عناصر الخطبة
1/ أهمية الستر على المسلمين وفضله 2/ كثرة الآثار الإيجابية المترتبة على الستر على الفرد والمجتمع 3/ أهمية ستر المسلم لنفسه 4/ ضوابط شرعية في الستر على الآخرين.اقتباس
إن السِّتْر يطفئ نار الفساد، ويشيع المحبة في الناس.. ويورث الساتر سعادة وسترًا في الدنيا والآخرة.. كما أنه يثمر حسن الظن بالله –تعالى- وبالناس.. وكتم الأسرار نوعٌ من الستر يُحمَدُ عليها صاحبها من الخالق والمخلوق.. فاستعن بالله على التحلي بهذه الفضيلة؛ فهي أغلى من الجوهرة النفيسة.. يدرك ذلك كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد…
الخطبة الأولى:
الحمد لله باسط العطاء، مجيب الدعاء، أحمده –سبحانه- على السراء والضراء، حمداً يملأ الأرض والسماء، وما بينهما مما يشاء.
وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، الملكُ الديان، ذو الجود والإحسان، يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، خير من تضرَّع إلى الله في الشدة، وأرشد إلى صالح الدعوات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يتضرعون إلى ربهم في سائر الأوقات ويسارعون في الخيرات، أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: لقد أمرنا -سبحانه- بستر العورات وتغطية العيوب وإخفاء الهنات والزلات.. ويتأكد ذلك مع ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفًا بالأذى والفساد.. فمن مقتضى أسمائه الحسنى الستر، فهو ستِّير، يحب أهل الستر، وهو –سبحانه- سِتِّير يحب الستر، ويستر عباده في الدنيا والآخرة.
روى البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يدنو أحدكم من ربه، فيقول: أعملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره.. ثم يقول: إني سترتُ عليك في الدنيا.. وأنا أغفرها لك اليوم"..
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله -عز وجل- حَيِي ستِّير.. يحب الحياء والستر" (رواه أحمد وأبو داود).
وأمرنا الله –تعالى- بالستر.. والستر هو إخفاء ما يظهر من زلات الناس وعيوبهم.
والجزاء من جنس العمل.. فمن كان حريصاً على ستر المسلمين في هذه الدنيا إذا زلُّوا أو وقعوا في الهفوات؛ فإن الله -تعالى- يستره في موقف هو أشد ما يكون احتياجًا إلى الستر والعفو حين تجتمع الخلائق للعرض والحساب..
ففي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة".
وروى مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا.. إلا ستره الله يوم القيامة".
الستر ثوابه الجنة قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يرى مؤمن من أخيه عورة فيسترها عليه.. إلا أدخله الله بها الجنة" (رواه الطبراني).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته" (رواه ابن ماجه).
وأول من حرص على هتك الأستار.. هو إبليس.. فهو وأولياؤه يحرصون على كشف السوءات والعورات.. فلا زال بأبينا آدم وأُمنا حواء حتى بدت لهما سوءاتهما.. فقال سبحانه محذرًا: (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُو وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 27].
الشريعة تحث على الستر، ولم تتشوَّف الشريعة لكثرة عدد المحدودين والمرجومين، فالتهمة لا تكون إلا ببينة أوضح من شمس النهار.
ولذلك شُرِع إقامةُ حد القذف على من رمى مؤمنًا بغير بينة شرعية.. ونهينا عن هتك الستر.. فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].
وقال في قصة الإفك: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) [النور: 12]، وقال: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16].
ولما أتى هزَّال بن يزيد الأسلمي بماعز الأسلمي لإقامة الحد عليه، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك" (رواه الإمام أحمد وأبو داود).
وحثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن وقع في معصية أن يستر نفسه ولا يفضحها.. وأنه كلما ازداد ستراً كان أقرب لمغفرة ذنبه..
ففي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين.. وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً، ثم يصبح قد ستره ربه فيقول: يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه.. فيبيت يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه".
فليس عندنا كرسي اعتراف ولا صناديق غفران..
فمَن اقترف ذنبًا وهتك سترًا فليبادر بالتوبة من قريب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.. وتأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى شيئًا من هذه القاذورات فليستتر فإنه من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه كتاب الله" (رواه الإمام مالك في الموطأ).
أيها الإخوة الكرام: إن الحدود كفارة لأهلها، ومع هذا استحب أهل العلم لمن أتى ما يستوجب الحد أن يستر على نفسه، ويتوب فيما بينه وبين ربه، ويكثر من الحسنات الماحية..
