عناصر الخطبة
1/مشروعية ذكر الله تعالى في أغلب الأوقات 2/من أهم الأوقات التي يُشرع فيها الذكر 3/استحباب الأذكار المشروعة بعد الصلوات المفروضة 4/فضائل الأذكار بعد الصلوات 5/الحث على الإكثار من ذكر الله تعالى 6/التحذير من قلة ذكر الله تعالى.اقتباس
فتأملوا -رحمكم الله- لهذا الذكر عقب الصلاة، وما فيه من الخير للمسلم من رفع الدرجات، وغفران الخطايا، حتى لو كانت مثل زبد البحر، إنه لفضل من الله وكرم، فاقبلوا ذلك بالمحافظة عليه.
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله الذي جعل لعباده أسبابًا كثيرة لمحو سيئاتهم ورفع درجاتهم، فسبحانه من إله كريم رؤوف رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والجلال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وهاديًا إلى صراط الله المستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: فإن الذكر مشروع في أغلب الأوقات، بأنواع متعددة ملائمة لحال الذاكر، وحاجته ووقته، ومن أهم الأوقات التي يشرع فيها: دُبر الصلوات المكتوبات، فهو أحرى للإجابة ومكمّل للصلوات؛ قال -تعالى-: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)[النساء: ١٠٣].
فيتأكد الذكر بعد صلاة الخوف، أكثر من غيرها من الصلوات، ومما ورد من الذكر بعد الصلاة، ما رواه مسلم وغيره عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".
وما رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن عبدالله بن الزبير -رضي الله عنه- أنه كان يقول دبر كل صلاة حين يسلم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون"؛ قال ابن الزبير: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهلِّل بهنّ دبر كلِّ صلاة". ومعنى يهلِّل بهنّ أي: يرفع صوته بذكرهنَّ.
فبادروا -رحمكم الله- بهذا الدعاء، بعد كل صلاة مفروضة، جهرًا اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبصحابته، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال ابن عباس "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته"، وفي لفظ "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بالتكبير".
عباد الله: لقد كان من حِرص بعض الصحابة، في المسابقة إلى الدرجات العلى: أن أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموالهم، يحجون ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون، فقال: "ألا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟"؛ قالوا: بلى، يا رسول الله؛ قال: "تسبِّحون وتحمَدون وتكبّرون، خلف كل صلاة ثلاثة وثلاثين.... الحديث".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سبَّح الله في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر".
فتأملوا -رحمكم الله- لهذا الذكر عقب الصلاة، وما فيه من الخير للمسلم من رفع الدرجات، وغفران الخطايا، حتى لو كانت مثل زبد البحر، إنه لفضل من الله وكرم، فاقبلوا ذلك بالمحافظة عليه.
عباد الله: لقد أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد معاذ يومًا ثم قال: "يا معاذ: والله إني لأحبك"، فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله: وأنا والله أحبك؛ قال: "أوصيك يا معاذ: لا تدعنّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
وكما تُشرَع هذه الأذكار دُبُر الصلوات المكتوبة فيُشْرَع معها دبر صلاة الفجر ودبر صلاة المغرب ما ورد عن أبي ذر مرفوعًا: "من قال بعد صلاة الصبح"، وفي لفظ "في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، كتب له كذا وكذا"، وزاد أحمد عن معاذ "والمغرب"، وروى أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث الحارث "اللهم أجرني من النار سبع مرات. ويسبح بعد ذلك".
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما الذكر بعد الانصراف فكما قالت عائشة -رضي الله عنها- هو مثل: مسح المرآة بعد صقالها، فإن الصلاة نور، فهي تصقل القلب كما تصقل المرآة ثم ذكر الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة".
فيا عباد الله: أكثروا من ذكر الله وخصوصًا في الأوقات الفاضلة؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الأحزاب: ٤١ – ٤٣]، بارك الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل ذكره مطمئنًا للقلوب؛ (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: ٢٨]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فهو الملك العظيم الذي قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه، يقلبها كيف يشاء.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله، الذي كثيرًا ما يطلب تثبيت قلبه على دينه، مع فضله وشرفه وكثرة ذِكْره لربه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين لزموا كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها، وكذا من تبعهم على النور والهدى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، واجعلوا مما تعرفون من آثار الذكر وفوائده حافزًا قويًّا على الاستمرار عليه، والإكثار منه؛ ففي الصحيحين عن أبي أيوب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل".
وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا معاذ بن جبل" قال: لبيك يا رسول وسعديك ثلاثًا؛ قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، صدقًا من قلبه إلا حرّمه الله على النار". قال يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؛ قال: "إذًا يتكلوا"، وأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا.(متفق عليه).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأن أقول: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس".
فيا عباد الله: إن ذِكْر الله عظيم وفضله كبير، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟"؛ قالوا: بلى؛ قال: "ذِكْر الله".
فعلِّموا -رحمكم الله- أولادكم ذِكْر الله المشروع في الصلاة وبعدها، وكذا أهليكم وغيرهم، خصوصًا من ترونه يتقبل الخير ويميل إليه، فإنه إذا عمل ذلك فلكم مثل أجره.
عباد الله: الدنيا ملعونة وملعون ما فيها، إلا ذِكْر الله وما والاه، بل إن من صفات المنافقين قلّة ذكر الله؛ قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء:١٤٢].
اللهم أعنا على ذِكْرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[سورة الزمر:18].
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات