عناصر الخطبة
1/قصص وعِبَر 2/عاقبة الظلم والدعاوى الكاذبة 3/تحريم الإضرار بالآخرين والاعتداء عليهم 4/التحذير من الدعاوى الكيدية والبينات الكاذبة.اقتباس
فليتَّقِ الله صاحبُ البينة أن تكون بينته زورًا، وليتَّقِ الله صاحبُ اليمين أن يحلف على غير حقٍّ في الخصومات وفي غيرها، فالبينة لا تُحِلّ له الحرام إذا شهدت بالزور، وهكذا اليمين لا تُحِلّ له الحرام...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمَر بالعدل والإحسان، ونَهى عن الظلم والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أباح لنا من المكاسب أحلّها وأزكاها، وحرّم علينا كل معاملة مبنية على الغش والكذب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حذَّر من الظلم, وأخبر أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها المسلمون: جاء في صحيح البخاري، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا -أي: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- إِلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا.
فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ َلا يُحْسِنُ يُصَلِّي. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ! إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي! قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا، وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا أَخْرِمُ عَنْهَا. أُصَلِّي صَلاَةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي اْلأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ فِي اْلأُخْرَيَيْنِ. قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ.
فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً أَوْ رِجَالاً إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ.
قَالَ سَعْدٌ: "أَمَا وَاللَّهِ َلأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ للْفِتَنِ".
وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ، يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ. هذه عاقبة الظلم والدعاوى الكاذبة.
وأيضاً لما اتُّهِمَ سعيد بن زيد -رضي الله عنه- أنه أَخَذَ شيئاً من أرضٍ لجارته، اتَّهَمَتْهُ عند الخليفة، قال: أنا كنتُ آخذُ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعتُ من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟! فقال له: ما سمعت؟ قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"، ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعمِ بصرَها، واقتلها في أرضها، قال الراوي: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينا هي تمشي في أرضها؛ إذ وقعت في حفرة فماتت (رواه مسلم).
عباد الله: إن الشريعة الإسلامية جاءت بالإنصاف والعدل، فقال -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى)[النحل: 90]،
وحرمت الظلم والعدوان، وقد روى أبو ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل- أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا"(صحيح مسلم).
ومن ذلك تحريم الإضرار بالآخرين، والاعتداء عليهم، من خلال مخاصمتهم بالباطل، والادعاء عليهم بغير حق كذباً وبهتاناً، وما حرمت الشريعة الإسلامية الظلم والعدوان إلا لما فيهما من إلحاق الضرر والتُّهمة بالأبرياء، وما يترتب على ذلك من إشغال للجهاز القضائي والجهات الحكومية ذات العلاقة بهذه القضايا.
أيها المسلمون: وعن الأشَعثِ بن قيسٍ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حَلَف على يمينٍ يَقْتطعُ بها مالَ امرئ مُسلمٍ هُو فيها فاجرٌ لقيَ الله وهُو عليهِ غَضْبان"(متفقٌ عليه).
والفاجِر في الخصومةِ -عباد الله- هو مَن يعلَم أنَّ الحقَّ ليس معه فيجادل بالباطل؛ فيقَع فيما نهى عنه الله -جلّ وعلا- بقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 188].
عباد الله: وعن أُمِّ سَلَمةَ -رضي اللَّه عنها- أَنَّ رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
فليتَّقِ الله صاحبُ البينة أن تكون بينته زورًا، وليتَّقِ الله صاحبُ اليمين أن يحلف على غير حقٍّ في الخصومات وفي غيرها، فالبينة لا تُحِلّ له الحرام إذا شهدت بالزور، وهكذا اليمين لا تُحِلّ له الحرام، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن اقتطع حقَّ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة"،
فالأمر عظيم، والواجب الحذر من الظلم، سواء من طريق الخصومة والدعاوى الكيدية والبينة الكاذبة، أو من طريق الأيمان الفاجرة، فليحذر المؤمن هذه الأسباب التي تُسَبِّب غضبَ الله عليه.
اللهم إنا نسألك أن تُعِفّ ألسنتنا من الكذب واتهام الناس بالباطل، وأعمالنا من الرياء، وقلوبنا من النفاق، اللهم اجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أما بعد فيا عباد الله: وهناك مَن الناس يتعامل بصفات اليهود دون أن يدري، يتعامل مع الناس فيما يتفق مع مصلحته باللين، وعندما يختلف معهم تجده فظًّا غليظًا، يتربص بك ويغدر، ويبالغ في خصومته إليك.
فاحذروا -يا عباد الله- من الخصومات، واحذروا من الفجور في الخصومات، وراقبوا الله في أعمالكم وأقوالكم، واعلموا أن الخصومات في الدنيا ستعرض مرة ثانية يوم القيامة أمام جبار السموات والأرض، وسيطلب منك أن تعيد الكلام نفسه الذي قلته في الدنيا، فإن كان حقًّا نجوت، وإن كان باطلًا خُصِمْتَ, عندها لن تجد حجة أو عملاً تدفع به غضب الله وسخطه وعقابه.
روى الترمذي عن الزبير قال: "لما نزل قوله -تعالى-: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)[الزمر: 31]، قال الزبير -رضي الله عنه-: يا رسول الله أتُكرَّر علينا الخصومة يوم القيامة، بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟ قال: "نعم"، قال: "إنَّ الأمر إذًا لشديد"(حديث حسن).
عباد الله: صلُّوا وسَلِّمُوا على رسول الله.....
التعليقات