عناصر الخطبة
1/أهمية العبودية لله ومفهومها 2/شرف العبودية لله 3/عبودية النبي صلى الله عليه وسلم لربه 4/صفات العبد الحقيقياقتباس
العبودية لله هي كمال الخضوع والذلّ له سبحانه محبّةً له وتعظيمًا، فإنّه سبحانه الربُّ الجليل، خالقُ كلِّ شيء ومليكُه، وهو القويّ القدير، وهو الرحمن الرحيم، العفوّ الكريم، الجوادُ الودود...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
عباد الله: إنّ عبادة الله هي الغاية التي لأجلها خلق سبحانه الجن والإنس، ولأجلها شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
والعبودية لله هي كمال الخضوع والذلّ له سبحانه محبّةً له وتعظيمًا، فإنّه سبحانه الربُّ الجليل، خالقُ كلِّ شيء ومليكُه، وهو القويّ القدير، وهو الرحمن الرحيم، العفوّ الكريم، الجوادُ الودود، الذي يُحَبّ ويعظَّم؛ لِكمالِ جَماله، وعظيمِ إنعامه.
والعبادُ فقراءُ إلى الله محتاجون إليه في كلِّ شؤونهم، فما كانَ لهم وجودٌ قبل أن يخلقهم، ولولا رَزقه لهم ما طَعِموا ولا شربوا ولا لبسوا، ولولا هدايتُه لهم ما علموا ولا فهموا ولا اهتدوا، ولولا رحمتُه بهم لهلَكوا.
روى مسلم عن أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن الله تعالى قال: “يا عبادي إني حرّمتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالَموا. يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستَهدُوني أهدِكم. يا عبادي كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستَطعِموني أُطعمْكم. يا عبادي كلُّكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاستَـكـسُوني أَكسُكُم. يا عبادي إنكم تُخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفرْ لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتَضُرُّوني ولن تبلغوا نَفعي، فتنفعُوني. يا عبادي لو أن أوّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلْبِ رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئا. يا عبادي لو أن أوّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم، ما نقص ذلك من مُلكي شيئا”.
أيها الإخوة في الله: إن عبودية العَبد لله تعالى عِزّةٌ له وشرَف، فأشرفُ صفات المسلم صفةُ العبودية، ولذلك وصف الله تعالى عباده الصالحين بهذا الوصف، وناداهم به، فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا).
وذكر أنبياءه وملائكته بوصف العبودية فقال: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ)، (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ)، وقال: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).
بل ذَكَر الله تعالى أكرمَ خلقِه وأعلاهم منزلةً عنده محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ووصفه بالعبودية في أشرف مقاماته، كمقام الإسراء في قوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)، ومقام الدعوة إليه: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)، ومقام إنزال الوحي: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ).
وكانَ -صلى الله عليه وسلم- يخضع لربهِ ويتعبّد له تعظيمًا وخضوعًا لجلاله سبحانه، حتى اختار -صلى الله عليه وسلم- مقام العبودية عَلَى مقام المُلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جلس جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنظر إلى السماء، فإذا ملَك ينزل، فقال له جبريل: هذا الملَك ما نزل منذ خُلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد! أَرسَلَني إليك ربُّك، أفملِكًا نبيًّا يجعلُك أو عبدًا رسولًا؟ فقال له جبريل: تواضَع لربك يا محمد! فقال -صلى الله عليه وسلم-: “لا، بل عبدًا رسولًا”(أخرجه أحمد).
وكانَ من عبوديّته -صلى الله عليه وسلم- أنه يكره أن يأكل متّكئًا، بل يأكلُ جالسًا على الأرض، ويقول: “آكُل كما يأكل العبد، وأجلسُ كما يجلس العبد”(أخرجه البغوي وصحّحه الألباني).
وكانَ -صلى الله عليه وسلم- يقوم الليل تعبّدًا لله وتقرّبًا إليه حتّى تتفطّر قدماه، فقالت له عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله! أتصنعُ هذا، وقد غُفِر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: “يا عائشة! أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟”(متفق عليه).
وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنّه دعا عشيّةَ عرفة فقال: “اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سِرِّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، وأنا البائسُ الفقير، المستغيثُ المستجير، الوجِلُ المشفق، المقرّ المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهالَ المذنبِ الذليل، وأدعوك دعاء الخائفِ الضّرير، من خضعت لك رقبتُه، وفاضت لك عَبرتُه، وذَلّ لك جسمُه، ورَغِمَ لك أنفُه”(أخرجه الطبراني).
وثبتَ أنّه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعائه: “اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ”(أخرجه الترمذي).
وإنّـما أراد بذلك التواضعَ والإخباتَ لله، وألّا يكون من الجبّارين المتكبّرين، أعاذنا الله منهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ليستِ العُبوديةُ دعوىً يدّعيها المسلم بلسانه، بل هي معنىً يملأ القلب، فيُخبتُ لله ويخضع، ثم تنقادُ الجوارحُ تبعًا له، فيظهرُ عليها الخشوعُ لله، والاستكانةُ له، وتنقادُ لشريعتِه، وتمتثلُ أمرَه، وتُسلّمُ لـحُكمِه.
إنّ العبد الحقيقيّ: هو الذي يبحث عن مُرادِ ربّه وسيّده، فيتدبّر القرآن، ويقرأ السنّة، ويسأل العلماء، ليعلم ما يحبّه مولاه ويرضاه.
العبدُ الحقيقيّ: هو الذي يؤدّي عباداتِه بِرُوحِه قبل جسده، فيقِفُ في صلاته خاشعًا، ويسجُد لله خاضعًا، ويتصدّق بماله طيّبةً نفسه، ويَصُوم لله مستكينًا لعَظَمته.
العبدُ الحقيقيّ: هو الذي يُصدّق خبر الله، ويُحلّ ما أحلّ الله، ويُحرّم ما حرّم الله، ولا يعارض كلامَ الله ووَحيَه برأيه القاصر، وعقله الضعيف.
العبدُ الحقيقيّ: إذا كانَ له هوىً وميلٌ وشهوةٌ إلى الحرام، خاف مقامَ ربّه ونهى النفس عن الهوى، فلا يقدّم مرادَه على مرادِ الله، بل هو مُسلِمٌ نفسه لأمر الله.
العبدُ الحقيقيّ: لا يرى لنفسه حقًّا على الله مهما عمل من الصالحات، فإنّ اهتداءَه إنما هو بهداية الله، وصلاحَه بتوفيق الله، فإذا أنعم الربّ عليه بالثواب فهذا تفضّلٌ منه وإحسان، لا نصيبٌ مستحَقّ.
العبدُ الحقيقيّ: إذا أنعمَ اللهُ عليه بالدُّنيا قابَلَه بالشُّكر والعِرفان، لا بالاعتداد والنِّسيان، وإذا ابتلاهُ الله فضيَّقَ عليه، علمَ أن لربّه حكمةً في حُكمه، والربُّ لا يُسأل عن فعله، ولا يُعترض عليه في قضائه، فيزداد المسلم عبوديةً واستكانةً وتضرّعًا لله.
العبدُ الحقيقيّ: لا يَخضعُ لغير خالقِه ومالكِه سبحانه، فلا يرضى أن يخضعَ ويستكينَ لمخلوقٍ مهما كانَ قَدْرُه، فلا يَلتجئُ إلى صالحٍ أو وليّ، ولا يستغيثُ بقبرٍ أو يحلفُ بنبيّ، كما أنه لا يكونُ عبدًا لدنيا أو مالٍ أو متبوعٍ معظّمٍ أو شهوةٍ تفنى وتبقى حسراتها.
فهذا العبد هو الذي يحفظه الله من الشيطان ومكائده، قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وهو الذي يتولّاه ربُّه برحمتِه، ويكفيه ما أهمّه من أمر الدنيا والآخرة: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)؟ ، وهو الذي يبشّره يوم القيامة (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ). جعلنا الله جميعًا منهم.
ثم صلُّوا وسلِّموا على نبيِّنا محمّد، اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونسألك الجنة وما يقربنا إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقربنا إليها من قول وعمل، ونسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-. اللهم وفّق وليّ أمرنا لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبِرِّ والتقوى. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبّحوه بكرةً وأصيلًا، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.
التعليقات