السندات

سامي بن عبد العزيز الماجد

2012-02-21 - 1433/03/29
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ طلب الكسب الحلال شرف للمؤمن 2/ السلف والخوف من أكل الحرام 3/ للمكاسب المحرمة آثار سيئة على الفرد والمجتمع 4/ أخبث صور المال الحرام 5/ أحكام السندات 6/ أحكام الصكوك الإسلامية
اهداف الخطبة

اقتباس

وإن مما يؤسى له أشدَ الأسى أن في الناس من لا يتورعون في كسب المال، يحاولون تحصيله بكل سبيل، فالحلال في عرفهم ما حلَّ بأيديهم، والحرام ما حُرموه وتعذّر عليهم، يسلكون في طلبه مسالك معوجَّة وسبلاً مشبوهة، بل وقد لا يكترثون من المجاهرة بالمكاسب الخبيثة، حيث فشا أكل الربا وانتشرت الرشوة والسرقةُ والمتاجرة بالخمور والمخدرات، والغشُ والخداع في البيوع والمعاملات، وإنفاقُ السلع بالأيمان الفاجرة، وأكلُ أموال اليتامى والقصّرِ ..

 

 

 

 

أما بعد: فإن طلب الكسب الحلال شرف للمؤمن يصونه به عرضَه، ويحفظ به كرامته، ويستعين به على أعمال البر، فنعم المال الصالح للمرء الصالح، كما قال عبد الرحمن بن عوف: "يا حبذا المال، أصون به عرضي، وأُرضي به ربي". والكسب الطيب يشرح الصدر، وتقر به العين، ويطمئن به القلب، يورث الطمأنينة والسكينة، ويذلل الجوارح على العبادة، وهو مظنة قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء.

أما الكسب الخبيث فشؤم وبلاء على صاحبه، بسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضبُ الجبار، ويمنع إجابة الدعاء.

المال الحرام خبيث المنبت، ممحوق البركة، إن صرفه صاحبه في برٍ لم يُؤجر، وإن بذله في نفعٍ لم يُشكر، يحتمل وزره، ويعاقب على كسبه.

قال بعض الحكماء: "شرُّ المال ما لزمك إثمُ مكسبه، وحُرمت أجرَ إنفاقه"، وقد ذكر ? الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: «يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك»؟!

لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه ما يستعطف لحاله, ويظهر شدة افتقاره؛ ولكنه قطع صلته بربه، وحَرَمَ نفسه من مَدَدِ الله وفضلِه، وحالَ بينه وبين قبول دعائه ما هو عليه من ابتغاء المال من غير حله، وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين رحمة الله؟!

ولذا كان السلف الصالح في غاية الخوف من أكل الحرام، يحاذرونه ويحذرون منه، حتى قال بعضهم: "لو قُمتَ في العبادة قيام السارية ما نفعك ذلك حتى تنظر في طيب مطعمك".

وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال: تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعتُه، فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه، وفي رواية أنه قال: "لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق, وخالط الأمعاء".

ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.

وأوصت إحدى الصالحات زوجها، وقالت له: "يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار".

وإن من العجب أن يحتميَ بعض الناس من بعض الحلال مخافةَ المرض, ولا يحتمون من الحرام مخافةَ النار، وما ذاك إلا لقسوة القلوب واستعلاءِ الغفلة على النفوس، وضعف الإيمان.

أيها المسلمون: إن للمكاسب المحرمة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع، فإنها تُضعف الديانة، وتعمي البصيرة، وهي من أسباب محق البركة في الأرزاق، وحلول المصائب والرزايا، وحصول الأزمات المالية المستحكِمة والبطالة المتفشية، وانتشار الإحن والشحناء.

وإن مما يؤسى له أشدَ الأسى أن في الناس من لا يتورعون في كسب المال، يحاولون تحصيله بكل سبيل، فالحلال في عرفهم ما حلَّ بأيديهم، والحرام ما حُرموه وتعذّر عليهم، يسلكون في طلبه مسالك معوجَّة وسبلاً مشبوهة، بل وقد لا يكترثون من المجاهرة بالمكاسب الخبيثة، حيث فشا أكل الربا وانتشرت الرشوة والسرقةُ والمتاجرة بالخمور والمخدرات، والغشُ والخداع في البيوع والمعاملات، وإنفاقُ السلع بالأيمان الفاجرة، وأكلُ أموال اليتامى والقصّرِ، واختلاسُ الأموال الخاصة والعامة في صور مهينة من صور البطر والجشع .

