عناصر الخطبة
1/خطر الشرك 2/بداية حدوث الشرك في البشرية 3/بعض مظاهر وصور الشرك في العصر القديم 4/بعض مظاهر وصور الشرك في العصر الحديثاهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: اعلموا -رحمكم الله- أن الشرك من أعظم الذنوب، وما عصي الله -جل وعز- بذنب أعظم من الشرك، وما بعثة الأنبياء، وتخليصهم من الشرك بكل صوره وألوانه، كم استمرت دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ وكم بذل عليه الصلاة والسلام من الجهد والمعاناة؟ وكم لاقى من الأذى والحرب والمقاومة، كل هذا لمقاومة وإزالة الشرك الذي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
أما بعد:
قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)[النساء: 48].
وقال جل وتعالى: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ)[المائدة: 72].
أيها المسلمون: اعلموا -رحمكم الله- أن الشرك من أعظم الذنوب، وما عصي الله -جل وعز- بذنب أعظم من الشرك، وما بعثة الأنبياء، وتخليصهم من الشرك بكل صوره وألوانه، كم استمرت دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ وكم بذل عليه الصلاة والسلام من الجهد والمعاناة؟ وكم لاقى من الأذى والحرب والمقاومة، كل هذا لمقاومة وإزالة الشرك الذي كان موجوداً في زمنه وعصره، وقبله إخوانه من أنبياء الله ورسله؟ فكم كانت مدة دعوة نبي الله نوح -عليه الصلاة والسلام-؟
ألف سنة إلا خمسين عاماً، كان هذا في مقاومة ومحاربة الشرك، والدعوة إلى توحيد الله -جل وعلا-.
أيها الأحبة في الله: ولو تأملنا بعد ذلك في الجهود التي بذلها العلماء الأجلاء على مر العصور، وما كتبوا وألفوا حول هذه القضية الخطيرة، لرأينا عجباً، ألفوا المجلدات، والكتب سطرت بأقلام علماء الأمة، منذ القديم حتى يومنا هذا، وهم يحذرون من الشرك وخطورته، وآثاره السيئة على الأمة، وما يترتب على بقائه، فهذه كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-وتلميذه ابن القيم، جلها في مقاومة الشرك، ونشر التوحيد، والرد على بدع وشركيات الفرق المخالفة لعقيدة السلف في زمانهم، ومن قبلهم ما كتبه وقاله الإمام أحمد والشافعي وبعدهم، كتب ورسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومن جاء بعده من أئمة الدعوة، كلها لمقاومة الشرك.
ما يزال الأمر يحتاج إلى المزيد، وما يزال الناس واقعون في صور وألوان كثيرة من الشرك، كما سيتبين بعد قليل.
أيها المسلمون: الشرك محبط لجميع الأعمال، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 88].
وقال جل وعز: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزمر: 65].
والشرك هبوط وسقوط من أوج العز والكرامة، إلى حضيض السفول والقلق، وعدم الاستقرار والرذيلة، قال الله -تعالى-: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)[الحـج: 31].
الشرك مهدر للدم، مبيح للمال: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)[التوبة: 5].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله".
وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف حتى يعبد الله وحده".
الشرك يُحرم على صاحبه الجنة، ويخلده في نار جهنم، قال الله -تعالى-: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)[المائدة: 72].
الشرك أعظم الظلم، كما قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13].
أيها الأحبة في الله: إذا كان الشرك في هذا المستوى من القبح والخطورة، فهذا مما يوجب شدة الحذر من الوقوع فيه، ويوجب على المسلم أن يعرفه ليتجنبه، ويوجب على المسلمين مقاومته، والقضاء عليه.
أيها المسلمون: ذكر المحدثون والمفسرون بأن أول من عرف بالشرك هم قوم نوح -عليه السلام-، وذلك بسبب غلوهم في الصالحين، حيث كان لهم رجال صالحون فلما ماتوا، أوحى إليهم الشيطان أن يصوروا صورهم إحياءً لذكراهم، كما يقال، وأن ينصبوها في مجالسهم لينشطوا في العبادة كلما رأوهم، فلما هلك ذلك الجيل الذي نصب تلك الصور، جاء من بعدهم فعبدوها، ومن ذلك الحين حدث الشرك في الأرض، فبعث الله إليهم نوحاً -عليه السلام-، فأصروا على شركهم: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)[نوح: 23].
