عناصر الخطبة
1/ في ظلال حديث: ( إذا جاءكم من ترضون دينه...)اقتباس
الدِّينَ إِذَا اسْتَقَامَ وَفُهِمَ فَهْمًا صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَرْسُمُ لِلْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ طَرِيقَ السَّعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ، الَّتِي لَا ظُلْمَ فِيهَا وَلَا تَقْصِيرَ، فَيَعْرِفُ الزَّوْجُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ فَيُؤَدِّيهَا، وَتَعْرِفُ الزَّوْجَةُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ فَتُوَفِّيهَا...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْآبَاءُ يَا وُلَاةَ الْأَمْرِ: لَوْ تَقَدَّمَ لِخِطْبَةِ مُوَلِّيَتِكُمْ بِنْتًا أَوْ أُخْتًا أَيًّا كَانَتْ، فَمَا الْمَعَايِيرُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الِاخْتِيَارُ الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الْخُطْبَةِ؛ رَفْضًا أَوْ قَبُولًا؟
إِنَّ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْوَارًا هَادِيَةً، تُضِيءُ لَنَا دُرُوبَ الْحَيَاةِ الْمُخْتَلِفَةَ، وَتُرْشِدُنَا إِلَى أَحْسَنِ الْأَقْوَالِ، وَأَسْلَمِ الْأَفْعَالِ، فَمَنِ اقْتَبَسَ تِلْكَ الْأَنْوَارَ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فَمِنْ تِلْكَ الْمَصَابِيحِ الْهَادِيَةِ: مَا جَاءَ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ".
وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،! وَإِنْ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: "إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ". ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
عِبَادَ اللَّهِ: هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ، وَمَعْلَمٌ مُنِيرٌ فِي طَرِيقِ الْعِفَّةِ، نَحْتَاجُ أَنْ نَقِفَ الْيَوْمَ مَعَهُ وَقَفَاتٍ نَقْتَبِسُ بِهَا أَنْوَارَهُ، وَنَسْتَبْصِرُ بِهِدَايَاتِهِ وَإِيحَاءَاتِهِ.
إِذَا نَظَرْتُمْ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- فِي الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ -كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ- وَجَدْتُمُوهُ صَلَاحَ الدِّينِ، وَلَمْ يَعُدَّ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بَدَلًا عَنْهُ مَالًا وَلَا جَاهًا؛ لِأَنَّ الدِّينَ إِذَا اسْتَقَامَ وَفُهِمَ فَهْمًا صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَرْسُمُ لِلْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ طَرِيقَ السَّعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ، الَّتِي لَا ظُلْمَ فِيهَا وَلَا تَقْصِيرَ، فَيَعْرِفُ الزَّوْجُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ فَيُؤَدِّيهَا، وَتَعْرِفُ الزَّوْجَةُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ فَتُوَفِّيهَا.
إِنَّنَا لَوْ نَظَرْنَا فِي الْكَفَاءَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِسْلَامِ لِلزَّوَاجِ لَوَجَدْنَاهَا صَلَاحَ الدِّينِ، وَظُهُورَ التَّقْوَى، وَلَيْسَتْ هِيَ الْمَظَاهِرَ الدُّنْيَوِيَّةَ؛ فَعَنْ سَهْلٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟". قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟". قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا".
وَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ -الَّذِي يُحْرَصُ عَلَى قَبُولِهِ- هُوَ التَّقِيُّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الْحُجُرَاتِ: 13].
وَلَيْسَتِ الْعِبْرَةُ -مَعْشَرَ الْأَخْيَارِ- بِالْأَعْرَاقِ وَلَا الْأَجْنَاسِ وَلَا الْأَلْوَانِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى"(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ).
وَالْحِرَفُ وَالصِّنَاعَاتُ وَالْأَنْسَابُ لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْقَبُولِ وَالرَّفْضِ فِي النِّكَاحِ، يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا بَنِي بَيَاضَةَ، أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِ". وَكَانَ حَجَّامًا.(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ).
وَهَذَا مِثَالٌ عَمَلِيٌّ مِنْ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَلَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْقُرَشِيَّةَ مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ، وَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّةَ الْقُرَشِيَّةَ مِنْ أُسَامَةَ ابْنِهِ، وَتَزَوَّجَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ بِأُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
يَقُولُ ابْنُ الْقِيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ حُكْمُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْتِبَارَ الدِّينِ فِي الْكَفَاءَةِ أَصْلًا وَكَمَالًا فَلَا تُزَوَّجُ مُسْلِمَةٌ بِكَافِرٍ، وَلَا عَفِيفَةٌ بِفَاجِرٍ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فِي الْكَفَاءَةِ أَمْرًا وَرَاءَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ نِكَاحَ الزَّانِي الْخَبِيثِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ نَسَبًا وَلَا صِنَاعَةً وَلَا غِنًى وَلَا حُرِّيَّةً، فَجَوَّزَ لِلْعَبْدِ الْقَنِّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ النَّسِيبَةِ الْغَنِيَّةِ إِذَا كَانَ عَفِيفًا مُسْلِمًا، وَجَوَّزَ لِغَيْرِ الْقُرَشِيِّينَ نِكَاحَ الْقُرَشِيَّاتِ، وَلِغَيْرِ الْهَاشِمِيِّينَ نِكَاحَ الْهَاشِمِيَّاتِ، وَلِلْفُقَرَاءِ نِكَاحَ الْمُوسِرَاتِ".
عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَعَ الدِّينِ الْخُلُقَ الْحَسَنَ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الدِّينِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْعُمُومِ لِأَهَمِّيَّتِهِ فِي صَلَاحِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَكَمْ مِنْ مُسْلِمٍ قَدْ يَكُونُ لَدَيْهِ صَلَاحٌ فِي دِينِهِ بِعَلَاقَتِهِ الْحَسَنَةِ بِرَبِّهِ فِي عِبَادَاتِهِ وَاجْتِنَابِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، لَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ سُوءُ خُلُقٍ، وَفَظَاظَةٌ فِي التَّعَامُلِ، وَهَذَا يُعَكِّرُ صَفْوَ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَقَدْ يَؤُولُ بِهَا إِلَى الطَّلَاقِ، يَقُولُ -تَعَالَى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آلِ عِمْرَانَ: 159].
وَلَمَّا كَانَ سُوءُ الْخُلُقِ يَضُرُّ اسْتِمْرَارَ الْعِشْرَةِ الْحَسَنَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُحَذِّرُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْمُوَافَقَةِ عَلَى الزَّوَاجِ بِرَجُلٍ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- لَمَّا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَتَقَدَّمَ لِخِطْبَتِهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ". وَفِي رِوَايَةٍ: "فِيهِ شِدَّةٌ عَلَى النِّسَاءِ".
يَقُولُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ:
رَأَيْتُ رِجَالًا يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ ** فَشُلَّتْ يَمِينِي يَوْمَ أَضْرِبُ زَيْنَبَا
أَأَضْرِبُهَا فِي غَيْرِ جُرْمٍ أَتَتْ بِهِ *** إِلَيَّ فَمَا عُذْرِي إِذَا كُنْتُ مُذْنِبَا
فَتَاةٌ تُزِينُ الْحَلْيَ إِنْ هِيَ حُلِّيَتْ *** كَأَنَّ بِفِيهَا الْمِسْكَ خَالَطَ مَحْلَبَا
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ اجْتِمَاعَ الدِّينِ وَالْخُلُقِ فِي الرَّجُلِ هُوَ الْمِعْيَارُ الشَّرْعِيُّ لِقَبُولِ الْخَاطِبِ، وَبِهِمَا تُبْنَى الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ السَّعِيدَةُ، فَمَنْ جَمَعَهُمَا فَهُوَ التَّقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي أَلَّا يُرَدَّ.
ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ: "إِنَّ لِي بِنْتًا أُحِبُّهَا وَقَدْ خَطَبَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ. فَمَنْ تَرَى أَنْ أُزَوِّجَهَا؟ قَالَ: زَوِّجْهَا رَجُلًا يَتَّقِي اللَّهَ؛ فَإِنَّهُ إِنْ أَحَبَّهَا أَكْرَمَهَا، وَإِنْ أَبْغَضَهَا لَمْ يَظْلِمْهَا"(إِرْشَادُ السَّارِي لِشَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ).
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي خَاطِبِ مُوَلِّيَتِهِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الْمَالَ أَوِ الْجَاهَ مَعَ الْفُجُورِ فَقَدْ جَنَى عَلَيْهَا، فَعَنِ الْإِمَامِ الشَّعْبِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: "مَنْ زَوَّجَ فَاسِقًا فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهُ".
أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ الْكِرَامُ: وَكَمَا يُعْتَبَرُ هَذَا الْمِعْيَارُ فِي الرَّجُلِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَرْأَةِ أَيْضًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي يَدْعُو الرِّجَالَ لِخِطْبَةِ النِّسَاءِ -فِي الْغَالِبِ- هَذِهِ الْأَوْصَافُ، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَثَّ عَلَى اخْتِيَارِ ذَاتِ الدِّينِ. فَمَنْ خَطَبَ امْرَأَةً لِجَمَالِهَا وَحْدَهُ، أَوْ لِمَالِهَا أَوْ حَسَبِهَا فَقَطْ مَعَ غِيَابِ الدِّينِ، فَقَدْ خَالَفَ هَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. أَمَّا إِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا مَعَ الدِّينِ فَهِيَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِصَلَاحِ دِينِ الزَّوْجِ أَثَرًا فِي صَلَاحِ الْأُسْرَةِ فَكَذَلِكَ لِلزَّوْجَةِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: "وَالْمَرْأَةُ ذَاتُ الدِّينِ لَهَا تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ جِدًّا فِي صَلَاحِ الْأُسْرَةِ وَتَرْبِيَةِ أَبْنَائِهَا عَلَى مَعَانِي الْإِسْلَامِ وَحُسْنِ الْأَخْلَاقِ؛ وَلِذَلِكَ وَجَّهَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ غَارَتَهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ؛ لِاسْتِئْصَالِ مَا فِي نَفْسِهَا مِنْ مَعَانِي الْخَيْرِ وَالدِّينِ"(أُصُولُ الدَّعْوَةِ).
