عناصر الخطبة
1/ الشجاعة وقوة الشخصية صفتان متلازمتان 2/ النبي عليه الصلاة والسلام النموذج المثالي في الشجاعة 3/ مواقف من شجاعته 4/ من مظاهر الشجاعةاهداف الخطبة
اقتباس
فالشجاعة وقوة الشخصية صفتان متلازمتان لمن أراد أن يعرف أن الشجاعة لها مرتكزات عديدة؛ من أهمها: قوة الشخصية، والإنسان السوي يحب أن يتحلى بصفات توصله إلى رضوان الله تعالى وتقربه إليه وإلى جميع الناس ضمن العلاقات الاجتماعية التي يحتك بها الإنسان مع باقي إفراد المجتمع، وكلما قرأ ويقرأ قوله تعالى ..
الحمد لله الذي منّ على المؤمنين (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفوته من بين خلقه وخليله، وصلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فالشجاعة وقوة الشخصية صفتان متلازمتان لمن أراد أن يعرف أن الشجاعة لها مرتكزات عديدة؛ من أهمها: قوة الشخصية، والإنسان السوي يحب أن يتحلى بصفات توصله إلى رضوان الله تعالى وتقربه إليه وإلى جميع الناس ضمن العلاقات الاجتماعية التي يحتك بها الإنسان مع باقي إفراد المجتمع، وكلما قرأ ويقرأ قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4]، فإذا كان الله تعالى قد هيّأ هذه الصورة الجميلة في خلق وتكوين جسم الإنسان بكل تفاصيله ليتمتع بها الإنسان في حياته، ويتقوى بها على طاعة الله تعالى، وتنفيذ أوامره، وجعل في هذه الأعضاء البدنية من الوسائل والتفاصيل البديعة ما يجب أن نقف عندها ونتفكر بها لعظيم شأنها.
وقد قال تعالى: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 20، 21]، ولكن هذا الجسد الجميل والأعضاء المهمة لا بد لها من تكملة ضرورية ليكون الجسم متكاملاً مع أخلاق النفس وجوارحها، وهذه التكملة تأتي من خلال الاتصاف بصفات الفضيلة التي أمر الله تعالى بها، وهذه الصفات يستطيع الإنسان أن يتعرف عليها ويأخذ بها من خلال معرفته للآيات القرآنية التي ترشد إلى خيرية الإنسان وعلو مكانته بأخلاقه وصفاته التي تطبع بها ويعمل بها ويحرص على أدائها.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب أروع الأمثلة في التحلي بالصفات والمعاني الكريمة وفضائل الشخصية دون تصنع أو رياء أو مخادعة، فكان مثال الإنسان النموذج بكل معنى الكلمة، فانظر إلى شجاعته وطبيعة صفات الرجولة عنده عندما أمره الله تعالى أن يبلغ دينه إلى الناس وهو يخبر قريش: "لو أنني أخبرتكم أن جيشًا يريد أن يغزوكم من وراء هذه الجبال فهل أنتم مصدقي؟!"، قالوا: نعم، ما رأينا عليك إلا خيرًا، وأنت فينا الصادق الأمين، فقال: "إني نذير لكم بين يدي عذاب أليم". فنال منهم ما نال من الصد والاستهزاء.
ولكن انظر إلى موقف وصفة الشجاعة، فمجتمع مكة كان يعج بمظاهر الشرك بالله تعالى، وتقديس الأصنام استحوذ على قلوبهم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف هذا ويعرف جفاء طباعهم وعنادهم، ولكنها شجاعة الداعية مع اليقين الثابت، فنطق بكلمة الحق، رضي من رضي وأبى من أبى.
وانظر إلى موقفه -عليه الصلاة والسلام- في هجرته إلى المدينة المنورة مع سراقة بن مالك، وكلامه الذي يدل على شجاعة واثقة بنصر الله تعالى: "كيف بك -يا سراقة- إذا لبست سواري كسرى!!"، هل تستشعر بعد المسافة وقسوة الظروف والواقع المفروض وهو يقول لرجل يطمع بالجائزة ويسيل لعابه من أجل الحصول عليها، لكنها الشجاعة الإيمانية.
