عناصر الخطبة
1/فضائل الصدق ومكانة الصادقين 2/ مجالات الصدق 3/ ثمرات الصدق في الدنيا والآخرة.اقتباس
تجده يتعامل بالربا ويكذب على نفسه، ويقول ضرورة عصرية ومعاملة بنكية، تجده يسرف على نفسه بالمعاصي، ويقول طالما أن القلب أبيض لا يضرك شيء، تجده يترك الجُمَع والجماعات ويبارز الله في الخلوات بالمحرمات، ويقول: إن الله غفور رحيم...
الخطبة الأولى:
حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر عن منزلة من منازل أهل الإيمان؛ إنها منزلة الصدق، من نزلها فاز في الدارين ونجا؛ فالصدق شديد على النفس؛ ولهذا قال ابن القيم: "فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم، فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل، والرياء والكذب خفيف كالريشة، لا يجد له صاحبه ثقلاً البتة، فهو حامل له في أي موضع اتفق، بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة، فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله" (مدارج السالكين: 2/276).
أيها الأحباب: اعلموا أن الله -تعالى- امتدح الصدق والصادقين في غير ما آية من القرآن الكريم فأمر الله -تعالى- المؤمنين بالصدق فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين)[التوبة:119].
اعلموا عباد الله: أن الصدق صفة من صفات الله الحسنى قال -سبحانه-: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ)[آل عمران:95]، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)[النساء:122]: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)[النساء: 87].
الصدق من صفات الأنبياء والرسل: والصدق -أيها الإخوة- من صفات الأنبياء والرسل قال: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)[يس:52]، وقال إبراهيم –عليه الصلاة والسلام-: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)[الشعراء:83-84]، و(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)[مريم:41].
وقال الله -تعالى- عن إِسْحَاق وَيَعْقُوب -عليهما السلام-: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)[مريم:49-50].
وقال الله -تعالى- عن إسماعيل-عليه السلام-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)[مريم:54]، وقال الله -تعالى- عن إدريس-عليه السلام-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)[مريم:56]، وقال الله -تعالى- عن يوسف -عليه السلام-: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ)[يوسف:46].
وهذا سيّد الأولين وإمام الصادقين -صلى الله عليه وسلم- كان أصدق الناس وأبرّهم وأكملهم علمًا وعملاً وإيمانًا ويقينًا، كان معروفًا بالصِّدق في قومه، وقد كان ذلك فيه بمثابة السّجيّة والطّبع؛ فعُرِفَ بذلك حتّى قبل البعثة، وكان لذلك يُلقّب بالصّادق الأمين، واشتهر بهذا وعُرف به بين أقرانه.
وبعد البعثة المباركة كان تصديق الوحي له مدعاة لأن يطلق عليه أصحابه "الصّادق المصدوق"، وصدق الله -عزّ وجلّ- إذ قال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم:2-4].
عباد الله: إن للصدق مجالات متعددة كلها تنبثق عن الإيمان بالله -تعالى- واتباع شرعه والسير خلف الأنبياء والمرسلين، وهاكم بيانها بحول الله -تعالى- وطوله:
أولاً الصدق مع الله؛ الصدق مع الله "ويكون المسلم صادقاً مع ربِّه -تعالى- إذا حقَّق الصدق في جوانب ثلاثة: الإيمان والاعتقاد الحسَن، والطاعات، والأخلاق، فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، والصادق فيه هو مَن حقّقه على الوجه الذي أراده منه ربه -تعالى-، ومنه الصدق في اليقين، والصدق في النية، والصدق في الخوف منه -تعالى-، وليس كل من عمل طاعة يكون صادقًا حتى يكون ظاهره وباطنه على الوجه الذي يحبه الله -تعالى-.
وقد بَينَّ الله -تعالى- صفات الصادقين في آية واحدة، وهي قوله -عز وجل-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)، ثم قال -سبحانه- بعد هذه الأوصاف كلها: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البقرة:177].
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ليس شيء أنفع للعبد من صدق ربه في جميع أموره، مع صدق العزيمة، فيصدقه في عزمه وفي فعله قال -تعالى-: (فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم)؛ فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل، ومن صدق الله في جميع أموره صنع له فوق ما يصنع لغيره"(الفوائد:ص186).
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لم يشهد عمي أنس بن النضر بدرًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكبُر عليه، فقال: أول مشهد قد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غبتُ عنه!! أما والله لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد من العام المقبل، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو، إلى أين؟ قال: واهًا لريح الجنة!! أجدها دون أُحُد. فقاتل حتى قُتِلَ، فوُجِدَ في جسده بضعٌ وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قالت عمَّتِي الرُّبَيّعُ بنت النضر: فما عَرَفتُ أخي إلاَّ ببنانه. ونزلت هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)[سورة الأحزاب:23]. (صحيح مسلم: 1903).
