عناصر الخطبة
1/ الصراط عقبة كؤود 2/ وصف الصراط 3/ هول المرور على الصراط 4/ أصناف المارّين على الصراط 5/ أول من يجوز الصراط 6/ على قدر الأعمال يكون العبور 7/ مشهد المؤمنين ومشهد المنافقين على الصراط 8/ الحث على الأعمال المنجية من الصراط 9/ أشعار في الصراطاهداف الخطبة
1/ التذكير بالقيامة وأحوالها 2/ تذكير الناس بالصراط وهوله 3/ إظهار فضل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته يوم الوقوف على الصراط 4/ الحث على الأعمال الصالحة المنجية من الصراطاقتباس
يحرص الناس في الدنيا على وسائل النقل السريعة للتنقُّل في أسفارهم، ولو أدَّى ببعضهم إلى دفع مبالغ باهظة، فترى أحدهم يفضل السفر إلى البلد البعيد بالطائرة رغم ارتفاع تذكرتها عن غيرها من الوسائل، ليس إلا رغبة في الوصول بأسرع ما يمكن، ولئلا يصيبه عناء السفر. أليس أولى بالمسلم أن يجاهد نفسه في الدنيا بالإكثار من الأعمال الصالحة كي يجتاز هذا الصراط بأسرع ما يمكن؟ فإنه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله فاطر السماوات والأرض، وجامع الناس ليوم المعاد والعرض، ومورد الخلق على الصراط يوم العرض، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، بعثه الله -تعالى- للإيمان منادياً، وإلى دار السلام داعياً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً.
وفرض على العباد طاعته، والقيام بحقوقه، وسد جميع الطرق إلى الجنة فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، فبلغ رسالة ربه، ونصح لعباده، حتى لحق بالرفيق الأعلى، وترك أمته على المحجة البيضاء، فسلكها الراغبون في جنات النعيم، وعدل بها المخذولون إلى طريق الجحيم، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إذا قامت القيامة، وحشر الله الخلائق، وقام الناس من قبورهم لرب العالمين، ووقفوا بين يديه -سبحانه وتعالى-، فهناك يلاقي العباد في ذلك اليوم شيئاً عظيماً من الأهوال والكروب، والشدائد والمصاعب، ولن ينجو من تلك الأهوال إلا من أعدَّ لذلك اليوم عدته من الإيمان والعمل الصالح، ثم يساق العباد في ختام ذلك اليوم إلى دار القرار: إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وقبل دخول الجنة أو النار يمر الناس بهول عظيم، وكرب شديد، وعقبة كؤود، إنها عقبة المرور على الصراط، هذه العقبة التي لا مفر من ولوجها، ولا مناص من المرور عليها، وقد أقسم الرب جل جلاله وعز كماله أن يورد عباده عليها، فقال: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) [مريم:71-72]، فورود المسلمين للنار يكون بالمرور على الصراط الذي بين ظهرانيها، وورود المشركين للنار أن يدخلوها.
إن أعظم الكرب وأخطر المواقف يوم القيامة موقف الصراط والمرور عليه، فالرهان الحقيقي يكون عليه، والسباق المصيري يكون فوقه، فمن نجا فقد فاز بالعلا، ومن سقط فإلى نار تلظى، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) [يس:66].
أيها المسلمون: إن الصراط جسر ممدود على متن جهنم، أحدُّ من السيف، وأدقّ من الشعرة، تزل فيه الأقدام وتدحض، وطريق موحش مسود حارق، على حافتيه خطاطيف وكلاليب من نار معلقة، يجتازه كل الناس، وكل فرد منا سيمر عليه، فإما أن يكمل العبور بسهولة، وإما يعبره بمشقة وصعوبة، وإما أن ينتكس ويسقط! أعاذنا الله وإياكم!.
روى سلمان الفارسي -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ".... ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من يجوز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي. فيقولون: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك!" صحيح الترغيب والترهيب.
وقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "بلغني أن الجسر أدق من الشعرة، وأحَدُّ من السيف" رواه مسلم.
وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أيضا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ".... ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم"، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: "مدحضة مزلة"، أي: طريق زلق تزلق فيه الأقدام، "عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان" رواه البخاري.
أضف إلى هذا أن الأمم سيكونون على هذا الصراط يوم تبدل الأرض والسموات، فيا الله! كيف يكونون على صراط أحد من السيف، وأدق من الشعرة؟ سبحانك ربنا ما أعظمك!.
تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله -عز وجل-: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) [إبراهيم:48]، فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: "على الصراط" رواه مسلم.
وفي رواية عند أحمد قال: "هم على جسر جهنم" رواه أحمد.
فالمرور على الصراط من أخطر كرب يوم القيامة، إن لم يكن هو أخطر الكربات وأعظم الأهوال، لأن فيه من الشدائد والخوف والرعب ما لا تتحمله عقول الخلق ولا نفوسهم.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: " ذكرت النار فبكيت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يبكيك؟"، قلت: ذكرت النار فبكيت؛ فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل، وحيث الكتاب حين يقال: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ) حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم" رواه أبو داود.
فانظروا -أيها الناس- إلى هذا الهول العظيم، حتى إن المرء لا يذكر في تلك الساعة إلا نفسه، وذلك لشدة الهول والفزع.
إن هذه الأحاديث توضح لنا جلياً أن نصب الصراط يعد كرباً من الكرب الكبيرة التي تستوجب علينا الحرص على الأعمال التي تنجينا منه؛ لذا قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه".
بل إن من هول الصراط وشدته وصعوبته يأتي رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، ليحضر هذا الموقف رحمة منه وشفقة بأمته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: " سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لي يوم القيامة فقال: "أنا فاعل"، قال: قلت: يا رسول الله، فأين أطلبك؟ قال: "اطلبني أول ما تطلبني على الصراط"، قال: قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟، قال: "فاطلبني عند الميزان"، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: "فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن" صحيح الترغيب والترهيب.
ومن شدة هوله أنه لا يتكلم عند إجازته إلا الرسل داعين الله -تعالى- بالسلامة لمن عبره من أتباعهم، كما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذٍ: اللهم سلم سلم" متفق عليه.
أيها المسلمون: إن المارين على الصراط ينقسمون عند المرور عليه إلى أربعة أصناف: فمنهم من يمر عليه سريعاً كالبرق فينجو منه، فلا يمسه حر جهنم ولا كلاليب الصراط، ومنهم من تخدشه كلاليب الصراط أو تقطّع لحمه ثم ينجو، ومنهم من يحبس على الصراط فيعاني الشيء العظيم من لفح جهنم وغير ذلك من أصناف العذاب وألوان الخوف والرعب الذي تنخلع له الأفئدة حتى ينجو، ومنهم من يوبقه عمله فيسقط في النار والعياذ بالله.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يوضع الصراط بين ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان، ثم يستجيز الناس، فناج مسلّم، ومخدوج به -أي: مخدوش- ثم ناج، ومحتبس به، ومنكوس فيها " صحيح الجامع.
وأول من يجوز الصراط من الأمم أمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لكرامتها عند الله -عز وجل-، وأول من يجوز من هذه الأمة هو سيدنا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والأنبياء بجنبتي الصراط، وأكثر قولهم: اللهم سلم سلم، فأكون أنا وأمتي أول من يمر، أو قال: أول من يجيز" السنة لابن أبي عاصم.
وأول من يجوز من هذه الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم- هم فقراء المهاجرين، فقد جاء عن ثوبان -رضي الله عنه- مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن حبراً من أحبار اليهود سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة أسئلة كان منها قوله: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هم في الظلمة دون الجسر"، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: "فقراء المهاجرين" رواه مسلم.
وأما آخر الناس مروراً على الصراط فهو الذي يمشي مرة ويكبو مرة، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك؛ لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين" رواه مسلم.
عباد الله: إن مرورنا على الصراط يكون على قدر أعمالنا، فعلى قدر عملك سيكون قدر مرورك، فأعمالك الصالحة هي التي ستحدد مقدار سرعتك عليه، وهي وقودك ومطيتك على الصراط، لأنها هي التي تجري وتمشي بك في هذا الجسر الرهيب، لذا فإن كثرة الأعمال الصالحة تزيد من سرعتك واجتيازك للصراط بسلام.
