عناصر الخطبة
1/ الاستبشار بهطول الغيث 2/ الفوائد الجمة لقراءة سيرة أبي بكر رضي الله عنه 3/ من مشاهد الهجرة 4/ مناقبُ الصدِّيق وفضلهاهداف الخطبة
اقتباس
لقد صحب أبو بكر رضي الله عنه الرسولَ صلى الله عليه وسلم فأحسنَ الصُّحْبَة؛ حتى لقد بلغت مراتبَ الخُلَّة، ولولا أن الله اتخذ محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً لكان أبو بكر خليلاً له؛ فلْنجعل من حدث الهجرة منطلقاً لملحمة الوفاء عند هذا الرجل العظيم، والعظماء لا يصحبهم إلا العظماء..
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه.
أما بعدُ: فإِنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أَيُّهَا الأحبة: في أسبوعنا هذا أنشأَ اللهُ سحابا ثقالاً؛ فأنزل به الماء، فسالت أودية بقَدَرِها، وسيُخرج اللهُ به -إن شاء- ثمراتٍ مختلفاً ألوانها؛ رزقاً منه -سبحانه- للعباد والبلا،د والبهائم العجماوات، فلك الحمد يا ربنا على فضلك وكرمك وجودك.
لقد كان بالعباد والبلاد من اللأواء والشدة ما لا يعلمه إلا أنت؛ لقد كشفت عنا يا ربنا ذلك الكرب وتلك الشدة؛ فاستبشرَت النفوس منا بذلك الغيث، وتبدلت منها الحال، واكتست بدل القنوط واليأس بِشراً وفألاً بتغير الحال، وصلاح المآل؛ فنسألك يا ربنا أن تديم علينا الخير، وأن تبارك لنا فيه، وأن تخلفه بغيره خيراً منه، إنك جواد كريم.
أيها الأحبة في الله: ونحن قريباً من بداية العام الهجري، وذكراه -كما علمتم- تذكرنا بالمهاجِر الأول وصاحبِه في الهجرة؛ فالمهاجر محمد -صلى الله عليه وسلم-، وصاحبه أبوبكر، وتلك حقيقة لا يعتريها التشكيك؛ لقد سُطِّرَتْ في الكتاب العزيز، حيث قال الله تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
والمهاجر الأول -صلى الله عليه وسلم- قد أحطنا بكل شأن من شؤونه علماً، وتلبسنا بذلك الموروث اقتداء، وصاحبه أبوبكر -رضي الله عنه-، وإن كان على جانب من الشهرة عريض، وعلى جانب من الدين متين، إلا أننا لا زلنا نحتاج لوقفات نتأمل فيها بعضاً من خلال الوفاء منه لصاحبه -صلى الله عليه وسلم-.
وتلك الوقفات مع سيرته العطرة تجدد الإيمان، وتقذف في النفوس الإخبات، بل إن ذكراه -رضي الله عنه- لَتجعل الإنسان المؤمن يتحفز للعمل؛ إنها سيرة تتوقف عندها السير، وتتصاغر عندها التضحيات.
لقد صحب أبو بكر -رضي الله عنه- الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- فأحسنَ الصُّحْبَة؛ حتى لقد بلغت مراتبَ الخُلَّة، ولولا أن الله اتخذ محمداً -صلى الله عليه وسلم- خليلاً لكان أبو بكر خليلاً له؛ فلْنجعل من حدث الهجرة منطلقاً لملحمة الوفاء عند هذا الرجل العظيم، والعظماء لا يصحبهم إلا العظماء.
كأني -أيها الجمع الكريم- بذلك الموكب الميمون يقطع الفيافي والقفار يلتمس الطريق، ويحاذر الأعداء المتربصين، والرسول -صلى الله عليه وسلم- حينذاك واثق الخطى، مطمئن البال، يمشي مشي من حُفَّ بالحرس، وهو كذلك، فعين الله تحرسه، وأنْعِمْ بها -والله!- مِن حارِسٍ لا يغفُل!.
ولكنَّ صاحبَه -رضي الله عنه- في وجل وفي خوف؛ فتارة يتقدمه، وتارة يتأخر عنه، تَفَطَّنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك فسأله؛ فقال الصاحب الكريم -رضي الله عنه-: يا رسول الله، إذا تذكرت الطلب جئت من خلفك، وإذا تذكرت الرَّصَدَ تقدمتك؛ يريد -رضي الله عنه- أن يكون دون النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فلا يوصل للرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا بعدَ أن يَهْلِكَ دونه، فنفوسهم إن هلكت فثمة نفوس غيرها، ولكن أنى لهم بمثل هذا السراج المنير -صلى الله عليه وسلم-؟!.
ويتقدم الرَّكب؛ لينتجعوا غاراً يكون لهم مأوى، وقبل أن يدخلوه يتقدم أبو بكر -رضي الله عنه- يتفقده؛ فلا يُبْقِي ثقباً أو جحراً إلا وسده بثوبه، وبقي آخرُها لا يجد ما يلجمه به؛ ليجعل من قدمه سداً له، ولكن وقع المحذور؛ فلُدِغ الصديق -رضي الله عنه-، ولولا إحساس النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعاناة صاحبه لما كان له من مخبر؛ لأن الصديق -رضي الله عنه- اختار الصمت؛ لئلا يشغل صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم- أو يكدرَ عليه راحته؛ ليكون العلاج ريقاً مباركاً، ودعواتٍ تعيد الأمر إلى نصابه، فكأنه نشط من عقال ليواصلا المسير.