وفي الصحيحين أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها -استمتاع محرم بغير جماع- فأنا هذا فاقضِ فيَّ ما شئت".. فقال عمر: "لقد سترك الله لو سترت نفسك"؛ فلم يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا.. فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً دعاه وتلا عليه هذه الآية: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114]، فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة؟.. قال: "بل للناس كافة".
وأصرح من ذلك وأقوى ما ورد من فعل المصطفى –عليه الصلاة والسلام– فقد جاء في حديث أبي أمامة المخرَّج في الصحيحين قال: "بينما رسول الله في المسجد ونحن قعود معه إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله: إني أصبت حداً فأقمه عليَّ.. فسكت عنه.. ثم أعاد فقال: يا رسول الله: إني أصبت حداً فأقمه عليَّ.. فسكت عنه.. وأقيمت الصلاة.. فلما انصرف نبي الله.. قال أبو أمامة: فاتبع الرجل رسول الله حين انصرف.. واتبعت رسول الله أنظر ما يرد على الرجل.. فلحق الرجل رسول الله فقال: يا رسول الله.. إني أصبت حداً فأقمه عليَّ.. قال أبو أمامة: فقال له رسول الله: "أرأيت حين خرجت من بيتك.. أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟" قال بلى يا رسول الله. فقال له رسول الله: "فإن الله قد غفر لك حدك".. أو قال: "ذنبك".
والمتأمل في الحديث يتجلى له بوضوح عدم رغبة النبي -صلى الله عليه وسلم- مفاتحة الرجل في ذنبه الذي ارتكبه بل إنه أعرض عنه.. ولما انقضت الصلاة لم يبحث عنه وإنما انصرف ولحق به الرجل.. وكل ذلك يدل على التأكيد على أهمية الستر وفضله.. فأين من يتأمل هذا الهدي النبوي.
بل حتى الشهادة في مثل هذه القضايا ينبغي علينا أن نلاحظ أن ثلاثة أرباع الشهادة التامة فيها.. تنقلب ردعاً للشاهد وزجراً له عن التفوه بالشهادة.. كي يظل المخطئ في حماية من الستر ونجوة من العقاب.
وحسبك أن تعلم أن عدد الشهود ما لم يتكاملوا أربعة يعدون آثمين متلبسين بجريمة القذف.
وعن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: "لو أخذت سارقًا لأحببت أن يستره الله، ولو أخذت شاربًا لأحببت أن يستره الله -عز وجل-". (رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق).
وعن مريم بنت طارق: أن امرأة قالت لعائشة: يا أم المؤمنين إن كَريًّا -هو من يؤجرك دابته- أخذ بساقي وأنا محرمة.. فقالت: حِجرًا حِجرًا حَجرًا -أي: سترًا وبراءة من ذلك- وأعرضت بوجهها وقالت: يا نساء المؤمنين.. إذا أذنبت إحداكن ذنبًا فلا تخبرن به الناس ولتَستَغفِرَنَّ الله ولتَتُب إليه؛ فإن العباد يُعَيِّرون ولا يُغَيِّرون، والله –تعالى- يُغَيِّرُ ولا يُعَيِّرُ" (رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "من أطفأ على مؤمن سيئة فكأنما أحيا موءودة" (رواه ابن أبي شيبة في مصنفه).
وعن العلاء بن بدر قال: "لا يعذب الله قومًا يسترون الذنوب".
وعن الضحاك في قوله -تعالى-: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20]، قال: "أما الظاهرة فالإسلام والقرآن.. وأما الباطنة فما يستر من العيوب".
وعن الحسن البصري أنه قال: "من كان بينه وبين أخيه سِتْر فلا يكشفه".
وعن أبي الشعثاء قال: "كان شرحبيل بن السمط على جيش فقال: إنكم نزلتم بأرض فيها نساء وشراب.. فمن أصاب منكم حدًّا فليأتنا حتى نطهِّره.. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فكتب إليه: لا أُمَّ لك.. تأمر قومًا ستر الله عليهم أن يهتكوا ستر الله عليهم".
وعن عثمان بن أبي سودة قال: "لا ينبغي لأحد أن يهتك ستر الله، قيل: وكيف يهتك ستر الله؟ قال: يعمل الرجل الذنب فيستره الله عليه فيذيعه في الناس".
