عناصر الخطبة
1/ منزلة الدعاء 2/ أسباب إجابة الدعاء 3/ موانع استجابة الدعاء 4/ الاستكبار عن الدعاء.اهداف الخطبة
اقتباس
ومن أُلهِم الدعاء فقد أريد به الاستجابة، كان عمر -رضي الله عنه- يقول: إني لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن أحمل همَّ الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاء، فإن الإجابة معه. فالدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المحبوب.
الحمد لله الذي شرع الدعاء، ووعد بالإجابة، العالم بكل شيء، الرحيم بذاته فلا يحتاج إلى وسائط يعرِّفونه بأحوال خلقه، أو يستعطفونه بالشفاعة، القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء؛ فالخضوع لغيره من أقبح الجهل، وأسفه السفاهة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من دعا غيره فقد ظن بربه ظن السوء في ربوبيته وأسمائه وصفاته.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصَّلاة، وأكثر من دعائه وتضرعاته، فحظى بالنصر هو وأصحابه، وهكذا كانت طريقة عباد الله وأنبيائه. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فقد قال الله تبارك وتعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غَافر:60].
عباد الله! مِن فضل الله وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفَّل لهم بالإجابة؛ روى أبو يعلى عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل- قال: "أربع خصالٍ واحدةٌ منهن لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين عبادي. فأما التي لي: لا تشرك بي شيئًا. وأما التي لك عليَّ فما عملت من خير جزيتُك به. وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة. وأما التي بينك وبين عبادي فارضَ لهم ما ترضى لنفسك". وعلاوة على ذلك أنه يغضب إذا لم يُسأل! أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن لم يسأل الله يغضب عليه".
ولأهمية الدعاء حصَر النبي -صلى الله عليه وسلم- العبادة في الدعاء، روى الإمام أحمد بسنده، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غَافر:60]" وفي الحديث الآخر: "الدعاء مخ العبادة" يعني: خالص العبادة ولبُّها.
وكلُّ ما فيه ثناءٌ على الرب، وتنزيهٌ له، أو طلبُ حوائج الدنيا والآخرة منه تعالى فهو دعاء. والإلحاح في الدعاء مما يحبه الله؛ ذكر الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب الملحِّين في الدعاء".
وإذا دعا العبد فلا يستعجل، ولا يستبطئ الإجابة، لا يتعب ويسأم ويدَع الدعاء، فيكون بمنزلة من بذَر بذرًا أو غرس غرسًا فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كمالَه وإدراكه تركه وأهمله! في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدْعُ بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل. قيل يا رسول الله: ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوتُ، وقد دعوتُ، فلم أر يُستجاب لي. فيتحسر عند ذلك ويدَع الدعاء".
وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب، وحصر همه على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة، وهي: الثلث الأخير من الليل، عند الأذان، بين الأذان والإقامة، أدبار الصلوات المكتوبات، عند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، آخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم؛ إذا اجتمع ذلك وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذلاً وتضرعًا ورقَّة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنَّى بالصلاة على النبي، ثم قدَّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله وألح عليه في الدعاء، وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدَّم بين يدي دعائه صدقة؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدًا، لا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم.
ومنها ما في السنن، وصحيح أبي حاتم، عن أنس -رضي الله عنه- أنه كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالسًا ورجل يصلي، ثم دعا فقال: اللهم أني أسألك بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت، أنت المنَّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيوم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى". وفي الصحيحين، من حديث ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم".
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "المجابين في الدعاء" عن الحسن البصري، قال: كان رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار يدعى أبا معقل، وكان تاجرًا يتَّجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق، وكان ناسكًا ورعًا، فخرج مرة فلقيه لصٌّ مقنَّعٌ في السلاح، فقال له: ضع ما معك، فإني قاتلك. قال: فما تريد إلا دمي؟ فشأنَكَ والمال! قال: أما المال فلي، ولست أريد إلا دمك. قال أما إذا أبيت فذرني أصلي أربع ركعات. قال: صَلِّ ما بدا لك. فتوضأ ثم صلى أربع ركعات، فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني! يا مغيث أغثني! فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه، فلما بصُر به اللصُّ أقبل نحوه، فطعن اللصَّ فقتله. ثم أقبل إليه فقال: قم. فقال: من أنت؟ بأبي أنت وأمي! فقد أغاثني الله بك اليوم. فقال: أنا ملَك من أهل السماء الرابعة، دعوتَ بدعائك فسمعتُ لأبواب السماء قَعْقَعَةً، ثم دعوتَ بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجَّة، ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي: دعوة مكروب؛ فسألت الله أن يولِّيني قتله. قال الحسن: فمن توضأ وصلى أربع ركعات، ودعا بهذا الدعاء استجيب له، مكروبًا كان او غير مكروب.
