عناصر الخطبة
1/ اختلاف نظرة الناس للدنيا والآخرة 2/حديث القرآن عن الدنيا والآخرة 3/لماذا جعل الله الدنيا فانية والآخرة باقية؟ 4/المعرفة سبب النجاة في الدنيا والآخرة 5/خصائص الدنيا والآخرة والعلاقة بينهما 6/الإيمان والتقوى زاد الآخرةاقتباس
وإن الحياة الطيبة والسعادة الحقيقية في الإيمان والتقوى، فإن الله -تبارك وتعالى- خلق الدنيا والآخرة ليعرف العباد عظمته وجلاله ويعرفوا آلاءه وإحسانه، وجعل الإنسان إن اتقى الله وآمن به سيداً في الدنيا والآخرة، وإن كفر به وعصاه عاش ذليلاً مهاناً في الدنيا والآخرة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله مغيث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، ومسبل النعم على الخلق أجمعين، عظُم حلمه فستر، وبسط يده بالعطاء فأكثر، نعمه تترى، وفضله لا يُحصى، من أناخ بباب كرمه ظفر، وأزال عنه الضُّر، وجبر ما انكسر، إليه وحده تُرفع الشكوى، وهو المقصود في السر والنجوى، يجود بأعظم مطلوب، ويعُم بفضله وإحسانه كل مرغوب.
سبحانه أنشأ السحاب الثقال، فأهطل دَيمها فبلَّ الأرض بعد جفافها، وأخرج نبتها بعد جدوبها، سبحانه وسع سمعه ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات وتنوع الحاجات، فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو مجيب الدعوات ومفرج الكُربات، وهو مسبل النعم على جميع البريات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا هو عبد الله ورسوله، أصدق العباد قصدًا، وأعظمهم لربه ذِكرًا وخِشيةً وتقوى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: أوصيكم ونفسي بخير الوصايا، و كاشفة الرزايا، ومطهرة الحنايا، تقوى الله -جل في علاه-، فهي وصية الأنبياء والمرسلين لعباد الله الصالحين.
عباد الله: إن الله -تبارك تعالى- هو الأول والآخر والظاهر والباطن، خلق السموات والأرض، وخلق الدنيا والآخرة، وهو الحكيم العليم، الذي يخلق ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. أظهر -سبحانه- ما شاء، وأخفى ما شاء، وهو العزيز الحكيم. فأظهر ما شاء من المخلوقات، وأخفى نفسه -جل جلاله-، وأظهر الأبدان وأخفى الأرواح، وأظهر قيمة الأشياء وأخفى قيمة الأعمال، وأظهر الدنيا وأخفى الآخرة، خلق -سبحانه- الدنيا وجعلها دار الإيمان والعمل، وخلق الآخرة وجعلها دار الثواب والعقاب.
ولكن هذه المعاني تاهت عن كثير من الناس وغابت عن عقولهم، فانقلبت معاييرهم، وتبدلت نظرتهم للدنيا والآخرة، وارتدى معظمهم ثوب يهود الذي قال الله في شأنهم: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) [البقرة: 96]. فرضوا بها مقرا ومستقرا، وآثروها على الآخرة، واشتروا الثرى بالثريا، والدنا بالعلية، ولسان حالهم "وما نحن بمبعوثين"، لذلك فقد توجب على الدعاة والخطباء أن يبصروا الناس بهذه القضية الكلية التي هي محور وجود كل إنسان على وجه الأرض، وجب عليهم أن يبصروا الناس بفقه خلق الدنيا والآخرة من خلال الآيات والأحاديث وآثار الصالحين وأئمة السلف -رضوان الله عليهم-.
عباد الله: إن الله -عز وجل- قد رسم للناس طريق الدنيا والآخرة والعلاقة بينهما ونظرة المسلم الصادق تجاه كل منهما، وحقيقة كل واحدة منهما، وذلك في كتابه الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي ذلك حكمة عظيمة من العلى الكبير، كي لا يبق لمعتذر اعتذار، ولا لمغتر اغترار.
فلو نظرت للآيات التي جمعت بين الدنيا والآخرة لوجدت بيانا شافيا وجوابا كافيا لمن أراد أن يعرف الفرق بين الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما، قال الله تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64]، وقال الله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20].
فالدنيا لهو ولعب وزينة وتنافس وتفاخر ومع ذلك فانية، والآخرة هي الحياة الدائمة والسعادة الكاملة والسرور والحبور لمن أطاع العزيز الغفور، أي أن الدنيا والآخرة ضرتان إن ملت إلى إحداهما أضررت بالأخرى، وبينهما في الجمال والكمال والدوام أبعد مما بين المشرق والمغرب.
والآخرة خير من الأولى كما قال -سبحانه-: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16، 17]؛ فسرور الدنيا كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، إن مشيت عليها حملتك، وإن حملتها قتلتك، وإن أقبلت عليك شغلتك، وإن أدبرت عنك أحزنتك، وإن تكثرت منها أطغتك كما قال -سبحانه-: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) [العلق: 6، 7]، ويكفي في هوانها على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها، وكل ما فيها متاع زائل كما قال -سبحانه-: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى: 36].
والدنيا دار الغربة، والعبد فيها على جناح سفر، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فليكن فيها كأنه غريب أو عابر سبيل. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَـحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَـرَكَهَا" أخرجه [الترمذي(2377) وابن ماجة(4109) صحيح سنن الترمذي (1936)، وصحيح سنن ابن ماجه (3317)]، فإذا طال عمر الإنسان، وحسن عمله، كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة، فإنه كلما طال السفر إليها، كانت الصبابة أجل وأفضل، وإذا طال عمر الإنسان، وساء عمله، كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه، ونزولاً به إلى أسفل، فالمسافر إما صاعد، وإما نازل وإما رابح، وإما خاسر، سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الناس خير فقال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُـهُ قَالَ فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُـهُ" [أخرجه الترمذي(2330) وصححه الألباني].
والله -عز وجل- قد جعل الدنيا فانية ولذاتها زائلة وجعلها بهذه الأوصاف والمنغصات لحكم عظيمة، أعلاها وأجلاها؛ حتى لا ينشغل بها العبد وينسى الغرض الذي خلق من أجله وغاية وجوده فيها، فإن الله -عز وجل- خلق الدار الدنيا، وجعلها سكناً للعباد، ومكاناً للعمل وامتثال أوامر الله، وهيأ للعباد فيها ما يحتاجونه من الطعام والشراب واللباس والمراكب، وسائر النعم والملاذ كما قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 29]، وجعل -سبحانه- ما في الدنيا من المخلوقات والأحوال للاعتبار والتفكر، والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر، ومعرفة عظمته وقدرته، وسعة علمه كما قال -سبحانه-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [الطلاق: 12]، وبقاء العباد في هذه الدار إلى أجل مسمى لا يعلمه إلا الله، فإذا انقضت مدة السكن أجلاهم ربهم من الدار، ثم خربها لانتقال الساكن منها إلى غيرها.
ومشاهد يوم القيامة خير دليل على هذا المقال، فالله -عز وجل- كور الشمس وفطر السماء ونثر الكواكب ودك الأرض وسير الجبال وعطل العشار وفجر البحار وبعثر ما في القبور، كما قال -سبحانه-: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار: 1 - 5]، فسبحان من انقادت المخلوقات بأسرها لقهره، وأذعنت لجبروته، وخضعت لمشيئته، وكلها بيده أصغر من الخردلة: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الجاثية: 36، 37].
وفي تغير الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، بيان لقدرة العزيز الجبار، بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد بإتلاف معبوداتهم، وإظهار أن للعالم رباً مدبراً يتصرف في الكون كيف يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فكم لله من حكمة في هدم هذه الدار ودلالة على كمال قدرته وقوته وعظمة عزته وسلطانه.
عباد الله: إن الله -عز وجل- قد خلق الخلق لغاية عظمى وهدف أسمى، خلق الناس ليعبدوه، ولا يمكن لهم أن يعبدوه إلا إذا عرفوه، فيجب على كل إنسان أعطاه الله عقلاً يدرك به حقائق الأشياء أن يعرف ربه ونفسه ودنياه وآخرته.
فإذا عرف العبد ربه نشأ من ذلك محبة الله وتعظيمه، وطاعته، والتوكل عليه، وإذا عرف نفسه؛ نشأ من ذلك الحياء والخوف من الله، والتواضع له، والافتقار إليه، والتوكل عليه، وإذا عرف الدنيا، وسرعة زوالها؛ نشأ من ذلك شدة الرغبة عنها، فالدنيا مجلسان: مجلس في طلب الآخرة, ومجلس في طلب الحلال، والثالث يضر لا ينفع فاجتنبه.
وإذا عرف الآخرة، وكمال نعيم الجنة؛ نشأ من ذلك شدة الرغبة فيها، والمسارعة إلى الأعمال التي توصل إليها. وإذا عرف شدة عذاب النار؛ نشأ من ذلك شدة الفرار منها بالحذر من الشرك والمعاصي.
والدنيا دار غرور واستدراج تحتاج لفهم وبصيرة، تحتاج من عاقل وعامل على طريق رضا الرحمن ودخول الجنان أن يفهم هذه الدنيا ويفهم خصائصها وعلاماتها، وأن يفهم دوره في المنظومة الإلهية للكون والخلق، والتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري، ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني، وحقيقة الحياة وتكاليفها، وماذا يراد منها؟، فلابد من التفكر في الدنيا والآخرة معا وفهم الخصائص التي تميز كل منهما، ومن هذه الخصائص:
أولا: الدنيا والآخرة حسبة واحدة؛ فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر، والآخرة شطر الحياة الأعلى والدائم. والله -عزّ َوجلَّ- بعث الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ليعلموا الناس كيف يقضون حياتهم فيما ينفعهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، وكيف يرضون ربهم الذي خلقهم ورزقهم. ويتم ذلك بمعرفة الله بأسمائه وصفاته ومعرفة دينه وشرعه الذي هو الطريق الموصل إليه ومعرفة ما للناس بعد القدوم عليه في الآخرة من النعيم المقيم لمن أطاعه والعذاب الشديد لمن عصاه: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [البقرة: 219، 220]، فللحصول على السعادة لا بد من التفكير في الدنيا والآخرة، وتقديم ما يبقى على ما يفنى، ولزوم ذلك: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) [الضحى: 4].
ثانيا: مالك الدنيا والآخرة واحد؛ فالدنيا والآخرة ملك لله، فمن أراد شيئاً من ذلك فليطلبه من مالكها، فعنده ثواب الدنيا والآخرة، ولا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك أمور الدنيا والدين إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدوام: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء: 134].
ثالثا: سعي الدنيا وسعي الآخرة، ومن أراد الدنيا فعمل لها وسعى، ونسي المبتدأ والمنتهى، عجل الله له من حطامها ومتاعها ما شاء مما كتب له، ولكنه متاع غير نافع ولا دائم له، ثم جعل له في الآخرة العذاب والفضيحة كما قال -سبحانه-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء: 18].
ومن آمن بالله، وأراد الآخرة، وسعى لها سعيها الذي جاء في كتاب ربه، وجاء في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فله أجره وثوابه عند ربه كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء: 19]، وكل واحد من هؤلاء وهؤلاء، يمده الله من عطائه ونعمه، لأنه عطاؤه وإحسانه يتفضل الله به على المؤمنين والكفار، وأهل الطاعة والمعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، بل جميع الخلائق يأكلون من رزقه، راتعون في فضله وإحسانه: (كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء: 20].
والناس في سعي الدنيا قسمان: منهم من اجتهد على الدنيا ثم راح وتركها، فهو يحاسب على حلالها، ويعاقب على حرامها، والذين اجتهدوا على الدنيا صنفان: منهم من حصلها فبغى وطغى، وتجبر واستكبر، فصارت زاده إلى النار، ومنهم من خسرها فحصد الهم والحزن، وتحمل الديون، وحقوق العباد.
والذين اجتهدوا لكسب الآخرة قسمان أيضَا: منهم من اشتغل بالعبادة وأعمال البر فقط، فهذا إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْـهُ عَمَلُـهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْـمٍ يُنْتَفَعُ بِـهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِـحٍ يَدْعُو لَـهُ" [مسلم (1631)].
ومنهم من اشتغل بالعبادة، والدعوة، وتعليم الأمة أحكام دينها، فهذا عمله مستمر، لأن كل من اهتدى بسببه، أو تعلم بسببه، فله مثل أجره، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كَانَ لَـهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِـمْ شيئاً، وَمَنْ دَعَا إلى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْـهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِـمْ شيئاً" [مسلم (2674)]، فكم يكون في صحيفة هذا من المسلمين والمصلين، والدعاة والمجاهدين، والعلماء والمعلمين، والصائمين والمتصدقين، والحجاج والمعتمرين؟.
وبالجملة فإن الله -تبارك وتعالى- قد خلق الخلائق، وكتب الآجال، وقسم الأرزاق، وهو الحكيم الخبير، يعطي الدنيا لأعدائه ليتمرغوا فيها، فتركبهم وتذلهم، ويمنعها عن أوليائه، ليتضرعوا إليه، ويقفوا ببابه: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 55]؛ فهؤلاء لما قدموها على مراضي ربهم، وعصوا الله لأجلها، عذبهم الله بها في الدنيا بهم القلب، وتعب البدن، وانتقلوا من الدنيا إلى الشقاء الدائم في نار جهنم.
رابعا : الدنيا ليست مذمومة لذاتها، وليست محذورة لعينها، فهي مكان وزمان العمل والعبادة، والدعوة والجهاد، وإنما تذم لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، والعمل بشرعه، والفقر ليس مطلوباً لعينه، بل لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى، وعدم التشاغل به، وفراق المحبوب شديد، فمن أحب الدنيا كره لقاء الله تعالى، ومن أحب الله تعالى اشتغل بما يحب، وهجر ما يكره، وأحب لقاء الله تعالى.
وقد خلق الله بطن الأم لخلق الإنسان، وتكميل أعضائه وجوارحه. وخلق الدنيا لتكميل الإيمان والأعمال الصالحة. وخلق الآخرة لتحقيق القسط والعدل الإلهي، وتكميل الشهوات، وإبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا في النعيم والخلود. فالدنيا التي تشغل العبد عن طاعة الله هي عدو له، وهي كالجيفة فكيف نقعد على موائدها؟ وهي كالحمام فكيف نعشق البقاء فيها؟. والآخرة أغلى من الجواهر فكيف لا نسارع إليها؟ والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو لم يكن من هوانها إلا كون الله الحق -تبارك وتعالى- يعصى فيها، فذلك كاف في بغضنا لها.
خامسا : الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء؛ فالدنيا دار الإيمان والعمل، والآخرة دار الثواب والعقاب، فيجازي الله العباد حسب إيمانهم وأعمالهم، فريق في الجنة وفريق في السعير كما قال -سبحانه-: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [الحج: 56، 57] [الحج: 56، 57]، وقد أعد الله للمؤمنين في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر كما قال -سبحانه-: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، ويا له من مشهد رهيب وموقف عظيم، إذا فصل الله بين العباد يوم القيامة، صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار.
أهل الجنة في نعيم دائم كما قال -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72]. وأهل النار في عذاب دائم كما قال -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [التوبة: 68].
اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا، اللهم واجعل الآخرة غاية سعينا، ومنتهى مرادنا، إنك سميع قريب مجيب الدعوات قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده وصلاة وسلاما على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله، وعلى من والاه، واهتدى بهداه، صلاة وسلاما متلازمين إلى يوم يبعثون.
أما بعد:
عباد الله: إن الله قد خلق الدنيا وجعلها لهوا ولعبا، حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى، وحين يعيشها المرء لذاتها، مقطوعة عن منهج الله فيها. فإن حياته لا تختلف كثيرا عن حياة الأنعام الذين يأكلون ويتمتعون، وحين يفهمها العبد ويعرف المراد منها وموقعه في هذه الدار وغاية وجوده فيها و يجعلها مزرعة للآخرة، ويستعمل الإيمان والتقوى في هذه الدنيا كما قال -سبحانه-: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) [محمد: 36]، فإنه يكون مستحقا لوراثة الدار الآخرة ودخول الفردوس الأعلى، فالإيمان والتقوى والعمل بمنهج الله في الحياة الدنيا هو الذي يجعلها ميداناً فسيحاً لكسب الأجور، ويخرجها عن أن تكون لعباً ولهواً، ويطبعها بطابع الجد ويرفعها عن مستوى القاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة المتصلة بالملأ الأعلى.
وحينئذ لا يكون ما يبذله المؤمن المتقي من عرض هذه الحياة الدنيا ضائعَا ولا مقطوعاً. ولذلك قال السلف -رضوان الله عليهم-: "حب الدنيا رأس كل خطيئة". ومقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد ويسمى ذلك فقراً، وإما بانزواء العبد عنها ويسمى ذلك زهداً، ولا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
الأول: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها، والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنكد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع، وما يعقب ذلك من الحسرة، فطالب الدنيا لا ينفك من همٍ قبل حصولها، وهمٍ في حال الظفر بها، وغمٍ وحزن بعد فواتها.
الثاني: نظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من اللذات والنعيم، والخيرات والمسرات.
فإذا تم له هذان النظران وفكر في هذه وهذه، وتجول في تلك الدارين ببصره وبصيرته آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضي العقل الزهد فيه، وهذا النظر وهذه البصيرة هي التي تفرق بين أهل الجنة وأهل النار، كما قال الله تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].
وإن الحياة الطيبة والسعادة الحقيقية في الإيمان والتقوى، فإن الله -تبارك وتعالى- خلق الدنيا والآخرة ليعرف العباد عظمته وجلاله ويعرفوا آلاءه وإحسانه، وجعل الإنسان إن اتقى الله وآمن به سيداً في الدنيا والآخرة، وإن كفر به وعصاه عاش ذليلاً مهاناً في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [البقرة: 212].
عباد الله: فهل يعقل أن من سار على درب الهداية والرشاد واستعمل الإيمان والتقوى منهجا وطريقا في حياته أن يختار غيرهما؟! فالله يصطفي من خلقه من يشاء ويجعله أهلا لحمل دعوته، ونشرها بين الناس، كما اصطفي أمة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- لحمل الدعوة ونشرها بين الناس.
إن اختيار الله لهذه الأمة لحمل دعوته تكريم وتشريف، ومنّ وعطاء، فإذا لم يكونوا أهلاً لهذا الفضل، ولم ينهضوا بتكاليف هذه المكانة، وإذا لم يدركوا قيمة ما أعطوا، فإن الله يسترد ما وهب، ويختار غيرهم لهذه المنة ممن يقدِّر فضل الله، وعظيم نعمته، ويا لها من أمانة وما أعظمها من مسئولية، إنها لنذارة عظيمة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان وأحس بكرامته على الله وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم ويمشي في الأرض بسلطان الله في قلبه ونور الإيمان في كيانه ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].
إن الإيمان أغلى شيء في حياة الإنسان، وهو هبة عظيمة من الله لعباده، لا يعدلها في هذا الوجود شيء، والحياة رخيصة، والمال زهيد، حين يوضع الإيمان في كفة، ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه، وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها، ثم تسلب منه، ويطرد وتوصد دونه الأبواب. بل إن الحياة لتغدو جحيماً لا يطاق عند من يتصل بربه الذي بيده كل شيء، ثم توصد دونه الأبواب، ويطبق دونه الحجاب: ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].
وإذا استكبر من في الأرض عن عبادة ربهم، ولم ينقادوا لها، فإنهم لن يضروا الله شيئاً، والله غني عنهم، وله عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يملون من عبادته، لشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [فصلت: 38].
فما أعظم نعم الله على عباده وهو يواليها عليهم في بطون أمهاتهم وفي دنياهم وفي أخراهم: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولا إلى النار مصيرنا, واجعل الجنة هي دارنا، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
التعليقات