والرجل الثاني في الأمة -أيها الأحبة في الله- كان من المتقدمين إسلاماً، وعلى يديه أسلم كبار الصحابة -رضي الله عنهم-، وكان -رضي الله عنه- رجلاً سمحاً كريماً طيب الخلق، ذا عقل راجح، وهو موعود بالرضا من ذي الجلال والإكرام -سبحانه وتعالى- لأعمال أزجاها، وخيرات قدمها للإسلام والمسلمين، يقول -سبحانه-: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِيْ يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:17-21].
لقد قدَّم أبوبكر -رضي الله عنه- ماله فداء للمستضعفين؛ فأعتق بلالاً وسائر المعذبين، ومن على الفقراء والمعدمين؛ فلا يتركُ مجالاً يُنْفَقُ فيه في سبيل الله إلا وابتدره، بل كان الإنفاق يستهلك ماله؛ حتى لقد خاف والده ألا يكون قد ترك لصبيته شيئاً فجاء يتحسس الأمر، وقد كان الأمر كما ظن.
بل إن أريحيته في الإنفاق جعلت منه الأول في هذا المجال، لذا كان طموح وزراء محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يسبقوا أبا بكر -رضي الله عنه- ولو مرة واحدة، ولكن أنى لهم ذلك؟! دُعِيَ الصحابةُ للإنفاق؛ فجاء كلٌّ بقدر سعته؛ وجاء عمر -رضي الله عنه- بنصف ماله، وقال: اليوم أسبق أبا بكر -رضي الله عنه-، فما هي إلا لحظات حتى جاء أبو بكر -رضي الله عنه- بماله كلِّه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-"وما تركتَ لولدك؟"، قال: تركتُ لهم اللهَ ورسوله! فقال عمر: لا أسبق أبا بكر بعد اليوم.
أنَّى لِرَجُلٍ اختاره الله أن يكون خير البشرية بعد الأنبياء والمرسلين أن يُسْبَق؟ لا يسبق أبداً، ولو بذل الباذل ملء السماوات والأرض؛ لأنه أمر سبق به الكتاب، وقد عَلِمَ الله أنه لا قلب خيرٌ من قلب أبي بكر بعد الأنبياء، فكيف إذا انضاف إلى ذلك العمل والعلم واليقين والتسليم؟ وذلك أمر لا يلقاه إلا ذوو الاختيار والاصطفاء من الله.
يُسرى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس، ثم يُعرج به إلى السماوات العلى؛ فيسمع كلام الرب، ويرى الجليل من آيات الله هناك، ثم يعود إلى فراشه ولما يبرد! آية من آيات الله! فيحدِّثُ النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بذلك فيرتدَّ جراء ذلك من كان ذا مقياس أرضي، ومن جعل قدرة الله كقدرة عباده.
لكن ذوو الإيقان كانوا على إيمانهم، يستغل بعض الكفَرة هذا الحدث ليطيروا به إلى بكر؛ ليخبروه أنه أسري بمحمد -رضي الله عنه- وعرج به إلى السماء في أقل من ليلة؛ ليزلزلوا إيمان أبي يكر وتصديقه! ليقول لهم أبو بكر قولاً مُلجِماً لهم: إن كان قد قال ذلك فقد صدق؛ إني لأصدقه في أمر الله يأتيه من ليل أو نهار، وما هذا ببعيد عنه.
الله أكبر! ما أعظم هذه القلوب! وما أرجحها! وما أقوى إيمانها! لقد نال الرجلُ الثاني أبو بكر -رضي الله عنه- بذلك التسليم لقب "الصِّدِّيق"، والصدِّيقيَّةُ هي المرتبة الثانية بعد النبوة: (أُولَئِكَ الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيْقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيْقاً) [النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فعلوّ الهمة -أيها الأحبة في الله- عندما يكون رائداً للإنسان، فهو رائد صدق للوصول للمحبوب، والبعدِ عن المرهوب، هذا في أمور الدنيا، فكيف به إذا كان في أمر الآخرة؟ لا ريب أنه الخريت الذي يوقفك على النجاة والعلوِ في الدرجات؛ حتى تصيب أزكاها وأعلاها، وهكذا كان أبو بكر -صلى الله عليه وسلم-.
لقد كان عليَّ الهمة طامحاً، لا في متاع الدنيا وحطامها، بل فيما عند الله؛ لذا كان يقضي الليل والنهار عملاً، فلا يدع ساعة تمر دون أن يوقر حقائبها حسناتٍ وضياء، حتى إنك وأنت تتصفح سيرته العطرة لَتقول: أنى لرجل كخَلقنا أن يقوى على ذلك؟ لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم سبحانه.
ففي يوم واحد يتحقق منه الصيام، ويتحقق منه عيادة المرضى، ويتحقق منه شهود الجنائز واتباعُها، ويتحقق منه كذلك إطعام المساكين، لقد كان هذا دأبَه وديدنَه وهجيراه، لا يكاد يتخلف ذلك العمل منه إلا ما شاء الله.
وعندما وقع التساؤل من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مَن فعَل هذه الأشياء في يوم واحدٍ قال أبو بكر: أنا؛ لتكون المكافأة من النبيِّ أَنه من فعل هذه الأشياء في يوم واحد استوجب دخول الجنة من أبوابها الثمانية، وأبو بكر -رضي الله عنه- كذلك سيدخلها من أبوابها الثمانية...
اللهم...
التعليقات