عناصر الخطبة
1/ الإيمان معيار قبول الطاعة وردها 2/ حديث الذباب والذبح لغير الله 3/ ضرورة تلازم توحيد الربوبية مع الألوهية 4/ مما يعين على تحقيق التوحيداهداف الخطبة
اقتباس
فإذا كان هذا فيمن قرب ذبابًا؛ فكيف لمن يستسمن الإِبل والغنم وغيرهما؛ ليتقرب بنحرها لمن كان يعبده من دون الله، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري، والحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان، كما قال أنس -رضي الله عنه-: "إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات
الحمد لله القاهر بقدرته، الظاهر بعزته، والغالب بقوته، خلق الخلق على غير مثال، هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، وهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، والمنشئ لما شاء بمشيئته، ولما سبق عنده في علمه.
إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون -سبحانه- جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه على ما يستحق ذلك من خلقه، وكما هو أهل لذلك في كبريائه، وعظمته، وجلاله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله للعالمين هدى ورحمة، وجعل رزقه تحت ظل رمحه، والعزة والنصر لمن أطاعه واتبعه، والذلة والصغار لمن خالف أمره، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: فاتقوه -رحمكم الله- واعتصموا بحبله حق الاعتصام، واستمسكوا بالعروة الوثقى التي ليس لها انفصام، حبل الله الإِقرار بتوحيده، وأداء فرائضه، وإقامة حدوده، والتصديق بوعده ووعيده: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: 7]
عباد الله: أول ما يُقرب العبد إلى الله -تعالى- ويجعله مهبطًا لرحمته؛ وأهلاً لمغفرته، ومستحقًا لرضوانه، -أن يؤمن بالخالق إيمانًا صادقًا لا يسمو إليه الشك، ولا تطير بجنباته الريب، وأن يوقن بأنه واحد لا شريك له، وأن يسلم وجهه إليه، ويدعوه تضرعًا وخفية لاجئًا ومعتصمًا به؛ مخلصًا له الدين حنيفًا؛ معتقدًا أنه وحده وليه ونصيره، وأن غيره لا يملك له ضرًا ولا نفعًا، وأن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له.
ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، موقنًا أنه وحده الخالق الرازق الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه العليم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وأنه العزيز الحكيم، الذي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، وأنه الذي يقسم الأرزاق بين عباده على مقتضى حكمته، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، لا معقب لحكمه، إليه يرجع الأمر كله، وإليه المصير.
فإذا آمن العبد بهذا كله؛ واستيقنته نفسه، كان إيمانه ويقينه خير ما يقربه إليه، ويزلفه عنده، وكيف لا يقبل الله على من أقبل عليه؟ وكيف لا يرضى عمن رضي بقضائه وقدره؟ وكيف لا يعين من استعانه؟ وكيف لا يغيث من استغاثه؟ وكيف لا يجير من استجاره؟ وكيف لا يرحم من استرحمه؟ ولا يغفر لمن استغفره؟ ولا يرزق من استرزقه؟ وهو يقول وقوله الحق: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة: 186]
ويقول: (وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ) [النساء: 32] ويقول: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56]، ويقول: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152]. ويقول: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ). ويقول: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2]
ويقول في الحديث القدسي الذي يرويه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه كما جاء في صحيح البخاري: "إذا تقرب إليَّ العبد شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا".
ويقول -جل وعلا- في الحديث القدسي أيضًا: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له" رواه مسلم.
عباد الله: الإيمان بالله وحده أول القُرب الذي يزدلف بها العبد إلى ربه، وعليه تقوم صحة سائر العبادات، وبدونه لا تصح عبادة، ولا تقبل قربة.
قال -تعالى- في شأن الكافرين: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفرقان: 37].
وفي الحديث: عن طارق بن شهاب؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب".
أي: بسبب ذباب ومن أجله، ولعل هذين الرجلين من بني إسرائيل، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يُحدِّث عنهم.
"قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟" كأنهم تقالوا هذا العمل، واستغربوه وتعجبوا منه، كيف بلغ الذباب إلى هذه الغاية التي بسببه دخل رجل الجنة ورجل دخل النار، أو احتقروه كيف كان تقريب الذباب سببًا لدخول الجنة أو النار، فاستفهموه ليبين لهم ما استغربوه، فبين لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ما صيَّر هذا الأمر الحقير عندهم عظيمًا، يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئًا"، وإن قلّ، تعظيمًا لصنمهم، والصنم كما كان منحوتًا على صورة، وعُِبِِد من دون الله، يطلق عليه الوثن، وكل ما عُبد من دون الله يقال له صنم، بل كل ما يشغل عن الله يسمى صنمًا، "ولا يجاوزه" أي: لا يمر به ولا يتعداه حتى يقرب له شيئًا.
"قالوا لأحدهما: قرِّب، قال: ليس عندي شيء أقرب، -يعني للصنم- قالوا: قرِّب ولو ذبابًا، فقرب ذبابًا؛ فخلوا سبيله فدخل النار؛ وقالوا للآخر: قرّب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله -عز وجل-".
هذا محل اختبار ومحك اعتبار: الأول: احتج بالعدم "ليس عندي شيء أُقرب" يدل كلامه على أن عنده استعداد نفسي وهو وإن كان مسلمًا فإنه ليس ذو إيمان راسخ، فلما عرفوا موافقته بالذبح لغير الله واعتذر، طمعوا فيه بأيسر شيء "قالوا: قرب ولو ذبابًا" لأن قصدهم موافقتهم على ما هم عليه من الشرك "فقرب ذبابًا فخلوا سبيله، فدخل النار" بسبب قربانه الذباب للصنم، لأنه قصد غير الله بقلبه، وانقاد بعمله فوجبت له النار، ففيه بيان خطورة الشرك ولو في شيء قليل؛ وأنه يوجب النار لقوله: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ) [المائدة: 72]
فإذا كان هذا فيمن قرب ذبابًا؛ فكيف لمن يستسمن الإِبل والغنم وغيرهما؛ ليتقرب بنحرها لمن كان يعبده من دون الله، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري، والحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان، كما قال أنس -رضي الله عنه-: "إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات".
وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداءً، وإنما فعله تخلصًا من شر أهل الصنم، وفيه أنه كان مُسلمًا ولكنه ليس ذو إيمان راسخ، وإلا لم يقل دخل النار في ذباب، وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأوثان.
أما الآخر: أبى عليهم، وبادأهم بالإِنكار، وَعَظُم عليه أن يقرب لصنمهم شيئًا، ونفر من الشرك، وصرح بإِخلاص العبادة لله -عز وجل-."فضربوا عنقه فدخل الجنة" رواه أحمد.
ضربوا عنقه؛ لامتناعه عن التقريب لغير الله، إيمانًا واحتسابًا وإجلالاً وتعظيمًا لله، ففيه بيان فضيلة التوحيد والإِخلاص، وتفاوت الناس في الإِيمان.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر على القتل، ولم يوافقهم على طلبهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر، ودل الحديث على أن الذبح عبادة، وأن صرفه لغير الله شرك، وأن الذابح لغير الله يكون من أهل النار".
عباد الله: إن الشرك خطير شأنه، عظيم قبحه ولو كان في شيء حقير، وأنه يوجب دخول النار، قال -تعالى-: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا للظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة: 72]، والمسلم يجود بنفسه دون الوقوع فيه.
ففي الحديث امتنع الرجل الآخر من التقرب لغير الله بالذبح إيمانًا واحتسابًا، وتعظيمًا لله، فصبر على القتل فدخل الجنة، فهذا دليل على أن التوحيد يوجب الجنة، وأن الشرك يوجب النار، كما فيه دلالة على قرب الجنة والنار، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك" رواه البخاري.
وفي ذلك ترغيب وترهيب، ترغيب في السعي إلى الجنة، وكل ما قرب إليها، وترهيب وتحذير من النار، وكل ما قرب إليها، ومنه بيان فضيلة التوحيد والصبر عليه -نسأل الله الجنة، ونعوذ به من النار.
فالتقرب إلى غير الله شرك أكبر مهما كان الشيء المُتقرب به، فإن الرجل الأول المذكور في الحديث قد قرب شيئًا حقيرًا لا يؤكل، لكنه كان تعظيمًا للصنم الذي مر عليه، فخلى القوم المشركون سبيله، فدخل النار.
فإذا كان هذا فيمن قرب ذبابًا، فكيف بمن يقدم الإِبل والغنم وغيرهما؛ ليقترب بذبحها إلى غير الله من قبر نبي، أو ولي، أو غير ذلك؟! وربما اكتفى بعضهم بذلك عن الأضحية لشدة تعظيمه لمن يعبده من دون الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 1-3]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، ملأ بنور الإِيمان قلوب أهل السعادة، فأقبلت على طاعة ربها منقادة، فحققوا حسن المعتقد، وحسن العمل، وحسن الرضا، وحسن العبادة، أحمده -سبحانه- وأشكره، وقد أذن لمن شكره بالزيادة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ صاحبها الحسنى وزيادة، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، المخصوص بعموم الرسالة وكمال السيادة.صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فتقواه خير زاد، وهي نعم العدَّة ليوم المعاد.
عباد الله: لا يُغني الإِنسان أن يؤمن بوجود الله -سبحانه وتعالى-، حتى يعتقد اعتقادًا يهيمن على وجوده أنه لا إله غيره.
فالكفار والمشركون كانوا يقرون بوجود الله، ويعتقدون أنه: الخالق، الرازق، مدبر الأمر، ومنزل القطر، وكفى بالقرآن على ذلك شهيدًا.
قال -تعالى- في سورة سبأ: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 24]، وقال -تعالى- في سورة العنكبوت: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [العنكبوت: 61]، وقال تعالى في سورة العنكبوت أيضًا: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت: 63]
فهؤلاء الكفار والمشركون كانوا يقرون بوجود الله -تعالى-، ويعزون إلى قدرته هذه الأعمال الباهرة، والتي يعترفون صاغرين بأن آلهتهم لا تقوى على شيء منها.
فما نشأ كفرهم من إنكار وجود الله، ولكن من أنهم كانوا يدعون غيره، ويشركون به مع اعترافهم بوجوده، وإقرارهم بعظيم قدرته.
جاء الإِسلام ليصرف الناس عن كل معبود باطل، وتجمع قلوبهم على إله واحد لا شريك له: يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويدبر الأمر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.
فمن أعظم الوسائل وأجداها نفعًا: أن يدعو المسلم ربه تضرعًا وخفية، وأن يفزع إليه في حاجته، وأن يرغب إليه في كشف الملمات عنه، وألا يرى في الوجود قوة تملك له منه نفعًا ولا ضرًا إلا هو -سبحانه-.
فأقبل على ربك، بحواسك كلها، ومشاعرك كلها، وضميرك كله، وقلبك كله، ووجدانك كله، يُحببك، ويرض عنك، ويستجب لك.
واحذر أن يخدعك الجاهلون بوسائلهم الباطلة، وتصرف أنواعًا من العبادة لهم كالذبح أو غيره، فإنها لن تُغني عنك من الله شيئًا، بل تبعدك عن ربك.
هذا، وصلوا وسلموا.
التعليقات