وعن علام بن مسكين قال: سأل رجل الحسن فقال: "يا أبا سعيد.. رجل عَلِمَ من رجل شيئًا.. أيفشي عليه؟ قال: يا سبحان الله! لا".
ويُحكى أن عقبة بن عامر –رضي الله عنه- كان له كاتب.. وكان جيران هذا الكاتب يشربون الخمر؛ فقال يومًا لعقبة: إنَّ لنا جيرانًا يشربون الخمر.. وسأخبر الشرط ليأخذوهم.. فقال عقبة: لا تفعل عِظْهُمْ. فقال الكاتب: إني نهيتهم فلم ينتهوا.. وأنا داعٍ لهم الشرط ليأخذوهم.. فقال عقبة: ويحك. لا تفعل؛ فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة" (رواه أبو داود).
وفي قصة المرأة التي زَنَت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه -صلى الله عليه وسلم- أعرض عنها ولم يفرح بخبرها.. ولما أصرّت وألحّت على النبي -صلى الله عليه وسلم- تريد تطهير نفسها.. فلم يسألها عليه الصلاة والسلام كم مرة فعلت الزنا..
بل لم يسألها من هو الذي زنى بك.. وتمنى أنها لو استترت بستر الله.
وجلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بين أصحابه.. وفيهم جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-.. فخرج من أحد الجالسين ريح.. فأراد عمر أن يأمر صاحب الريح أن يقوم فيتوضأ.. فقال جرير لعمر: يا أمير المؤمنين.. أو يتوضأ القوم جميعًا؟ فسُرَّ عمر برأيه وقال له: "رحمك الله.. نِعْمَ السيد كنت في الجاهلية.. ونعم السيد أنت في الإسلام".
أيها المسلمون.. إن السِّتْر يطفئ نار الفساد، ويشيع المحبة في الناس.. ويورث الساتر سعادة وسترًا في الدنيا والآخرة.. كما أنه يثمر حسن الظن بالله –تعالى- وبالناس.. وكتم الأسرار نوعٌ من الستر يُحمَدُ عليها صاحبها من الخالق والمخلوق.. فاستعن بالله على التحلي بهذه الفضيلة؛ فهي أغلى من الجوهرة النفيسة.. يدرك ذلك كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد…
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدراً، وأحاط بكل شيء علماً، أحمده سبحانه وأشكره فنعمه علينا تترى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خص بالمعجزات الكبرى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: والآثار الإيجابية المترتبة على الستر سواء على الفرد أو المجتمع كثيرة.. منها:
أولاً: استشعار فضل الستر.. وأن الله يستر من ستر عبداً مذنباً؛ فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يستر عبدٌ عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة".
ثانياً: رجوع المستور عليه وتوبته.. وليعلم من أنعم الله عليه بالستر بين عباده أن الله يُمهِل ولا يُهْمِل.. وأن الله قادر على أن يكشف سترَه إذا هو كشف الستر الذي بينه وبين الله.. وأن الله مطلع عليه وأن من قام بالستر عليه لم يستره عن عين الله.. قال تعالى: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت: 22].
ثالثاً: أن الستر علاج اجتماعي كبير.. حيث تختفي فيه كثير من أمراض المجتمع.
رابعاً: انتشار المحبة والألفة بين الناس.. وفشو حسن الظن بين المؤمنين.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12].
أيها المسلمون: على المرء ألا يهتك ستر نفسه.. فيمسك لسانه عن فضح أسراره.. وهتك أستاره.. والكلام عن مشاكله الشخصية.. قدر المستطاع.. حتى لا يضطر بعد ذلك أن يلتمس من الآخرين الستر والكتمان..
إذا المرءُ أفشى سرّهُ بلسانهِ *** ولامَ عليهِ غيرَهُ فهوَ أحمَقُ
إذا ضاقَ صدرُ المرءِ عن سرِّ نفسهِ *** فصدرُ الذي يُستودَعُ السرَّ أضيَقُ
ومن ذلك أن يستر المسلم ما يدور بينه وبين أهله.. فلا يتحدث بما يحدث بينه وبين زوجته من أمور خاصة.. وهي أمانة لا يجوز للمرء أن يخونها بكشفها.. وإنما عليه أن يسترها.. روى مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من أشرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجلُ يُفْضِي إلى امرأتهِ.. وتُفْضِي إليه ثم يَنْشُرُ سِرَّها".