أين الدعاة اليوم من هذا المثل العظيم؟! أين المسلمون في هذا الزمن الصعب وكثير منهم يتخذون من أهل الغناء والطرب والرياضة والسياسة والأدب قدوات لهم ومثالاً مقدسًا في حياتهم، يحبونهم ويدافعون عنهم وهم غافلون عن شخصية النبي العظيم بتأثيرها!!
أنت الذي من نورك البدر اكتسى *** والشمس مشـرقة بنور بهاكَ
أنـت الذي لما رفعـت إلى السما *** بك قد سمت وتزينت لسراكَ
أنت الـذي نـاداك ربك مرحبًا *** ولقـد دعـاك لقربه وحباكَ
صلى عليـك الله يا علـم الهدى *** مـا اشتاق مشتاق إلى مثواكَ
وفي موقف آخر يأتي معنى آخر ومفهوم جديد للشجاعة نتعلمه من مدرسة النبوة المحمدية، فقد يتعرض الإنسان إلى الظلم والقهر من أقرب الناس إليه، وتفكر نفسه بالثأر والانتقام منهم، وقد تكون راحتها في ذلك، لكن من الشجاعة الإيمانية التي خطها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن العفو شجاعة عظيمة لا يتحلى بها إلا نوع فريد من الرجال سمت نفوسهم فوق الأنانية والقسوة والتشفي بالغير، لتطلق بثقة عالية وروح ساكنة طيبة حنونة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، قالها الشجاع الأول محمد -عليه الصلاة والسلام- لقومه بعد أن بلغ الخوف منهم أيما مبلغ، وكانوا يتوقعون أنواعًا من العقوبات، فكانت شجاعة العفو عند المقدرة، واقرأ هذه الدرة الغالية من النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لأن تخطئ في العفو خير من أن تخطئ في العقوبة". رواه أبو داود.
يقول الشيخ الشهيد سيد قطب -رحمه الله تعالى-: "وليصبر الداعية على ما يلقاه، فما هي إلا ساعة من نهار، ثم يكون ما يكون".
نعم -أيها المسلم- إن من الشجاعة أن تلجم هذه النفس الإمارة بالسوء، ومن الشجاعة أن تكون تواقًا إلى الرقي بها إلى منازل الأتقياء الأنقياء.
الخطبة الثانية:
أما بعد: إنّ الشجاعة تحتمل معاني كثيرة مثل الحلم والاحتمال والصبر والعفو، معانيها كلها متقاربة، فهي كلها مما أدّب الله به نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199].
والعرف هو كل ما فرض الله فعله، أي كل الواجبات الدينية.
وإنّ المطالع لسيرة الرسول الأعظم محمد -صلى الله عليه وسلم- يعلم أنّه كان من صفاته أن يعفو عمن ظلمه، ويصل من قطعه، ويحسن إلى من أساء إليه، وإنّه كان لا يزيده كثرة الأذى عليه إلا صبرًا وحلمًا.
قال تعالى في خطابه للرسول -عليه الصلاة والسلام-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 35]، تقول السيدة الجليلة عائشة زوج النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في وصفه -صلى الله عليه وسلم-: "وما انتقم رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله في شيء، فينتقم بها لله". رواه البخاري.
وروى البيهقي عن سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال في شجاعة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- في المعارك: "إنا كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحُدُق اتقينا برسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أقربنا إلى العدو".
وهناك مواقف عظيمة أخرى للنبي -عليه الصلاة والسلام- تتجلى فيها شجاعته بكل معانيها، وليس المعنى الوحيد الذي يفهمه كثير من الناس، واقرأ معي درة أخرى للمصطفى -عليه الصلاة والسلام-: "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
أخي المسلم: ما أجمل أن تقتدي بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن تكون صاحب شجاعة وحلم وصبر وعفو، فتصبر على أذى الناس، وتعفو عمن أساء إليك، وتدافع عن دين الله بإقدام وشجاعة.
اللهم ارزقنا حسن الاتباع والاقتداء بالنبي الهادي وبأخلاقه وصفاته، وفرج عنا وعن المسلمين ما أهمنا وأغمنا، وابعد عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين.
التعليقات