عناصر الخطبة
1/تتابع ظهور علامات النبوة 2/خلوة النبي محمد في غار حراء قبل البعثة 3/ أهمية الخلوة بالله تعالى وثمراتها 4/تزكية النفس وإصلاح القلب 5/آداب الخلوة والخلطة.اقتباس
الإنسان إذا كان في وسط المنكرات، ووسط الهرج والمرج قد لا تُتاح له الفرصة لمحاسبة نفسه، إلا بالخلوة والاعتزال قليلاً، والمراقبة من بعيد؛ فيتبين له وجه الخطأ والصواب، فيدعوه ذلك إلى مراجعة حساباته...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله؛ نحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون: فقد رأينا في الخطبة السابقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بلغ الثامنة والثلاثين من عمره، ترادفت عليه علامات النبوة، وتحدَّث بها الرهبان والكُهَّان، وقدمنا أمثلةً لذلك، ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- التاسعة والثلاثين حُبِّبت إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء، فما معنى الخلوة؟ وما أهميتها؟ وما آدابها؟ وهذا موضوع خطبتنا اليوم(سيرة ابن هشام: 1/ 234).
عباد الله، روى البخاري في صحيحه؛ عن عائشة رضي الله عنها في حديث الرؤيا، قالت: "ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث فيه -قال الزهري؛ أحد رواة الحديث: والتحنث: التعبد الليالي ذوات العدد- قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها"(رواه البخاري: 3)، وجاء في رواية ابن إسحاق أن ذلك كان في شهر رمضان.
أولًا: تعريف الخلوة: الخلوة عباد الله التي نقصد والتي حُبِّبت للنبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة هي عزلة الناس والابتعاد عن أعينهم في لحظة صفاء نفس، والخلوة في مكان لأجل التفكر في آيات الله والتفرغ للعبادة، وهكذا كان دأب الأنبياء والصالحين قبله في الخلوة أو اعتزال الكفر؛ إبراهيم -عليه السلام- اعتزل قومه وقال: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)[مريم: 48].
وموسى -عليه السلام- ذهب لميقات ربه أربعين يومًا؛ قال -تعالى-: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)[الأعراف: 142].
وزكرياء -عليه السلام-: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)[مريم: 10، 11]. وطلبت آسية النجاة من فرعون وعمله، فقالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11]، والنجاة لا تكون إلا بالابتعاد.
ثانيًا: أهمية الخلوة بالله؛ الخلوة لا تخفى أهميتها للفرد المسلم، وخاصةً في وقت الفتن كزماننا، وكثرة شواغل الدنيا وزخرفها؛ ومن تلكم الفوائد:
1- الأنس بذكر الله: أحد الصالحين كان يجلس وحده ذاكرًا لله، مناجيًا لربه، فقيل له: ألَا تستوحش؟ قال: وهل يستوحش مع الله أحد؟ فما تلذذ متلذِّذ بمثل ذكره -سبحانه-؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي: "قال الله -تعالى-: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً"(رواه البخاري).
ومن السبعة الذين يظلهم الله -تعالى- في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه"(رواه البخاري). قال ابن القيم: "غرس الخلوة يثمر الأُنس، فأنت عندما تخلو بالله وحدك تأنس به -تعالى-".
ويقول كذلك: "استوحش مما لا يدوم معك، واستأنس بمن لا يفارقك"؛ فالذي لا يدوم معي هو الدنيا، فأُحصلها بالوحشة منها؛ لأنها لا تدوم، واستأنس بمن لا يفارقك، وذلك بالعمل الصالح؛ وقد رُويَ أن موسى -عليه السلام- قال: يا رب، ما أفضل الأعمال عندك؟ فقال: يا موسى، أن تذكرني ولا تنسى، فإنك إن ذكرتني شكرتني، وإن نسيتني كفرتني؛ قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)[البقرة: 152].
ومن الفوائد أيضًا:
2- تزكية النفس وإصلاح القلب: للتزكية أسباب كثيرة لحصولها ومنها الخلوة؛ قال ابن القيم في كتابه الفوائد: "اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن، فسَلِ الله أن يمنَّ عليك بقلبٍ؛ فإنه لا قلب لك".