قال الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي: "رِبْعِيّ بن حِرَاشٍ، تابعي ثقة، لم يكذب قط، كان له ابنان عاصيان زمن الحجاج، فقيل للحجاج: إنَّ أباهما لم يكذب قط، لو أرسلت إليه فسألتَه عنهما. فأرسل إليه فقال: أين ابناك؟ فقال: هما في البيت. فقال: قد عفونا عنهما بصدقك"(تاريخ بغداد 8/433).
عن شداد بن الهاد: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه، ثم قال: أُهَاجِرُ معك. فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعضَ أصحابه، فلمّا كانت غزوةٌ غَنِمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- سَبْيًا فَقَسَمَ، وقَسَمَ له، فأعطى أصحابه ما قَسَمَ له، وكان يرعى ظهرهم، فلمّا جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قَسَمٌ قسمه لك النبي -صلى الله عليه وسلم-. فأخذه، فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما هذا؟ قال: "قَسَمْتُهُ لَكَ". قال: ما على هذا اتَّبَعْتُك، ولكني اتبعتك على أن أُرمَى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه بسهم- فأموت فأدخل الجنة. فقال: "إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ".
فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتِيَ به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُحْمَلُ قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَهُوَ هُوَ". قالوا: نعم. قال: "صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ". ثم كفَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جُبَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدَّمه فصلَّى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: "اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ"(رواه النسائي: 1953، وصححه الألباني).
ثانيًا: الصدق مع النفس: ومن مجالات الصدق أن يكون الإنسان صادقًا مع نفسه ولا يخادعها ويتركها تسبح في بحر الأماني والأهواء، فكم رأينا وشاهدنا أناسًا يكذبون على أنفسهم ويمنونها الأماني الكاذبة فيزيّن لنفسه ما حرَّم الله -تعالى-؛ تجده يتعامل بالربا ويكذب على نفسه، ويقول ضرورة عصرية ومعاملة بنكية، تجده يسرف على نفسه بالمعاصي، ويقول طالما أن القلب أبيض لا يضرك شيء، تجده يترك الجُمَع والجماعات ويبارز الله في الخلوات بالمحرمات، ويقول: إن الله غفور رحيم، وهذا هو الكذب بعينه ولكن نتيجته مضرة وعاقبته وخيمة ونهايته أليمة.
أيها الإخوة: ينبغي علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا، نرى عيوبنا ونقوم بإصلاحها، ومحاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين؛ فالمؤمن متّق لربّه محاسب لنفسه، مستغفر لذنبه يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم، ومكرها كبير، وشرها مستطير؛ فهي أمَّارة بالسوء ميَّالة إلى الهوى، داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها؛ لأنها داعية إلى الطغيان، من أطاعها قادته إلى القبائح، ودعته إلى الرذائل، وخاضت به المكاره، وغوائلها عجيبة، ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى؛ فإن له يوم القيامة مأوى من جحيم: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات:37-39]. وعلى النقيض: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 40-41].
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت نفسه في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا"، وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "مَن مقَت نفسه في ذات الله أمنه الله من مقته"(جامع الأحاديث: 25/ 93).
وقال ميمون بن مهران -رحمه الله–: "لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه"، وقال مالك بن دينار -رحمه الله-: "رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا وكذا، ثم ذمَّها ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله فكان لها قائدًا"(المحاسبة لابن أبي الدنيا:7- 8).
وقال قتادة -رحمه الله-: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُُرُطًا)[الكهف: 28]، قال: "أضاع أكبر الضيعة؛ أضاع نفسه، وعسى مع ذلك أن تجده حافظًا لماله، مضيعًا لدينه"(المحاسبة لابن أبي الدنيا:5).
إخوة الإيمان: المجال الثالث هو الصدق مع الناس ويكون ذلك بالصدق في الأقوال، والصدق في الأعمال، والصدق في الأحوال؛ فالصدق مع الناس علامة من علامات الإيمان والكذب علامة من علامات النفاق؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ"(صحيح الجامع: 873).
قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "الصدق أمانة، والكذب خيانة".
وعن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"(رواه أحمد: 19265)، وزاد ابن حبان: "فكان جرير بن عبد الله إذا بايع أحدًا قال: اعلم يا أخي أن ما أخذنا منك خير مما أعطيناك فاختر". كل هذا من النصح والصدق للمسلم والصدق مع الناس
واجب علينا -أيها الأحباب- أن نربي أبنائنا على الصدق وأن نجنّبهم الكذب: أخرج أحمد وأبو داود والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟" قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ"(رواه أحمد 15740).