عند ذلك دعا عليهم نوحاً، فأهلكهم الله بالطوفان، وأنجى نوحاً ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل، ثم تتابعت الرسل من بعد نوح، تدعوا إلى التوحيد، وتنهى عن الشرك إلى أن جاء عهد إبراهيم -الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-، وقد بلغ الشرك والطغيان والجبروت من الطواغيت مبلغاً عظيماً، فقاوم الخليل الشرك والمشركين بالحجة والبرهان، وحطم الأصنام بيده، ولقي في سبيل ذلك أشد أنواع الأذى، وأقسى أنواع التعذيب، الذي سلمه الله من حين ألقوه في النار، فجعلها الله بقدرته ورحمته برداً وسلاماً، وجعل العاقبة الحميدة له، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وبقيت النبوة، وكلمة التوحيد في ذريته؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ)[العنكبوت: 27].
وقال تعالى: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الزخرف: 28].
خصوصاً العرب بني إسماعيل، ثم لم يزل التوحيد فيهم حتى ظهر في العرب عمرو بن لحي الخزاعي، فغير فيهم دين إبراهيم، ودعاهم إلى عبادة الأصنام فأجابوه، والسبب في ذلك أنه ذهب إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم وآب من أرض البلقاء رأى أهلها يعبدون الأصنام، ولم يكن العرب يعلمون إذ ذاك شيئاً عن الأصنام وعبادتها، وكانوا جميعاً على فطرة التوحيد والإيمان بالله، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه آلهة نعبدها، نستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها واحداً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً، يقال له: هبل، فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبة في النار، وكان أول من سيب السوائب".
وفي لفظ: "وغير دين إبراهيم".
وهكذا انتشرت عبادة الأوثان في الجزيرة العربية، وشاع في أهلها الشرك، فانسلخوا بذلك عما كانوا عليه من عقيدة التوحيد، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وانتهوا إلى ما انتهت إليه الأمم الأخرى من الضلال والقبائح في المعتقدات والمفاهيم والأفعال.
إلى أن بُعث نبينا -صلى الله عليه وسلم- فدعا إلى التوحيد، ونهى عن الشرك، وجاهد المشركين باليد واللسان، حتى نصره الله عليهم، وهدم أوثانهم، وحطم أصنامهم وأعاد الحنيفية ملة إبراهيم صافية نقية، وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك، لكن زاغ الناس بعده صلى الله عليه وسلم، وانحرفوا وتمثل فيهم الشرك، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وفاته، بأنه لا تقوم الساعة حتى يلحق فئام من هذه الأمة بالمشركين، وحتى تعبد فئام من هذه الأمة الأوثان، وحتى تضطرب إليات نساء بني دوس على ذي الخُلصة.
وإليكم صوراً من الشرك الذي حصل في هذه الأمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، والذي قد حذر منه صلوات ربي وسلامه عليه.
من صور الشرك: الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته من دون الله، كما حصل للنصارى في حق عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم-، وهذا غالباً ما يحصل في الاحتفالات بالمولد، فيلقى من القصائد والأشعار والمدح والثناء عليه، عليه الصلاة والسلام، إلى درجة الغلو والشرك، وأنه المتصرف في الكون، ويخلق ويأمر وينهى، ويجعلونه في درجة ومرتبة الألوهية، ولا شك بأنها شرك يخرج بصاحبه من الملة لو اعتقده، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".
ومن صور الشرك: تعظيم القبور، والاعتقاد بالمقبورين فيها، إما بجلب نفع أو دفع ضر، وهذا منتشر -والعياذ بالله- في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي، بل إن بعض هذه القبور يبنى عليها مساجد، وتصبح مزارات، ويذبح عندها القرابين، وتقدم لها الصدقات والأموال، وكل هذا شرك صريح لا شك فيه، وأكثر ما يعتقد بالقبور هم الرافضة والصوفية، بل ربما اعتقدوا بأن زيارة هذه القبور أعظم من حج بيت الله الحرام، وقد شوهد بعض هؤلاء يصلي في المسجد النبوي يتوجه إلى القبر جاعلاً القبلة خلفه أو عن يمينه أو عن شماله -نعوذ بالله من الخذلان-.
ومن صور الشرك: السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله والعبادة فيها غير المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
وهذا الأمر أيضاً طم وانتشر، وهناك مكاتب للسفر ينظم حافلات ويذهب مئات وألوف الناس إلى سوريا لأجل القبور هناك، وفي السابق كانت هذه القوافل تذهب لقبور العراق وأماكن التعبد هناك؛ لكن في ظل الظروف الراهنة توجهت هذه القوافل إلى سوريا، ولا شك أن هذا شرك لا نقاش فيه؛ لأنه لا تعظيم لأي بقعة غير المساجد الثلاثة، ولا تشد الرحال إلا للمساجد الثلاثة، وهؤلاء الجهلة المشركون يسافرون ويقصدون أماكن في الشام، للتبرك بها وعبادتها والصلاة عندها والذبح لموتاها وغالبها قبور لا يعلم من هؤلاء المقبورين فيها، بل ربما بعضها قبور خيالية؛ لكن السذاجة وسخافة عقول هؤلاء لا يستبعد أن تكون خلف ووراء هذه مؤسسات ومنظمات تسترزق مما يدفع من أموال هناك.
ومن صور الشرك: الذبح لغير الله، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ)[الأنعام: 162-163].
فلا يجوز أن يراق الدم من البهيمة في غير وجه الله، عن علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض"[رواه مسلم].
قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: "المراد بقوله: "لعن الله من ذبح لغير الله" أن يذبح باسم غير اسم الله -تعالى-، كمن يذبح للصنم، ومثله أن يذبح لصاحب القبر، أو نحو ذلك، وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له، كان ذلك كفراً، فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً"[ذكره في شرح مسلم].
فليتنبه من يذبح لأجل النادي مثلاً، أو لو فاز النادي الفلاني ذبح، أو من يذبح لأجل المنتخب، ونحو ذلك، فإن صاحبه على خطر؛ لأنها دماءٌ أريقت ما أريد بها وجه الله.
ومن صور الشرك أيضاً: إرادة الإنسان بعمله الدنيا، ومن عظيم فقه الإمام الجهبذ محمد بن عبد الوهاب أن جعل باباً في كتابه العظيم -التوحيد- باباً بهذا العنوان، فقال: "باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا" ثم استدل على ذلك بقول الله -تعالى-: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ)[هود: 15].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع"[رواه البخاري].
فإرادة الإنسان بعمله الدنيا شرك، فالذي يبني مسجداً، وهو لا يريد بهذا المسجد وجه الله، وإنما أراد بعمله هذا الدنيا، ومن شهرة أو وجاهه أو سمعة، أو نحو ذلك، فإن هذا المسجد يعد من مساجد الضرار: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 107-110].
أو الذي يتصدق وينفق حتى ينشر اسمه في الجرائد بأنه أنفق من ماله الخاص، وهو لا يريد بذلك وجه الله، فهذا أيضاً ممن أراد بعمله الدنيا، أو الذي يحج إلى بيت الله، لكي يقال: بأن فلان من حجاج بيت الله الحرام، فهذا أيضاً من أراد بعمله الدنيا، ولم يبتغ وجه الله.
فنسأل الله -جل وتعالى- أن يعصمني وإياكم من الشرك كله، كبيره وصغيره، دقيقه وجليله، إنه سميع قريب مجيب، وهو ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الكلام عن الشرك، كلام طويل ولا ينتهي، والسبب في ذلك بأن صور الشرك لا نهاية لها، وما ذكرته قبل قليل ما هو إلا غيض من فيض، وقطرة من وسط بحر متلاطم الأمواج، والشرك ليس له صور وأنواع ثابتة، بحيث لو تكلم وكتب العلماء في عصر من العصور لكفى ذلك، بل لكل عصر، ولكل زمن صوره وألوانه، فيحتاج هذا من العلماء أن يكتبوا ويبينوا للناس الشرك الذي هم واقعون فيه، فمثلاً لو كان هناك بلد لا يعرف أهله شرك القبور، ولا يوجد عندهم قبور تعظم، فلا مانع من أن أحذر من هذا النوع، وأبين خطره؛ لكن أركز في حديثي للناس لأنواع الشرك الذي هم واقعون فيه، من الحلف بغير الله مثلاً، أو النذر لغير الله.