والناس ستتفاوت سرعاتهم على الصراط تبعا لمراتبهم وتفاوت أعمالهم الصالحة، فالرجل الذي يأتي يوم القيامة على الصراط فلا يستطيع السير إلا زحفا، لماذا؟ إنه لقلة عمله، وانتهاء وقوده الذي يدفعه إلى المشي للأمام، ولعدم مسابقته في الدنيا إلى الخيرات.
بينما تراه يسابق على حطام الدنيا ويجاهد نفسه فيها، ونسي أو غفل عن الآخرة والصراط، فكان جزاؤه من جنس عمله، فتباطؤه وتأخره عن الأعمال الصالحة في الدنيا جعله يتأخر في الصراط، لأن الأعمال الصالحة هي التي تجري بالمرء على الصراط، فلن يجري به نسبه، ولا حسبه، ولا شهرته، ولن ينفعه في تلك الساعة إلا أعماله.
وتفكروا فيمن على الصراط وهو يزحف فوق الصراط وتحته النار، فيأتيه من لهيبها وسمومها ما يزيده شدة فوق شدته، وعذاباً فوق عذابه، فمتى سيقطع الصراط وهو على هذه الحالة؟ وكم سيعاني من حر النار ولهيبها؟ نسأل الله السلامة والعافية.
أبعد هذا يجرأ أحدنا على تضييع وقته وتسويف توبته، وأمامنا عقبات وكرب وأهوال؛ لا يكون الخلاص منها سوى بالرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- والإكثار من الأعمال الصالحة، والاستغفار من الذنوب!.
يحرص الناس في الدنيا على وسائل النقل السريعة للتنقُّل في أسفارهم، ولو أدَّى ببعضهم إلى دفع مبالغ باهظة، فترى أحدهم يفضل السفر إلى البلد البعيد بالطائرة رغم ارتفاع تذكرتها عن غيرها من الوسائل، ليس إلا رغبة في الوصول بأسرع ما يمكن، ولئلا يصيبه عناء السفر. أليس أولى بالمسلم أن يجاهد نفسه في الدنيا بالإكثار من الأعمال الصالحة كي يجتاز هذا الصراط بأسرع ما يمكن؟ فإنه طريق ليس مفروشاً بالورود والمناظر الخلابة، وإنما طريق مزلة، كله كلاليب، وأهوال، وعذاب.
يقول الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: " فتفكر الآن فيما بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك من المشي على بساط الأرض، فضلاً عن حدة الصراط؛ فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني، والخلائق بين يديك يزلون ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم، كيف يُنكَّسون فتسفل إلى جهة النار رؤوسهم، وتعلو أرجلهم، فيا له من منظرٍ ما أفظعه! ومُرْتَقَىً ما أصعبه! ومجاز ما أضيقه!" التذكرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، يزكيهم، ويعلمهم، وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: مما يزيد من هول الصراط وكربته الظلمة المطبقة التي عليه، فمع أنه أحدّ من السيف، وأدقّ من الشعرة، إلا أنه أيضاً مسود مظلم لا يستطيع أحد الرؤية عليه إلا من آتاه الله نوراً يهتدي به في تلك الظلمات، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40].
وهذا النور يعطيه الله للمؤمنين، كل مؤمن على قدر عمله ليبصر به في ذلك الظلام الدامس، ويعطيه أيضاً للمنافقين مكراً بهم، فبينما هم يمشون على الصراط إذ ذهب ذلك النور، وأما الكافر فإنه يمشي في ظلام بهيم ولا يعطى من النور شيئاً.
فعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- يسأل عن الورود فقال: نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انْظُر أَي ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ، قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد، الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك.
قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم منافقا كان أو مؤمنا نورا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر؛ سبعون ألفا لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء، ثم كذلك، ثم تحل الشفاعة، ويشفعون، حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شَعِيرَةً ، فيجعلون بِفنَاءِ الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ويذهب حراقه، ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها. رواه مسلم.
ولقد وصف الله لنا مشهد المؤمنين وهم يسعون في نورهم، ومشهد المنافقين وهم يتخبطون في ظلمتهم، وينادون المؤمنين أن ينتظروهم ليقتبسوا من نورهم ليروا طريقهم، فقال الله -تعالى-: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد:12-15].
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في قول الله -عز وجل-: (يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، منهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفئ مرة ويُقدّ مرة" رواه الحاكم.
وفي رواية أخرى له -رضي الله عنه- أنه قال: "على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورا من إبهامه، يتَّقدُ مرة ويطفئ مرة" مصنف ابن أبي شيبة.
وإن أهم الوسائل المعينة على الثبات على الصراط وعلى جوازه سالماً دون أن تلفحك النار ودون السقوط منه: التقرب إلى الله -تعالى- بكل ما يحبه ويرضاه، وتجنب كل ما يسخط الله -تعالى- ويأباه من شهوات محرمة، وكبائر ذنوب توعد أصحابها بالنار، أو اللعن، أو الغضب، أو العذاب الأليم.
فالإكثار من الأعمال الصالحة عموماً، والمنجية من النار والمسرعة على الصراط والكاشفة للظلمة التي عليه خصوصاً؛ والمبادرة إلى الاستغفار من كل ذنب نقع فيه، خاصة الكبائر، هو سبيلنا الوحيد للنجاة من هول هذا الكرب.
ومن فرّط في ذلك، وَأَلْهَتْهُ حياته عن آخرته، ولم يأخذ الأمر بالجد، ندم أشد الندم، ولات ساعة مندم عند اشتداد الكرب وركوب الصعاب، والعبور على الصراط، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً) [النساء:31].
لقد كان أسلافنا الصالحون يعيشون همَّ هذا الصراط، ويجعلونه نصب أعينهم في كل تصرفاتهم، فزكت نفوسهم، وقلت ذنوبهم، وكثرت حسناتهم. فهل نحذو حذوهم؟.
أَبَتْ نفسي تتوبُ فما احتيالي؟ *** إذا برز العباد لذي الجلالِ
وقاموا من قُبورهم سُكَارَى *** بأوزارٍ كأمثالِ الجبال
وقد نُصِبَ الصِّراطُ لكي يجوزوا *** فمنهم من يكبُّ على الشّمال
ومنهم من يسيرُ لدارِ عَدْنٍ *** تلقَّاهُ العرائسُ بالغوالي
يقول له الْمُهَيْمِنُ يا وَلِيِّي *** غَفَرْتُ لك الذنوب فلا تبالي
وقال آخر:
إذا مُدَّ الصراطُ على جحيمٍ *** تصولُ على العُصَاةِ وتَسْتَطِيلُ
فقَوْمٌ في الجحيم لهم ثُبُورٌ *** وقومٌ في الجِنَان لهم مَقِيل
وبان الحقُّ وانكشف الْمُغَطَّى *** وطال الويلُ واتَّصَلَ العويل
اللهم اجعلنا ممن يمر على الصراط كالبرق يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نعوذ بوجهك العظيم من أن نكون من المنتكسين على الصراط أو المخدوشين. اللهم ارحمنا يوم المرور على الصراط برحمتك يا رحمن يا رحيم.
اللهم اشرح صدورنا, ويسِّر أمورنا, وثبت الإيمان في قلوبنا، اللهم اشغلنا دوماً بطاعتك وأبعدنا عن معصيتك.
اللهم إنا نسألك برد العيش بعد الموت, ونسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة, ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان, واجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا من أهل لا إله إلا الله, وممن تظلهم في ظل لا إله إلا الله, وممن سعدوا بلا إله إلا الله, وممن رضوا بلا إله إلا الله, ورضيت عنهم بها, واجعلها لنا في الميزان.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الجنات، وأن تباعدنا عن النار دار الهلكات، وأن تتوفانا على الإيمان والتوحيد، وتعيذنا من الكفر والشرك والتنديد، إنك جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
التعليقات