عناصر الخطبة
1/الأمر بالعلم أول آيات تنزل على النبي الكريم 2/فضل العلم ومنزلة أهله 3/اهتمام المسلمين بالعلم وبروزهم فيه 4/وصايا للاستفادة من العام الدراسياقتباس
مكتبة بغداد الإسلامية كانت في تلك العصور تحوي الملايين من الكتب العربية والمترجمة!. صاروا هم السادة في علوم الدين والدنيا، فهذا الشافعي يؤسس قواعد علم أصول الفقه، وهذا سيبويه يكمل بناء علم النحو، وهذا الحسن بن الهيثم يضع أسس المنهج التجريبي...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد: في ليلة ظلماء، قد التفّت بالسكون، وتغشّت بالسواد البهيم، وأطبقت عليها ظلمات الأرض, محمد بن عبدالله ماكثٌ في الغار، يعيش أجواء تلك الليلة، يفر من صخب قومه وباطلهم وظلماتهم، إلى الغار الموحش ليطلق لفكره العَنَان؛ متأملا ومتفكرا في عظمة الكون وجلال خالقه.
ما زالت الظلمةُ تسود الموقف، حتى يأذنَ الله باتصال السماء بالأرض، ويأتي الأمرُ إلى جبريلَ أن ينزلَ بالوحي على محمد بن عبدالله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق: 1 - 5], خمسُ آياتٍ كانت بمثابةِ الإعلانِ بانتهاء عصر ظلمات الجهل والجاهلية، وبداية أنوار العلم والإسلام.
"يأمر بالقراءة، والقراءة سُلَّم المجد، وطريق العلم والمعرفة، ثم يرشد إلى الاستعانة عليها باسم الرب, مُفيض التربية ووسائلها على جميع الخَلق؛ فيَشعر الإنسان بعزَّة شأنها ورِفْعة قدرها, ثم يذكُر خلْقه وتكوينه في هذا المقام، ويُردفه بنِعمة العلم؛ (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، وبذلك يُسوِّي بين نعمة الخلْق والإيجاد، ونعمة العلم"(محمود شلتوت/ مكانة العلم في نظر القرآن).
ينزل محمد بن عبدالله من غار حراء وقد حمل في صدره أول أنوار العلم، وأولَ آيات الهداية؛ ليبددَ ظلمات الجهل، ويمحوَ آثارَ الضلالة؛ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الشورى: 52].
في ظلال النبوة استعاد العلم قيمته الحقيقية، ومكانته العلية، فالرفعة والتقديم لأهله؛ (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11], في ظلال النبوة انضبطت المعايير والموازين، فلا سواءَ بين العالم والجاهل؛ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 9].
ها هو -صلى الله عليه وسلم- يوقد شموع العلم بجوامع كلمه فيقول: "من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا؛ سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ, وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ, وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ, والحيتانُ في جوفِ الماءِ, وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ, وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ, وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا, وإنما ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ".
يسمع ذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فينطلقون في ميادين العلم، ويتقدمون في ركب الأمم, تنتشر حلقات العلم في الآفاق، ويتوافد الطلاب على العلماء، حواضر الإسلام صارت تعج بالمدارس والحلقات, في المدينة مدرسة ابن عمر وأبي هريرة، وفي مكة مدرسة ابن عباس، وفي الكوفة مدرسة ابن مسعود، وفي الشام مدرسة معاذ بن جبل، وغير ذلك من المدارس التي لا تحصى.
يا إلهي! أمة العرب التي كانت معروفة بالأمية، لا تكاد تجد فيهم قارئا ولا كاتبا، هم اليوم يسلكون الطريق، ويحملون رايات العلم؛ لينشروه في الآفاق!.
هل هي ذات الأمة التي كانت قبل سنوات قليلة عالة على الأمم، لا يؤبه لهم ولا يحسب لهم حساب؟! نعم, والله!.
بآيات القرآن وبجوامع كلم الرسول شقوا طريق العلم، وسلكوا ركب الحضارة، وصار تعلم العلم ركنا أساسيا في تكوين المسلم.