وهكذا، فالواجب على علماء الأمة: أن يبينوا للناس، ففي هذا الزمان أنواع الشرك الذي وقع فيه الكثير من الناس، ولا يغفل الحديث والتنبيه على خطر الأنواع الأخرى من شرك تعظيم الصالحين، أو الرياء أو السحر أو الاستسقاء بالأنواء، ونحوها.
أيها المسلمون: نحتاج من علماء الأمة، أن يوضحوا لنا هذه المعبودات الجديدة التي ظهرت والتي اتخذها الناس أرباباً من دون الله، فعليها يوالون ويعادون، وعليها يحبون ويبغضون، هذه الأصنام المعنوية التي أصبحت هي شرك الناس في هذا الزمان، والتي لا يكسرها معول إبراهيم -عليه السلام-.
أيها المسلمون: في هذا العصر، ظهرت أوثان ومعبودات شتى أصبحت تمتلك قلوب الناس ومشاعرهم وولاءهم، بذكرها يهتفون، وباسمها يقسمون، وفي سبيلها يقاتلون ويقتلون، تلك هي أوثان القومية والوطنية والحزبية وما شاكلها، نقرأ في الصحف والمجلات، ونسمع الإذاعات، ونشهد المؤتمرات، فتجد أن هناك معبوداً آخر تدور حوله كل الأفكار، وكل المشاعر، وكل الأعمال التي تطرح في هذه الصحف والمجلات والإذاعات إلا القليل في كل ما ذكرت، ولا تجد لله -عز وجل- ذكراً أو ولاءً إلا من بعيد، واستبدل بالوطن أو القومية، أو العروبة، والمجتمع أو الدولة، أو غير ذلك من أصنام هذا العصر، هذا على المستوى العام، وكذلك الأفراد، آحاد المسلمين تجد أن البعض يتلطخ بألوان الشرك علم، أو لم يعلم.
وإليك مثالاً، فذلك الذي أخذت الكرة والرياضة لبه، واستهوت على عقله، من أجلها يحب ويبغض، ومن أجلها ومن أجل النادي يوالي ويعادي، بل وإنه ليضيع واجبات افترضها الله عليه في سبيل الكرة، وتفوته صلوات من أجل المباريات، ألا يعد من هذه حاله يصدق عليه أنه قد اتخذ الكرة إلهاً يعبدها؟
قال الله -تعالى-: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)[الفرقان: 43].
أليس هذا يهوى الكرة ولو لم يهواها ما ضيع؟
لقد سمعت وسمع غيري عن ذلك اللاعب الذي أطلق عليه المعلق يوماً بأنه معبود الجماهير، معبود الجماهير؟ وهل تعرف الجماهير معبوداً غير الله، فلو صدق المعلق في كلامه، كان هذا هو الشرك الذي نتحدث عنه، ولو كان كاذباً، فيجب أن يعزر ويؤدب حتى لا يكذب مرة أخرى، أو ذلك الذي انهمك في عمله، وأحبها أكثر من محبة بعض الأحكام الشرعية، حتى أخذ عليه عمله عقله وقلبه، وهو على استعداد أن يخالف أحكام الله من أجل مصلحة عمله، ومستعد أن يرتكب الحرام من أجل عمله، فإن هذا أيضاً يكون قد عبد الوظيفة التي يعمل بها، فتكون في حقه وثناً.
ومن ألوان الشرك التي نريد من علماء الأمة في هذا الزمان أن يتحدثوا ويكتبوا ويبينوا للناس: شرك الطاعة، وهو أن يطاع طائفة من الناس، ويسمع كلامهم، وينفذ مرادهم ولو كان طاعتهم تعارض وتخالف طاعة الله ورسوله، فهؤلاء يكونون قد أشركوا مع الله في طاعة شخص أو فئة على حساب طاعة الله -جل وعلا- وطاعة ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ)[التوبة: 31].
أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قلت: بلى، قال: "تلك عبادتهم" قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم -رضي الله عنه-.
أيها المسلمون: لا أطيل عليكم أكثر من هذا، وإلا فصور الشرك كثيرة، وألوانها عديدة، وما قلته يعد إشارة، والحر تكفيه الإشارة.
فنسأل الله -جل وعلا- أن يهيأ مناسبة أخرى نتعرض من خلالها لألوان، وصور الشرك الأخرى.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا...
التعليقات