فَمَا أَجْمَلَ الْحَيَاةَ الزَّوْجِيَّةَ إِذَا حُفَّتْ بِصَلَاحِ طَرَفَيْهَا، وَبُنِيَتْ بِنَاءً صَحِيحًا مُنْذُ عَقْدِهَا، فَلَنْ يَنْتَظِرَ الْمُجْتَمِعُ الْمُسْلِمُ -بِإِذْنِ اللَّهِ- إِلَّا الذُّرِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ، فَصَلَاحُ الْفُرُوعِ بِصَلَاحِ الْأُصُولِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ أَزْوَاجَنَا وَذُرِّيَّاتِنَا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُبَارَكَ قَدْ خَتَمَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبَيَانِ الْأَثَرِ الْعَامِّ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ تَزْوِيجِ ذِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ".
"يَعْنِي: إِذَا طَلَبَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ تُزَوِّجُوهُ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِكُمْ أَوْ أَقَارِبِكُمْ، فَانْظُرُوا: فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا صَالِحًا حَسَنَ الْخُلُقِ فَزَوِّجُوهُ؛ لِأَنَّكُمْ لَوْ لَمْ تُزَوِّجُوا نِسَاءَ أَقَارِبِكُمْ إِلَّا مِنْ مَعْرُوفٍ صَاحِبِ مَالٍ وَجَاهٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَمِيلُ إِلَيْهَا أَبْنَاءُ الدُّنْيَا، يَبْقَى أَكْثَرُ نِسَائِكُمْ بِلَا زَوْجٍ، وَيَبْقَى أَكْثَرُ الرِّجَالِ بِلَا زَوْجَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَمِيلُ الرِّجَالُ إِلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءُ إِلَى الرِّجَالِ، وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَلْحَقُ الْأَوْلِيَاءَ الْعَارُ بِنِسْبَةِ الزِّنَا إِلَى نِسَائِهِمْ".
فَمِنَ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ رَدِّ ذِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ وَالْقَبُولِ بِالْفَاسِقِ وَالسَّيِّئِ: انْتِشَارُ الْبِغَاءِ، وَحُصُولُ الشَّحْنَاءِ وَالْبَغْضَاءِ، وَتَرْكُ إِقْبَالِ النَّاسِ عَلَى الدِّينِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَالرِّضَا بِالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَانْفِصَامُ عُرَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَثْرَةُ الْمُشْكِلَاتِ فِيهَا، وَانْتِشَارُ ظَاهِرَةِ الطَّلَاقِ، وَضَيَاعُ الْأَوْلَادِ بِتَفَرُّقِ وَالِدَيْهِمْ.
فَانْظُرُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- إِلَى هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي لَوْ كَانَ الدِّينُ وَالْخُلُقُ هُوَ مِعْيَارَ الْقَبُولِ دُونَ مَعَايِيرِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا؛ لَحَصَلَ خِلَافُ هَذِهِ الْآثَارِ: فَانْتَشَرَ الْخَيْرُ، وَشُجِّعَ النَّاسُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ وَالْخُلُقِ؛ لِيُقْبَلُوا عِنْدَ أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ أَزْوَاجًا، وَلَاسْتَقَامَ حَالُ الْأُسْرَةِ وَقَلَّتِ الْخِلَافَاتُ وَلَمْ يُصْبِحِ الطَّلَاقُ ظَاهِرَةً تُهَدِّدُ الْمُجْتَمَعَ الْأُسَرِيَّ، وَلَعَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[الْبَقَرَةِ: 228].
أَلَا فَتَأَمَّلُوا -عِبَادَ اللَّهِ- فِي بَصَائِرِ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، وَاعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمِعْيَارَ الصَّحِيحَ لِلْقَبُولِ بِالْخَاطِبِ أَوِ الْمَخْطُوبَةِ هُوَ الدِّينُ وَالْخُلُقُ؛ لِمَا لَهُمَا مِنَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ عَلَى الْأُسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ، فَإِذَا أَعْرَضَ النَّاسُ عَنْ هَذَا الْمِعْيَارِ وَاعْتَبَرُوا غَيْرَهُ بَدَلًا عَنْهُ؛ فَإِنَّ بِنَاءَ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَهَلْ مِنْ سَامِعٍ يَعِي، وَوَاعٍ يَعْمَلُ؟
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات