عناصر الخطبة
1/ الإيمان بالرسل أصل إيماني 2/ كفْر مَن فرَّق بين الله ورسله 3/ عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم 4/ أعداد الأنبياء وذِكْرهم في القرآن الكريم 5/ حاجة الناس للرسل 6/ وظائف الرسل 7/ السير بنهج الرسلاهداف الخطبة
اقتباس
إن من قضايا العقيدة التي تحتاج إلى تذكير، الإيمان بالرسل والرسالات، والإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، قال تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المسلمون، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون، وتَبَصَّرُوا حقيقة دينكم، وعُوا قضية إيمانكم الذي به تلقون ربكم.
إن من قضايا العقيدة التي تحتاج إلى تذكير، الإيمان بالرسل والرسالات، والإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، قال تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:84].
والذين يزعمون أنهم مؤمنون بالله ولكنهم يكفرون بالرسل، أو ينكرون شيئاً مما أنزل الله عليهم، هؤلاء لا يقدرون الله حق قدره: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:91].
وليس من الإيمان في شيء التفريق بين الله ورسله، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً) [النساء:150-151].
فقد نصت الآية على كفر من زعم الإيمان بالله وكفر بالرسل، كما في قوله تعالى: (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ)؛ ولهذا قال الإمام القرطبي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: نص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر، وإنما كان كفراً لأن الله فرض على الناس أن يعبدوه بما شرعه على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم، ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أُمِروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع -سبحانه-، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية، وكذلك التفريق بين الله ورسله.
أيها الإخوة المسلمون: اقتضت حكمة الله -تعالى- في الأمم الماضية أن يرسل في كل منها نذير، (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) [فاطر:24]، ورسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت عامة للبشر كلهم، وكانت خاتمة فلا رسالة بعدها.
واقتضى عدل الله ألاَّ يعذب أحداً من الخلق حتى يكون البلاغ وتقوم الحجة: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء:15]، (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء:165].
ولهذا كان الأنبياء والمرسلون عدداً كثيراً، وجماً غفيراً، روى الإمام أحمد وغيره عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال قلت: يا رسول الله، كم وفاء عدد الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، المرسل من ذلك ثلاثمائة وخمس عشر جماً غفيراً".
وهذا العدد الكبير يجب الإيمان بهم كلهم، وإن لم نعرف منهم إلاَّ القليل، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو الموحي إليه من ربه قال الله له: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء:164].
ولم يرد في القرآن الكريم إلا ذكر خمسة وعشرين نبياً ورسولاً، وهؤلاء ذكروا بأسمائهم، وهناك من ذكرت نبوته ولم يذكر اسمه، وهم الأسباط أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - وعددهم اثنا عشر رجلاً، عرَّفنا القرآن بواحد منهم وهو يوسف -عليه السلام-، أما الأحد عشر فقد أخبر الله أنه أوحى إليهم ويجب الإيمان بما أنزل عليهم، (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) [البقرة:136].
إخوة الإيمان: ولقد بين العلماء -رحمهم الله- حاجة العباد إلى الرسل وتعاليمهم، فقال ابن القيم - رحمه الله -: ومن هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضا الله البتة إلا على أيديهم.
فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فيه الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها. إلى آخر كلامه القيم -رحمه الله-.
ويفرق ابن القيم في كتابه القيم بين حاجة الأبدان إلى علوم الطب، والأرواح إلى تعاليم الرسل، فيقول: حاجة النساء إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة؟ وأما أهل البدو كلهم، وأهل الكُفور كلهم، وعامة بني آدم، لا يحتاجون إلى طبيب وهم أصح أبداناً، وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بطبيب، ولعل أعمارهم متقاربة.
إلى أن يقول: فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد مَن خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر. اهـ.
أيها المسلمون: أصِلُ بكم إلى بيان وظائف الرسل ومهماتهم فتعلَّموها، ثم اعلموا بما تطيقون منها، وتنبهوا إلى أن من يقوم بها إنما هو من ورثة الأنبياء، فالأنبياء -عليهم السلام- لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم.
وأول هذه الوظائف للرسل البلاغ المبين، قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]، والبلاغ يحتاج إلى الصدق والشجاعة وعدم الخشية من الناس حيثما يأمرهم بما يستنكرون، أو ينهاهم عما يألفون -مما أمر الله به أو نهى عنه- قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) [الأحزاب:39].
الثاني من وظائف الرسل: الدعوة إلى الله، فلا تقف مهمة الرسل وأتباعهم عند بيان الحق وإبلاغه للناس، بل عليهم دعوة الناس إلى الأخذ بدعوتهم، وترغيبهم في الخير، وتحذيرهم من الشر، وتحقيق هذا الخير في أنفسهم قولاً وعملاً.
وهذا لا شك يكلف الرسل وأتباعهم من الدعاة إلى الله والمصلحين، لكن من يتصدى لإصلاح الناس وتوجيه مسيرتهم وتعريفهم بربهم لا بد له من الصبر والتحمل وأجره على الله، ألا ما أكرم المرسلين وأتباعهم من الدعاة والمصلحين وهم يجهدون أنفسهم في سبيل تقديم الخير للآخرين!.
وإليكم هذا المثل المعبر عن هذه الحقيقة، فقد روى البخاري وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: أضرب له مثلاً، فقال: اسمع سمِعَتْ أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً، ثم بنى فيها بيتاً، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدار هو الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها".
ومن وظائف الرسل التبشير والإنذار، فهم يبشرون من أطاعهم بالجنة والمغفرة، ويخوِّفون وينذرون من عصاهم التعاسة والنار، وليست بشارتهم قاصرة على الآخرة ؛بل يبشرون الهداة الطائعين بالحياة الدنيا (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97]. وفي المقابل يخوفون العصاة المجرمين بالشقاوة في الدنيا قبل الآخرة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) [طه:124].
إخوة الإيمان: تأملوا هذا المثل الذي يوضح حال الدعاة والمدعوين، ويقرب الصورة لأثر الاستجابة لداعي الهوى، وعاقبة الإعراض لمن ضل وغوى، يقول إمام الدعاة محمد -صلى الله عليه وسلم-: "مثَلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وغني أنا النذير العريان، فالنجاءَ النجاءَ! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثَل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت من الحق".
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حَمْد الشاكرين الذاكرين، وأشهد ألا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله، ورضي عن أصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: إخوة الإيمان، اتقوا الله وأطيعوه، واهتدوا بهدي رسوله ولا تخالفوه، واعلموا أن الأجل قصير، والموت قريب، وكل آت قريب.
ثم اعلموا أن الوظيفة الرابعة للرسل - عليهم السلام - صلاح النفوس وتزكيتها، وهذه من رحمة الله بعباده أن يحيي نفوسهم بالوحي، وينور بصائرهم بالهدى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى:52].
وتأملوا كيف سمّى الله رسالته روحاً، والروح إذا عدم فقدت الحياة، ثم تأملوا -كذلك- كيف يضرب الله المثل ويشبه الوحي المنزل من السماء على أيدي الرسل بالماء الذي ينزل من السماء، فتكون به حياة الأرض، يقول تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد:17].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- معلقاً على هذه الآية: فشبه العلم بالماء المنزل من السماء، لأن به حياة القلوب، كما أن المراد بالماء حياة الأبدان وشبّه القلوب بالأودية لأنها محل العلم، كما أن الأودية محل الماء، فقلب يسع علماً كثيراً، وواد يسع ماءاً كثيراً، وقلب يسع علماً قليلاً، وواد يسع ماءً قليلاً.
وأخبر تعالى أنه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء وأنه يذهب جفاءً، أي يرمي به ويختفي، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، ثم تذهب جُفاءً، ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي نفع صاحبه والناس... إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
ومن وظائف الرسل -عليهم السلام- كذلك تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة، فحين كان الناس على التوحيد الخالص لله، والفطرة السليمة التي فطرهم الله عليها، لم يحتاجوا إلى مرسلين، فلما تفرقوا واختلفوا، ومالوا عن التوحيد إلى الشرك بعث الله فيهم المرسلين لتصحيح عقائدهم، وتقويم ما انحرف من أفكارهم، يقول تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [النساء:165]. أي كانوا أمة واحدة، فلما اختلفوا أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين.
وقد واجه الأنبياء -عليهم السلام- مع أقوامهم من الشدة والأذى في سبيل إصلاح معتقداتهم وتقويم ما انحرف من سلوكهم ما الله به عليم، فهذا ينكر عبادة الأصنام ويبطلها بالحجة والبرهان، ونبي آخر ينكر على قومه الاستعلاء في الأرض كما فعل هود -عليه السلام- وثالث ينكر على قومه الفساد في الأرض واتباع المفسدين، كما هو شأن صالح -عليه السلام-، ونبي يحارب جريمة اللواط التي انتشرت في مجتمعه كما فعل لوط -عليه السلام-، وخامس يقاوم جريمة التطفيف في المكيال والميزان كما صنع شعيب -عليه السلام-، ثم جاء خاتم المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم-، ليحارب هذه الجرائم كلها، وينكر هذه المنكرات على الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وما يزال أتباعه من الدعاة والمصلحين يكشفون زيف المنحرفين، ويبطلون ضلالات المبتدعين، ويواجهون حرباً ضروساً من اليهود والنصارى والكفرة والمنافقين، كان الله في عونهم، حيث لا رسل ولا رسالات بعد محمد -صلى الله عليه وسلم-، وليس لهم إلا عون الله، وميزان محمد -صلى الله عليه وسلم-، يتقدمون به ليسقطوا كل راية تخالف هديه، ويكشفوا كل دسيسة تحاول النيل من الإسلام وأهله.
وإن أقل حقوق هؤلاء العلماء، والدعاة والمصلحين علينا أن نناصرهم وندعو لهم، ونكون وإياهم يداً واحدة في سبيل الدعوة إلى الخير، والتحذير من الشر.
ومن وظائف الرسل -عليهم السلام- إقامة الحجة على الناس، فلا يعتذر أحد بالجهل، (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
ولهذا تسقط حجة المكذبين وهم يساقون إلى النار سوقاً: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) [الملك:8-9]، ثم يعرفون ويندمون حيث لا ينفع ذلك: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10-11].
وأخيراً ؛من وظائف الرسل -عليهم السلام- سياسة الأمم، فالرسل هم الذين يحكمون بين الناس في حياتهم، ويجب أن يتحاكم الناس إلى هديهم بعد مماتهم: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [المائدة:48]، هكذا قيل لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وقيل لداود -عليه السلام- (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق) [ص:26].
وهكذا كان أنبياء بني إسرائيل -عليهم السلام- يسوسون بني إسرائيل كلما هلك نبي قام نبي، كما ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه.
أما الذين يشرعون للبشر من ذوات أنفسهم، ويحكمونهم بأهوائهم بعيداً عن شرع الله، ويضعون لهم من القوانين المستوردة ما يرون به تنظيم حياتهم، فهؤلاء مخطئون في حق أنفسهم، وظالمون لرعاياهم، ومعتدون على حقوق ربهم؛ حيث شرعوا في الأرض ما لم يأذن به، وحكموا عباده بغير حكمه، وعليهم أن يتأملوا قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44]، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة:45]، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة:47].
أبْعَدَ الله عن أمتنا الشرور والضلالة والغي، وأعادها إلى تحكيم الشرع المطهر عاجلاً...
هذا وصلوا..
التعليقات