طرق المسلمون منذ القرون الأولى أبواب العلم، فلا تعجب حين تكون الكتاتيب التي تعلم الأطفال القراءة والكتابة جزءا لا يتجزأ من مكونات المجتمع المسلم، ولا حين تقرأ أن حضور حلقات العلم بالآلاف كحلقة الإمام أحمد بن حنبل, ولا حين تعلم أن مكتبة بغداد الإسلامية كانت في تلك العصور تحوي الملايين من الكتب العربية والمترجمة!.
صاروا هم السادة في علوم الدين والدنيا، فهذا الشافعي يؤسس قواعد علم أصول الفقه، وهذا سيبويه يكمل بناء علم النحو، وهذا الحسن بن الهيثم يضع أسس المنهج التجريبي للعلوم، ويساهم في أبحاث الفيزياء، وهذا جابر بن حيان يكتب المقالات النافعة في الكيمياء، وهذا الخوارزمي يبرز في الرياضيات، وهذا ابن النفيس يطور علوم الطب، وغيرهم الكثير والكثير.
ظل العلم يقود الأمة أزمنة مديدة، وقرونا عديدة، حتى دب الضعف في الأمة، وانتشر الجهل، وتغلغلت الأمية، ولم يعمل كثير من المسلمين بتوجيهات القرآن والسنة، ولم يأخذوا بأسباب العلم والقوة، فكانت النتيجة أن تخلف المسلمون عن ركب الأمم.
أصاب كثير من المسلمين الكسل والخمول، وابتعدوا عن حياة الجد والاجتهاد، فأصابهم جراء ذلك الذل والضعف الهوان، حتى أطلق ذلك الشاعر صيحته مناديا ومتسائلا:
أمتي هل لك بين الأمم *** منبر للسيف أو للقلم؟!
وقد آن أن نجيب تساؤله بأن نقول: نعم, قولا وفعلا, نعم سنسلك للعلم كل سبيل، ونطرق للمعرفة كل باب.
أمتنا اليوم تعاني الضعف في شتى المجالات, وهي بحاجة إلى أقوياء من أبنائها يأخذونها بالجد وينقلونها إلى مقدمة مصاف الأمم كما كانت من قبل, ومن للإسلام إن لم نكن نحن؟, وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ".
قلت ما سمعتم, وأستغفر الله الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: ساعات قليلة تفصلنا عن عام دراسي جديد، وبين يدي هذا العام إليكم بعض التوجيهات والوصايا:
يا معشر المعلمين والمعلمات: أنتم رواد السفينة، وقادة العلم، أبناؤنا بين أيديكم، وفي أمانتكم، فخذوا الأمر بحقه، التعليم ليس مجرد وظيفة تتكسبون بها؛ بل هي أمانة تسألون عنها، فما أنتم قائلون؟! الأمل فيكم كبير، والظن -بإذن الله فيكم- لن يخيب.
يا معشر الآباء والأمهات: أنتم تضعون الغراس، وتسقون البذرة، وترقبون النماء، حببوا أبناءكم في العلم، اقرؤوا عليهم فضائله، علموهم ثمراته، أبرزوا لهم نماذجه وقدواته، شجعوا فيهم الفضول وطرح الأسئلة، حاولوا أن توجهوا شغفهم واهتماماتهم للعلم بأن تربوهم على الجد والتحصيل؛ ليكون هو الأساس، ولا مانع من جرعات من الترفيه والتسلية.
يا معشر الطلاب والطالبات: أنتم كنز الأمة، وقلبها النابض، وروحها التي تبث فيها الأمل, عليكم تعقد الآمال، وبكم تحقق الأحلام، فيكم نرى الشافعي وأحمد، وابن الهيثم وصلاح الدين, فيكم نرى عز الإسلام، وعودة مجده، وإحياء الجيل الذي ينتشل الأمة من أوحال الضعف إلى معالي القوة.
العلم خير ما تنالون به المعالي، وترفعون به الرؤوس، وتنفعون به الأمة، فأخصلوا نياتكم لله، واستعينوا به أولا وآخرا، واسلكوا سبيل الجد، يقول ابن القيم: "وقد أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم, وأن من آثر الراحة فاتته الراحة... وإذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً, وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد, وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة, والله المستعان ولا قوة إلا بالله".
اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح, اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما يا رب العالمين.
التعليقات