وروى محمد بن إسحاق، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أنْ خُذْه، ولا تخدِشْ له لحمًا، ولا تكسر له عظمًا؛ فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسًا، فقال في نفسه:ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر.
قال: وسبَّح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة. قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح، الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟! قال: نعم. قال: فشفَعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل وهو سقيم".
وروى البيهقي في "الشُّعَب" أن دانيال -عليه السلام- ألقي في جُبٍّ، وأُلقِيَتْ عليه السباع، فجعلت السباع تلحسه وتبصبص إليه، فأتاه ملَك فقال: يا دانيال، فقال: من أنت؟ قال: أنا رسول ربك، أرسلَني إليك بطعام. فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى مَن ذكره.
وقصة حُمُر الوحش المشهورة التي ذكرها غير واحد، قيل إنها لما انتهت إلى الماء لترده وجدت الناس حوله فتأخرت عنه، فلما جهَدَها العطش رفعت رأسها إلى السماء وجأرت إلى الله سبحانه بصوت واحد، فأرسل الله –سبحانه- عليها السماء بالمطر حتى شربت وانصرفت.
والدعاء عدو البلاء، يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل؛ وهو سلاح المؤمن. روى الحاكم في مستدركه من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السموات والأرض"، وروى من حديث عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُغني حذَرٌ مِن قدَر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة" وعن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يردُّ القدَرَ إلا الدعاءُ، ولا يزيد في العمرِ إلا البرُّ، وإنَّ الرجل ليُحْرَمُ الرِّزق بالذنب يصيبه".
ومَن أُلهِم الدعاء فقد أريد به الاستجابة، كان عمر -رضي الله عنه- يقول: إني لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن أحمل همَّ الدعاء، فإذا ألهمتُ الدعاء، فإن الإجابة معه. فالدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المحبوب.
ولكن، قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاءً لا يحبه الله؛ لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وقت الدعاء، وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة واللهو، وغلَبتها عليها، كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ" وفي الحديث الآخَر: "يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربّ! يا ربّ! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟!".
أما الذين يدعون الله ويدعون معه غيره، أو يذبحون لله ولغيره، أو ينذرون لله ولغيره، أو يرجون أو يخافون معه غيره، فقد جاءوا بأعظم أسباب منع إجابة الدعاء، وهو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يُغفر.
وأما الذين منعَهم الاستكبار عن عبادة الله ودعائه وطاعته فيسجازَون بالجزاء الفظيع، وهو دخول جهنم صاغرين، ذليلين، حقيرين؛ روى الإمام أحمد، بسنده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصَّغار، حتى يدخلوا سجنًا في جهنم يقال له بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقَون من طينة الخبال عصارة أهل النار" أعاذنا الله وإياكم منها بمنِّه وكرمه.
فاتقوا الله عباد الله، وعليكم بالتقرب إلى رب العالمين، وطلب مرضاته، بعبادته، ودعائه، والبعد عن الإشراك به. أعوذ بالله من الشطيان الرجيم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البَقَرَة:186].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مجيب دعوة المضطر إذا دعاه، جابر المنكسر إذا لاذ بحماه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أعبده، ولا أعبد معه سواه.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بصَّر الخلق بأسباب السعادة والنجاة، وحذَّرهم من كل ما يسخط الرب ويأباه. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين صدقوا الله في القول والعمل، فكم منهم من دعا فاستجاب الله دعاه، وما ادَّخر لهم في الآخرة من النعيم لا يعلم عدَدَه وقدْرَه إلا الله.
أما بعد: فيا عباد الله! أوصيكم وإياي بتقوى الله، والأخذ بأسباب إجابة الدعاء، والحذر من موجبات ردِّه، قرأ بعض الصحابة سورة الفاتحة على لديغ فشفي في الحال، وما ذاك إلا لاكتمال أسباب إجابة الدعاء.
مرَّ إبراهيم بن أدهم الزاهد المعروف بسوق البصرة فاجتمع عليه الناس، فقالوا له: يا أبا إسحاق! ما لنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟ قال: لأنَّ قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، وادَّعَيْتُم أنكم تحبون رسول الله وتركتم سنته، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعمة الله ولم تؤدوا شكرها، وقلتم: إن الشيطان عدوكم ووافقتموه، وقلتم: إن النار حق ولم تهربوا منها، وقلتم: إن الجنة حق ولم تعملوا لها، وقلتم: إن الموت حق، ولم تستعدوا له، وإذا انتبهتم من النوم اشتغلتم بعيوب الناس ونسِيتم عيوبكم، ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم. اهـ.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
التعليقات