الدنيا - ملف علمي

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2025-11-17 - 1447/05/26
التصنيفات:

اقتباس

والخلاصة: أنه لا بد لنا أن نسعى في الدنيا؛ لكن طلبًا للآخرة.. نسعى في الدنيا نتزود منها الحسنات ونحصِّل منها مهر الجنة، لكن وكلنا حذر من أن تسحرنا الدنيا بسحرها أو تأسرنا بفتنتها فنغفل عما نجمع من زاد الآخرة، ونخلد إليها ونركن لها! فنندم حين لا ينفع الندم...

عندما ننطق بكلمة: "الدنيا" تتداعى علينا معان كثيرة جدًا؛ فالدنيا هي الخداع والغفلة والغرور، والدليل هو قول الله -عز وجل-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185]، وهي دار التزيين والتزييف والتمتع بما يفني: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ...)[التوبة: 14]، وهي دار اللعب واللهو والتكاثر: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)[الحديد: 20].

 

ثم بعد ذلك كله فإن الدنيا هي الانقطاع والدمار والفناء، فكم صوَّر لنا القرآن الكريم مشاهد من نهايتها، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)[التكوير: 1]، و(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)[الانفطار: 1]، و(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)[الانشقاق: 1]"(رواه الترمذي، وصححه الألباني). 

 

ومن آيات عديدة ربما نفهم أن الدنيا هي نقيض الآخرة، وذلك كقوله -تعالى-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 32]، وكقوله -عز وجل-: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)[الرعد: 26]، وكقوله -عز من قائل-: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 16-17]... وكقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا.."(ذكره البخاري).

 

ولو استطلعنا رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا لوجدناه شبهها عدة تشبيهات؛ فمرة بأنها أحقر من جناح بعوضة: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ومرة شبهها بشاة صغيرة ميتة وملقاة على قارعة الطريق، فقد أتى -صلى الله عليه وسلم- على سخلة منبوذة فقال: "أترون هذه هانت على أهلها" قيل: يا رسول الله من هوانها ألقوها، قال: "فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها"(رواه الترمذي، وصححه الألباني). 

 

ومر -صلى الله عليه وسلم- بجدي أسك (قصير الأذنين) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم؟" قالوا: والله لو كان حيًا، كان عيبًا فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله، من هذا عليكم"(رواه مسلم)... وفي هذا المعنى يقوا ابن القيم:

 

لو ساوت الدنيا جناح بعوضة *** لم يسق منها الرب ذا الكفران

لكنها والله أحقر عنده *** (من) ذا الجناح القاصر الطيران

 

***

 

لكن هل معنى هذا كله أن الدنيا -حقًا- نقيض الآخرة؟

أجيب بملء الفم: لا، أبدًا... أجيب بلا شك ولا تردد: كلا، بل الدنيا هي الطريق الموصل إلى الجنة؛ فالدنيا هي مكان جمع الزاد والحسنات الموصلة إلى الجنة، وإنني لا أعلم بشرًا سيدخل الجنة إلا وقد مر قبلًا على الدنيا، ولهذا يقولون: "الدنيا مزرعة الآخرة".

 

يروى عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة..."(المجالسة، للدينوري).

 

وحين أمرنا القرآن الكريم بالتزود للآخرة قائلًا: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197]، فأين يكون الزاد الأخروي؟ أليس من الدنيا؟!... ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن العاص:  "يا عمرو، نعم المال الصالح مع الرجل الصالح"(رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

 

وهؤلاء الذين مدحهم القرآن الكريم قائلًا: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات: 17-18]، أين هذا السَحَر الذي فيه يستغفرون، أليس جزء من ليل الدنيا؟!

 

وكذلك عندما "قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشرح: 7-8]، قال أهل التأويل: فإذا فرغت من أمور دنياك، فانصب في عبادة ربك"(أدب الدنيا والدين، للماوردي)، ولا يخفى أن موطن ومحل هذه العبادة هو الدنيا.

 

ولقد قيل: "ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم: من أخذ من هذه وهذه"، وقيل أيضًا: "نعم المطية الدنيا؛ فارتحلوها تبلغكم الآخرة"، بل هذا الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "يا معشر القراء! لا تلقوا كَلَكم على إخوانكم، ولا تدعوا دنياكم لآخرتكم، ولا آخرتكم لدنياكم، واستعينوا بهذه على هذه"(بهجة المجالس، لابن عبد البر)... وما أصدق ما قال محمود الوراق:

 

لا تتبع الدنيا وأيامها *** ذمًا وإن دارت بك الدائرة

من شرف الدنيا ومن فضلها *** أن بها تستدرك الآخرة

(أدب الدنيا والدين، للماوردي)

 

***

 

لكن -إذا كان الأمر كذلك- فما معنى النصوص التي تذم الدنيا وتحذر منها وتعدها عائقًا في سبيل الآخرة؟!

 

المعنى -والله العليم-: أن الذم ليس على الإطلاق؛ وإنما يُذم من الدنيا خداعها للعباد وإلهاؤها لهم بزخارفها وتزينها، ويُمدح منها كل ما يوصل إلى الآخرة، وعلى هذا المعنى يُفهم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني)؛ فبعد أن لعن الدنيا؛ أي فتنتها وغفلاتها، استثنى منها ما يقرب من الله -عز وجل-.

 

والخلاصة: أنه لا بد لنا أن نسعى في الدنيا؛ لكن طلبًا للآخرة.. نسعى في الدنيا نتزود منها الحسنات ونحصِّل منها مهر الجنة، لكن وكلنا حذر من أن تسحرنا الدنيا بسحرها أو تأسرنا بفتنتها فنغفل عما نجمع من زاد الآخرة، ونخلد إليها ونركن لها! فنندم حين لا ينفع الندم.

 

والحذر الحذر أن نكون كذلك الرجل الذي أدخلوه قصرًا مليئًا بالذهب والجواهر، وقالوا له: أمامك مهلة ست ساعات تتزود فيها من الذهب والجواهر قدر استطاعتك فإياك أن تغفل، فلما دخل القصر انبهر ببسطه ومصابيحه وفرشه، ووجد الذهب والجواهر أمامه فبدلًا من أن يتزود منها قال لنفسه: "ما زالت المهلة طويلة، أتمتع حينًا بهذه المتع ثم أجمع الزاد"، ففتح باب غرفة من غرف القصر فوجد مائدة عامرة بأصناف الطعام والشراب، فأكل حتى أتخم، ثم خرج ففتح غرفة أخرى فإذا بفراش ناعم وثير فقال: أنام ساعة واحدة ثم أقوم فأجمع الزاد، فنام واستغرق في النوم، وما راعه إلا جنود القصر ينتزعونه من الفراش ليلقوه خارج القصر قائلين: "لقد انتهت ساعاتك"، وهو يصرخ مستجديًا: أمهلوني دقائق أجمع فيها زادي، وهم يقولون: "لقد انقضت مهلتك"! فألقوه خارج القصر نادمًا متحسرًا أنْ خرج بغير زاد!

 

فالقصر هو الدنيا، والساعات الست هي العمر، والذهب والجواهر هي الأعمال الصالحة، والزخارف والفرش والطعام هي فتن الدنيا وشهواتها..    

 

إنما الدنيا شتات *** فتأهب لشتاتك

واجعل الدنيا كيوم *** صمته عن شهواتك

واجعل الفطر إذا ما *** صمته يوم وفاتك..

إنما الدنيا كحلم *** فانتبه من غفلاتك

(بهجة المجالس، لابن عبد البر).

 

ولتجلية كل هذه المعاني وغيرها عقدنا هذا الملف العلمي بغرض إزالة اللبس وتجلية الغموض، وإعانة السالكين على الموازنة بين الدنيا والآخرة... والله نسأل أن ينفع به من يطالعه، وأن يجعله في ميزان حسنات من تعاونوا سويًا على إخراجه.

 

المحور الأول: طبيعة الدنيا وحقيقتها في القرآن والسنة:
المحور الثاني: الجوانب المشرقة في الدنيا:
المحور الثالث: طريق النجاة من فتن الدنيا:
المحور الرابع: نهاية الدنيا وفناؤها:
المحور الخامس: كتب ومراجع وإحالات:
العنوان
خطب احذروا الدنيا الفانية 2013/04/14 138964 2068 231
خطب بيان حقيقة الدنيا 2017/11/12 17737 652 21
خطب وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور 2018/09/10 11204 915 30
خطب حقيقة الدنيا 2019/01/05 9652 1189 51
خطب حقيقة الدنيا كما وصفها الله 2019/02/28 117800 1293 112
خطب حقيقة الدنيا 2020/06/19 53466 2366 322
خطب حقيقة الدنيا والآخرة 2020/10/12 12773 649 25
خطب فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها 2020/10/28 7996 627 20
خطب لا تغرك الدنيا وزينتها 2021/03/04 3896 675 8
خطب موعظة الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا 2021/06/07 8073 1167 8
خطب الدنيا والاستهلاك 2021/07/05 2027 1150 0
خطب التفكر في الحياة الدنيا 2021/07/30 6403 1417 37
خطب تشبيه الدنيا بالماء النازل من السماء 2022/11/23 4132 928 2
خطب منكم من يريد الدنيا 2024/02/11 2664 824 16
خطب سورة آل عمران (6) الدنيا متاع الغرور 2024/12/24 2553 1073 42
خطب شرح حديث "من كانت الدنيا همه..." 2025/05/01 2397 663 16
خطب حقارة الدنيا 2025/05/14 1825 684 11
خطب التنافُس على الدنيا 2025/07/07 2498 591 18
خطب مثلان لحقيقة الدنيا ومن يعيش فيها 2025/10/05 882 245 2
مقالات التحذير من زهرة الدنيا 2025/11/15 99 0 0
مقالات حقيقة الدنيا وغرور الإنسان 2025/11/15 116 0 0
مقالات حقيقة الدنيا - د. مراد باخريصة 2025/11/15 94 0 0
مقالات فتنة الدنيا_ 2025/11/15 95 0 0
مقالات من أقوال السلف في الدنيا 2025/11/15 126 0 0
فتاوى حقيقة الدنيا والغاية من خلق الإنسان 2025/11/15 90 0 0
فتاوى حقيقة الدنيا وهل يصح أن يقال إنها غير عادلة 2025/11/15 91 0 0
فتاوى عبثية الحياة، والحكمة من الحياة الدنيا بين المؤمن وغيره 2025/11/15 79 0 0
فتاوى معاني الدنيا 2025/11/15 98 0 0
فتاوى وصف الدنيا بأنها غدّارة أو ظالمة أو قاسية 2025/11/15 84 0 0
صوتيات وفديوهات الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء - الشيخ صالح الفوزان 2025/11/15 75 0 0
صوتيات وفديوهات ما هي حقيقة الحياة الدنيا؟ - الشيخ د. محمد حسان 2025/11/15 91 0 1
صوتيات وفديوهات حقيقة الدنيا - الشيخ سالم العجمي 2025/11/15 98 0 0
صوتيات وفديوهات ماهي حقيقة الحياة الدنيا - الشيخ سعد العتيق 2025/11/15 81 0 0
صوتيات وفديوهات حقيقة الدنيا فانية - الشيخ خالد الراشد 2025/11/15 104 0 2
صوتيات وفديوهات حقيقة الدنيا - د. عبدالله بن عبدالرحمن الرحيلي 2025/11/15 77 0 0
ندوات وحوارات حقيقة الدنيا - الشيخ الحويني 2025/11/15 83 0 0
ندوات وحوارات عن حقيقة الدنيا ﴿وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾ - للشيخ سعود الشريم. 2025/11/15 114 0 0
ندوات وحوارات لا تغرك الدنيا الفانية - الشيخ خالد اسماعيل 2025/11/15 83 0 0
ندوات وحوارات تفسير قول الله ( إنما هذه الحياة الدنيا متاع ) - الشيخ : محمد بن راحم الربيعي. 2025/11/15 72 0 0
ندوات وحوارات لعبة الدنيا - راغب السرجاني 2025/11/15 87 0 0
دراسات وأبحاث الدنيا ظل زائل2 2025/11/15 99 34 0
دراسات وأبحاث حقيقة الحياة الدنيا 2025/11/15 93 33 0
دراسات وأبحاث لماذا التحذير من الدنيا؟ 2025/11/15 99 0 0
دراسات وأبحاث مثل الحياة الدنيا كمثل الماء المنزل من السماء 2025/11/15 82 38 0
دراسات وأبحاث من دنت إليه الدنيا فرفعته ثم دالت عليه فوضعته 2025/11/15 85 39 0
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life