وكم من الأمهات يكذبن على أبنائهن!، وكم من الآباء يكذبون على أبنائهم!، وما علموا أنهم بذلك يغرسون خُلق الكذب في نفوس أبنائهم. فأين الآباء والأمهات من تربية أبنائهم على الصدق؟ والسير بهم في طريق الصادقين؟
أيها الآباء الفضلاء: إن للصدق ثمرات أشهى من العسل وعد الله -تعالى- الصادقين بالحصول عليها، وأن يتذوقوا حلاوتها في الدارين الدنيا والآخرة، وإليكم بيان ذلك:
الأول: ثمرات الصدق في الدنيا:
1- الصدق جماع كل البر، والكذب أصل كل الفجور، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَالْبِرُّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ ثَمَّ اللَّهِ كَذَّابًا"(رواه البخاري 5743).
2- البراءة من صفة النفاق عن الصادقين؛ ففي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث مَن كُنَّ فيه كان منافقًا: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان"(صحيح البخاري: 34).
3- تفريج الهموم الكربات، وإجابة الدعوات، والنجاة من المُهلِكات، كما يدل على ذلك قصة أصحاب الغار التي أخرجها البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيها أنه قال بعضهم لبعض: "…إنه والله يا هؤلاء، لا ينجيكم إلا الصدقُ، فليدعُ كلُّ رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه"(صحيح البخاري: 5973)؛ فدعا كل واحد منهم ربَّه بما عمِله من عمل صدَق فيه لله، وأخلص له فيه، فكان أن جاء الفرج، ففرج لهم فرجة بعد أخرى، حتى خرجوا من تلك المحنة.
قال الربيع بن سليمان:
صبرٌ جميلٌ ما أسرَعَ الفرجَا *** مَن صَدَقَ اللهَ في الأمورِ نَجَا
مَن خشِيَ اللهَ لم ينَلْهُ أذًى *** ومَن رجا اللهَ كان حيثُ رَجَا
ويُحكَى أن هاربًا لجأ إلى أحد الصالحين، وقال له: أَخْفِني عن طالبي، فقال له: نَمْ هنا، وألقى عليه حزمة من خوص، فلما جاء طالبوه وسألوا عنه، قال لهم: ها هو ذا تحت الخوص، فظنوا أنه يسخَرُ منهم فتركوه، ونجا ببركة صدق الرجل الصالح.
ويُروَى أن الحجاج بن يوسف خطب يومًا فأطال الخطبة، فقال أحد الحاضرين: الصلاة، فإن الوقت لا ينتظرك، والرب لا يعذرك، فأمر بحبسه، فأتاه قومه وزعموا أن الرجل مجنون، فقال الحجاج: إن أقرَّ بالجنون خلَّصتُه من سجنه، فقال الرجل: لا يسوغ لي أن أجحد نعمة الله التي أنعم بها عليَّ، وأثبت لنفسي صفة الجنون التي نزَّهني الله عنها، فلما رأى الحجاج صدقه، خلَّى سبيله.
4- حصول البركة في الأرزاق فعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه– قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا -أو قال: حتى يتفرَّقا- فإن صدَقا وبيَّنا، بُورِك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، مُحِقَتْ بركة بيعهما"(صحيح البخاري: 1973).
5- إذا أردت أخي الغالي راحة الضمير وصفاء النفس فكن من الصادقين، فكن أخي الحبيب من الصادقين واحذر طريق الكاذبين عن أبي محمد، الحسن بن علي بن أبي طالب-رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ" (رواه الترمذي: 2518).
أقول قولي، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعَلتنا من أمَّة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
أما بعد: ثانيًا: ثمرات الصدق في الآخرة:
أيها الآباء الفضلاء والإخوة الأعزاء والأبناء النجباء اعلموا أن للصدق ثمرات ممدودة وعطايا غير محدودة ينالها العبد في الدار الآخرة؛ لأن الجنة هي دار الصادقين وهاكم بيان ذلك
1- الصدق طريق موصّل إلى الجنة، فأقرب الطرق إليها طريق الصادقين؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدقَ يَهدِي إلى البرِّ، وإن البر يَهدِي إلى الجنة"(رواه البخاري ومسلم).
2- الصدق منجاة في الآخرة كما كان منجاة لهم في الدنيا فلا ينفعك يوم القيامة مال ولا بنون، ولكنَّ الذي ينفعك هو الصدق مع الله -تعالى-، قال -تعالى-: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)[المائدة:119].
3- الفوز بالجنان وحصول رضى الرحيم الرحمن، قال -تعالى-: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة:119].
4- بلوغ درجة الشهداء وإن مات الصادق على فراشه؛ فعن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"(رواه أبو داود:1520).
5- شهادة ضمان لدخول جنة الرحمن، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا أَوْعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ"(أخرجه أحمد:22809).
وصلوا وسلموا....
التعليقات