وإنه ليكاد أن يَصدُقَ على هذا الزمان قولُه صلى الله عليه وسلم : «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء مما أخذ المال، أمن الحلال أم من الحرام».

فأين هؤلاء عن قوارع التنزيل التي تُتلى والأحاديث التي تُروى في التحذير من أكل الحرام, وبيان عاقبة صاحبه, وسوء مصيره ومنقلبه؟! يقول الحق جل وعلا في التحذير من الربا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) .

والربا -يا عباد الله- من أخبث صور المال الحرام, والوقوعُ في الربا مؤذن بحرب من الله ورسوله, وقد تيسرت في عصر التقنية سبلُ الربا، والاقتراضِ به من غير مبالاة، بل ظهرت وسائل مصرفية تعين على تدويل الربا وإدارته بطرق سريعة ميسرة, من خلال ما يسمى بالسندات الربوية, والتي تطرحها الشركات بطريق الاكتتاب, لغرض الاقتراض من الناس؛ حيث تبيعهم هذه السندات وتمنحهم فوائد عليها عند حلول الأجل, فهي في حقيقتها قرض ربوي صريح، وهو من ربا الجاهلية الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت قدمه الشريفة.

ولذا كانت هذه السنداتُ الربويةُ محرمةً باتفاق المجامع الفقهية ولجان الفتوى الموثوقة في العالم الإسلامي كله, كلها منعت من إصدار السندات التقليدية, ومن تداولها بيعاً وشراء, فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي, جاء فيه قرار خاص بالسندات, ونصه:

  أولاً: إن السندات التي تمثل التزامًا بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه، أو نفع مشروطٍ لهي محرمةٌ شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول؛ لأنها قروض ربوية, سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة, أم عامة ترتبط بالدولة, ولا أثر لتسميتها شهادات, أو صكوكاً استثمارية أو ادخاريةً أو تسميةَ الفائدةَ الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً .

لقد بيَّن قرار المجمع الموقف الفقهي من السندات التقليدية, وفي الوقت ذاته أعطى بديلاً للسندات, وهي الصكوكُ أو السنداتُ القائمة على المضاربة التجاريةِ المشروعة، وهي متيسرةٌ وليست متعذرة.

إنها سابقة خطيرة أن يُقدمَ السوق المالي على فتحِ سوقٍ للسندات الربوية؛ ففي ذلك مطاوعةٌ لآكلي الربا، وتطبيعٌ للمجتمع على أكله والاستهانة به، وفي ذلك كذلك إعانةُ على انتشاره أكثرَ مما هو منتشرٌ اليوم، حتى تعمَ به البلوى، فيطرق كل بيت, ويشوبَ كل مال, ويلغَ الناس فيه بيعاً وشراء يتداولونه ويضاربون عليه كما يضاربون على الأسهم!!

والعجيب أن يُفتح هذا السوق في هذا الوقت الذي لا يزال العالم تجرع فيه من شؤم السندات الربوية، حيث كانت من أهم أسباب الأزمة المالية العالمية، والأعجب أن يأتي هذا في الوقت الذي يشهد فيه العالم توجه المصارف والأسواقِ المالية العالمية إلى المنتجات الإسلامية الآمنة!!

إن الصكوك الإسلامية (الحقيقية وليست الصورية) تعزز الاستثمار الحقيقي, وتوسع مبدأ المشاركة, وتسهمُ في تدويل المال بين الأغنياء والفقراء, يقتسمون فيه جميعاً الربحَ والخسارة, أما السندات التقليدية, فهي تعزز استثمارَ النقودِ في النقود ذاتها, ومن المعلوم أن النقد لا يولد النقد بنفسه، بل لا بد من أن يُستثمرَ في أعمالٍ وتجاراتٍ يفيد منها المجتمع بمختلف طبقاته، من أعلاها إلى أدناها.

إن على الغيورين على حرمات الله أن يعلنوا النكيرَ على هذا المنكر المستعلَنِ المشرعن، فالقاعدة الشرعية: أن كلَّ منكرٍ معلنٍ يجبُ إعلانُ إنكارِه في الناس إبراءً للذمة، وتحذيراً للأمة أن تخدع به فتقعَ في مغبته، فإن لم يَزُل المنكر فحسبنا أن قد أبرأْنا ذمَّتَنَا، (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

اللهم إنا نبرأ إليك مما فعلت هيئة سوق المال، ونعتذر إليك عن تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا... أقول قولي 

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات
السندات.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life