لذا حث الشرعُ المرءَ على سَترِ عورتهِ الحسيَّة فضلاً عن المعنوية.. فقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 5- 7].
وفي سنن أبي داود، أنه -صلى الله عليه وسلم- سئل فقيل له: يا رسول الله.. عوراتنا ما نأتي وما نذر؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك"، فقال السائل: يا نبي الله.. إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن استطعتَ ألّا يراها أحد.. فلا يَرَينها"، قال السائل: إذا كان أحدُنا خاليًا؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فالله أحقُّ أن يُستحيا منه من الناس".
وروى مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل.. ولا المرأة إلى عورة المرأة".
وأوجبَ الله –تعالى- على المسلم إذا أراد أن يغتسل أو يستحمَّ أن يسْتَتِرَ؛ حتى لا يَطَّلع على عورتهِ أحد.. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- حييٌ ستير يحب الحياء والستر.. فإذا اغتسل أحدكم فليستتر" (رواه أحمد وأبو داود).
أيها الإخوة الكرام: فالستر صفة في الإنسان يحبها الله -عز وجل-، وهي صفة يتحلى بها الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم بإحسان.. روى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن موسى كان رجلاً حييّاً ستيراً لا يُرى من جلده شيء استحياء منه.. فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستر هذا التستر إلا من عيب بجلده.." الحديث..
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض" (رواه أبوداود والترمذي).
وعن أبي السمح -رضي الله عنه- قال: كنت أخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا أراد أن يغتسل قال: "ولّني قفاك"، وأنشُرُ الثوبَ فأستُرهُ بهِ. (رواه ابن ماجه).
وليس من الأدب ما يفعله بعض الصبية من التبوّل في الطريق؛ ففي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- مرّ بالقبور فسمع صوت اثنين يعذبان في قبريهما.. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنهما ليعذبان.. وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول.. وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة".
ومن مبالغة الشريعة في الحث على الستر.. أمر المؤمن بستر الرؤيا السيئة؛ ففي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: "الرؤيا الصالحة من الله.. والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئًا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ.. وليتعوَّذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضرَّه إن شاء الله".
أيها الإخوة المؤمنون: فالمسلم إذا أراد أن يستر أخاه.. فإن هناك شروطًا لابد أن يراعيها عند ستره؛ حتى يحققَ السترُ الغرضَ المقصودَ منه.. وأهمُّ هذه الشروط:
- أن تكون المعصية التي فعلها المسلم لا تتعلق بغيره ولا تضر أحدًا سواه.. أما إذا وصل الضرر إلى الناس فهنا يجب التنبيه على تلك المعصية لإزالة ما يحدث من ضرر.
- أن يكون الستر وسيلة لإصلاح حال المستور بأن يرجع عن معصيته ويتوب إلى الله تعالى.. أما إذا كان المستور ممن يُصِرُّ على الوقوع في المعصية.. وممن يفسد في الأرض.. فهنا يجب عدم ستره حتى لا يترتب على الستر ضرر يجعل العاصي يتمادى في المعصية.
- ألا يكون السترُ وسيلةً لإذلالِ المستورِ واستغلاله وتعييره بذنوبه..
- ألا يمنع السترُ من أداء الشهادة إذا طُلبت.. (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:283].
- الستر مرهونٌ برد المظالم.. فإذا لم تُرد فالساترُ شريكٌ للمستور عليه في ضياع حق الغير..
نسأل الله أن يستر عيوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويتجاوز عن زلاَّتنا وهفواتنا، وأن يصون عوراتنا، ويؤمن روعاتنا؛ إنَّه قريب مجيب.
اللهم حسِّن أخلاقنا، وأصلح أعمالنا، وطهر قلوبنا، واستر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، وتجاوز عن سيئاتنا، وتول أمرنا.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، وللمسلمين أجمعين.
اللهمّ إنا نعوذُ بكَ من جَهد البلاء، ودَرَكِ الشَّقاء، وسوءِ القضاء، وشماتَةِ الأعداء.
اللهمّ لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا همّاً إلا فرّجْته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحةً رزقته، ولا ولداً عاقّاً إلا هديته وأصلحته يا ربَّ العالمين.
اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين واخذُلِ الشِّرك والمشركين ودمِّر أعداء الدين..
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت إلى إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، سبحان ربك ربّ العزّة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمدُ لله رب العالمين.
عباد الله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات