عناصر الخطبة
1/مكانة الزهد 2/حال النبي صلى الله عليه وسلم مع الزهد والسلف الصالح 3/كيف يكون الزهد في الدنيا؟ 4/حقيقة الزهد ومعناه 5/من فضائل الزهد ومحاسنهاقتباس
خصلة من خصال النبي -صلى الله عليه وسلم- عاشها في حياته واقعا عمليا, وحث عليها أصحابه فتربوا عليها, جاءت آيات كثيرة حولها, وهي اليوم ضعيفة في حياتنا, إنها تدفع الحسد وتجلب القناعة والسعادة, إنها تبعدك عن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكافي الحسيب، الحفيظ الرقيب، المجيب القريب، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كريمُ الطباع، قليل المتاع.
يا خير مولودٍ تعاظمَ فخرهُ *** وأتى بأشرفِ ملّةٍ وكتابِ
صلّى عليك الله يا خير الورى *** ما انهّل في الآفاق قطْرُ سحابِ
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله؛ فإنها نجاة في الدنيا والآخرة، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)[النحل: 30].
عباد الرحمن: خصلة من خصال النبي -صلى الله عليه وسلم- عاشها في حياته واقعا عمليا, وحث عليها أصحابه فتربوا عليها, جاءت آيات كثيرة حولها, وهي اليوم ضعيفة في حياتنا, إنها تدفع الحسد وتجلب القناعة والسعادة, إنها تبعدك عن الكسب الحرام, إنها تكسب محبة الله ومحبة الناس, وسيأتي ذكر لفضائلها؛ إنها خصلة الزهد في الدنيا.
أيها المصلون: خلق الله عباده ونوّع مواهبهم وقدراتهم وأرزاقهم؛ (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا)[الزخرف: 32], وليس الزهد ترك العمل والتجارة, كلا؛ فلقد أُمر العباد بالتعبد واستخلفوا في الأرض، وقد مدح الحق أهل الصلوات في المساجد الذين (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)[النور: 37], وخفف -سبحانه- في قراءة الصلاة لأسباب منها: التجارة (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)[المزمل: 20].
إخوة الإيمان: نعم المال الصالح للعبد الصالح, وفي التنزيل: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[القصص: 77], والعبد الموفق يحذر أن يفتنه المال سواء بطرق جمعه أو كنزه, (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[الأنفال: 28].
عباد الله: لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- زاهداً بفعله, مزهدا بقوله؛ فعن جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بالسوقِ, داخلًا من بعضِ العاليةِ, والناسُ كنفتْهُ -أي ناحيته- فمرَّ بجديٍ أسكَّ ميتٍ -وهو صغير الأذن أو مقطوع الأذن- فتناولَه فأخذ بأذنِه, ثم قال: "أيكم يحبُّ أنَّ هذا لهُ بدرهمٍ؟", فقالوا: ما نحبُّ أنَّهُ لنا بشيٍء, وما نصنعُ بهِ؟! قال: "أتحبون أنَّهُ لكم؟" قالوا: واللهِ لو كان حيًّا, كان عيبًا فيهِ لأنَّهُ أسكُّ؛ فكيف وهو ميتٌ؟! فقال: "فواللهِ للدنيا أهونُ على اللهِ, من هذا عليكم"(رواه مسلم).
قال الحق -سبحانه-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185], عرف حقيقة الدنيا بالفعل سعيد بن المسيب، جاءه مندوب الخليفة يخطب ابنته لابن الخليفة يقول: جاءتك الدنيا يا سعيد بحذافيرها، ابن الخليفة يريد بنتك، أتعلمون ماذا كان جواب سعيد؟ قال: "إذا كانت الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة؛ فماذا عسى أن يقص لي الخليفة من هذا الجناح؟"؛ ولم يزوج ابن الخليفة! وزوج ابنته لطالب علم فقير!.
سئل الشيخ ابن باز -رحمه الله-:كيف يكون الزهد في الدنيا؟ فقال: "الزهد في الدنيا في إيثار الآخرة عليها، وعدم التكلف, يكتفي بالحلال ويكتفي بما يعينه على طاعة الله ولا يتكلف شيئاً يشغله عن الآخرة".
عباد الرحمن: نعم لأنْ تكون الدنيا بأيدينا لا بقلوبنا, ونعم المال الصالح للرجل الصالح, لكن الإشكال حين نقدم الدنيا على الآخرة فنأخذ الحرام, قيل لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: يا أبا الحسن صِفْ لنا الدنيا!, قال: أطيل أم أقصر؟, قالوا: بل أقصر, قال: "حلالها حساب وحرامها عقاب".
والإشكال نجمع ولا نعطي, أو نعطي عطاء يتناسب مع فضله -سبحانه- علينا, والإشكال حين تتعلق قلوبنا إلى ما عند الآخرين فنقع في حسد أو سخط وعدم رضا, وفي التنزيل: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 131], والله عليم حكيم (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)[الشورى: 27].
أيها الأحبة: وقد يزهد ذا الجاه والمال الكثير, اشترى ابن الخليفة عمر بن عبد العزيز فصا لخاتمة ثمنه ألف درهم, فلما علم عمر بن عبد العزيز بذلك أرسل إليه قائلا: "أما بعد: فإني قد وصلني أنك قد اشتريت فصا بألف درهم, فبعه وأطعم به ألف جائع, واشترِ مكانه خاتما من حديد واكتب عليه: رحم الله امرئ عرف قدر نفسه".
وفي وقتنا الحاضر أنفق أحد كبار التجار المليارات, وقد رُئي في المشاعر يأكل من بقايا طعام على سفرة أناس قد تكفل بحجهم, وهم يأكلون من مائدته!
أقول ما سمعتم واستغفروا الله العظيم لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)[لقمان: 33], وصلى الله وسلم على نبيه العابد الباذل الزاهد, (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
معشر الكرام: فالزهد درجات, ومن أشهر تعريفات الزهد: أنه ترك ما لا ينفع في الآخرة.
وتعالوا إلى جملة من فضائل الزهد؛ فمن جمائل الزهد: راحة النفس والقناعة, وفي الحديث الصحيح: "قد أفلحَ من أسلمَ, ورُزِقَ كفافًا, وقنَّعَه اللهُ بما آتاهُ"(مسلم).
ومن فضائل الزهد: الاعتدال وتجنب الإسراف, ومن إيجابيات الزهد: التواضع والبعد عن احتقار أحد من الخلق, ومن محاسن الزهد: عدم إرهاق النفس بالديون, ومد الرِجْل قدر اللحاف, في البيوت والمراكب والأجهزة وغيرها, ومن محاسن الزهد: السلامة من المفاخرة والخيلاء.
ومن إيجابيات الزهد: الجود وكثرة الصدقات, ومن فضائل الزهد: ترك ما لا يعنيك شؤون الناس, ومن مزايا الزهد: أن أهله عند ضيق الدنيا ونقص أموالها هم أقل من يضيق بذلك, بخلاف الترف الذي نشأنا عليه إلا من شاء الله!, ومن جمائل الزهد: محبة الخالق ومحبة الخلق, وفي الحديث: "ازهَد في الدُّنيا يحبَّكَ اللَّهُ, وازهد فيما عندَ الناسِ يحبَّكَ النَّاسُ".
وختاما: فهنيئا لمن كانت الدنيا بيده "فهو يُنفِقُ منه آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ", وهنيئا لمن لم تكن الدنيا في قلبه, و هنيئا لمن لم تغره الدنيا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
التعليقات