكل من لم يتقِّ الله -عز وجل- في حسنه وجماله انقلب قبحًا وشينًا يشينه به بين الناس، فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره". اهـ.
وقال ابن القيم أيضاً في الفوائد: "الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم، فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه. فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصرَ دينه وغيظ عدوه، والمذموم منه ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه، فإن كثيرًا من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك. وأما ما لا يحمد ولا يذم هو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين". اهـ.
اللهم جمّل بواطننا بالإخلاص لك، وحسن أعمالنا باتباع سنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن بعض الخلق قد أغرق في الظاهر، فأصبح يحكم على الناس بظواهرهم، ولو كانت أفعالهم تخالف ظواهرهم، فمثلاً يجعل إعفاء اللحية هو المقياس، فمن أعفى لحيته فهو التقي النزيه، ومن حلقها فهو الفاسق الفاجر، وآخر يجعل اللباس هو الحكم على الناس، ونحن نقول: إن الأصل أن من كمل باطنه بالتقوى، ظهر ذلك جليًا على الظاهر، فتنور ظاهره بالانقياد لله بتطبيق شرعه على ظاهره، ولكن لا يعني عندما لا نرى الشرع قد طبق على الظاهر، أن نحكم على الباطن بالخراب الكامل، ولو رأيت رجلاً يجلد لشربه المسكر أو مقارفته للزنى، أو السرقة، وهذه من كبائر الذنوب، فلا يلزم من ذلك أن يكون قلبه خاليًا من أعمال يحبها الله ورسوله؛ أخرج البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب: أن رجلاً على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأُمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به!! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله".
فمن هذا الحديث يتبين لنا أن المرء قد يكون فاسقًا في الظاهر، ولكن لديه أعمال في الباطن تفوق كثيرًا ممن لديه صلاح في الظاهر، فلا تتعجل بذم ولا تنقص لأخيك، فقد يكون أفضلَ منك وإن كان ضعيفَ الانقياد في الظاهر.
والعكس صحيح؛ فلا تغتر بسلامة الظاهر، فقد يكون نفاقًا ورياءً، فيكون باطنه خربًا، وظاهره عامرًا بالتقوى المزيفة.
وخلاصة الأمر: لا تتهم بواطن الناس فإنك لم تؤمر بتشقيق قلوب الناس، وإنما عاملهم بظواهرهم، ولكن عند المعاملات المالية لا تغتر بالظاهر، وعليك بفعل الأسباب، كما يجب عليك عدم احتقار الناس وازدرائهم بسبب تقصيرهم في الظاهر، فقد يكون لديهم من الأعمال الباطنة ما ليس لديك.
عباد الله: ثمة نقطة مهمة أنبه عليها، وهي تضخيم الذنوب على من فعل مخالفة دينية أو دنيوية، وهو من أهل الصلاح في الظاهر، وتسهيلها بالنسبة لغير الملتزمين، فلو رأى شخصًا ملتحيًا ويشرب الدخان لحكم عليه بالنفاق والرياء، وقد يكون رجلاً مبتلى، أو حديثَ عهد بالتزام الخير، فلا نفرّط في الحكم، فالمنكر منكر على الجميع، ولكن لا يجعلك تحكم على الباطن بذنب ظاهر على أخيك، ولربما دفعك إلى الكبر والعجب.
قال مطرف بن الشخير -رحمه الله-: "لأن أبيت نائمًا وأصبحَ نادمًا أحبُ إلى من أن أبيت قائمًا فأصبحَ معجبًا".
قال الذهبي معلقًا: "صدق؛ لا أفلح والله من زكى نفسه أو أعجبته".
عباد الله: هي أعمال القلوب التي ينبغي للعبد أن يصلحها ويراقبها، فعليها المعول، ولها نظر الرب، فأصلحوا محل نظر الرب قبل إصلاح محل نظر العبد.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
اللهم اغفر للمسلمين...
اللهم فرج هم المهمومين...
التعليقات