3- فرصة للمراجعة والتوبة: لأن الإنسان إذا كان في وسط المنكرات، ووسط الهرج والمرج قد لا تُتاح له الفرصة لمحاسبة نفسه، إلا بالخلوة والاعتزال قليلاً، والمراقبة من بعيد؛ فيتبين له وجه الخطأ والصواب، فيدعوه ذلك إلى مراجعة حساباته.
4- نيل المغفرة والأجر الكبير ومحبة الله: قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12]؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب العبد الخفي"(رواه مسلم)، والمراد بالعبد الخفي الذي يُكْثِر من عبادة الله في خلوته بربه، وغير ذلك من الفوائد.
ثالثًا: آداب الخلوة: وحتى تعطي هذه الخلوة آثارها، فلا بد من مراعاة آدابها، وتجنب محاذيرها؛ حتى لا نسقط في رهبانية النصارى؛ قال -تعالى-: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)[الحديد: 27]؛ ومن هذه الآداب:
1- أن يصاحبها التوكل الحقيقي: بأخذ الأسباب؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كما أخبرت عائشة -رضي الله عنها- كان: "يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها"؛ أي: إنه يتزود بالطعام وما يصلحه حال خلوته، فإذا نفد ما عنده من القُوت نزل من خلوته ليتزود بمثلها، فالحذر كل الحذر ممن يبطلون اتخاذ الأسباب، ويزعمون التوكل على الله؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197]"(رواه البخاري).
2- ومن آدابها ألَّا تأتي بعكس مقصودها: لأن المقصود التزكية، فإذا كانت الخلوة تدسيةً واستغلالاً لفرصة البعد عن أعين الناس للانغماس في المعاصي فلا خير فيها، فلا بد من الحذر من ذنوب الخلوات، ولنستحضر رقابة الله لنا؛ قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[المجادلة: 7].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لأعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا، قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا، جلِّهم لنا؛ ألَّا نكون منهم، ونحن لا نعلم، قال: أمَا إنهم إخوانكم، ومن جِلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خَلَوا بمحارم الله انتهكوها"( رواه ابن ماجه برقم: 4245، وصححه الألباني).
يقول الإمام ابن رجب -رحمه الله-: "إن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت".
وقال أبو العتاهية:
إذا ما خلوتَ الدهر يومًا فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعةً *** ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
راقبوا أبناءكم في خلوتهم مع أصدقائهم، مع التلفاز، مع الهاتف، واحذر من الخلوة بامرأة لا تحل لك؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم"(رواه مسلم).
فاللهم اجعلنا من المتقين لك في السر والعلن، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى.
أما بعد: فقد رأينا في الخطبة الأولى اختلاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء وتهيئته نفسيًّا لاستقبال الرسالة، ورأينا أهميتها وبعض آدابها؛ ومن آدابها:
3- ألَّا تؤدي إلى ترك العبادات: فصلِّ -أخي الكريم- مع الناس، ولا تتخذ من خلوتك ذريعةً لترك الجُمَع والجماعات؛ ولذلك في خلوة الاعتكاف اشترط جماهير العلم أن تكون في المسجد الجامع حتى لا تفوّت الصلوات، وقد همَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على المتخلفين في بيوتهم عن صلاة الجماعة أن يحرقها عليهم، وصُمْ مع المسلمين إذا صاموا، وحُجَّ معهم إذا حجوا، فالعبادات الجماعية تهدف إلى تقوية أواصر التعاون والتعارف بين المسلمين، وهذا لن يتم في حال ترك هذه العبادات.
4- ألَّا تستغرق أكثر مما يلزم بحيث تؤدي إلى اعتزال الناس وانقطاع النفع عنهم: فالخلوة لا تعني العزلة عن الناس، فمخالطتهم مع الصبر على الأذى أفضل، وهو هديُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"(صحيح ابن ماجه: 4032).
ولكن خالط الناس على قدر الضرورة والحاجة؛ ترشد ضالًّا، وتقود أعمى، وتعدل وتصلح بين متخاصمين، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع متاعه عليها، تبتسم في وجوه الناس، تفك كربةً، تشفع شفاعةً حسنةً، تنشر العلم، تمتهن مهنةً شريفةً تقضي بها حوائج الناس، تعيل أسرتك وتخدمهم، وغير ذلك من وجوه النفع المتعدي، ومع هذا اجعل لنفسك وقتًا تخلو فيها بنفسك، في اعتكافك، في قراءتك للقرآن، في قيامك لليل، في اعتزال الشر، تربح خيري الدنيا والآخرة.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، آمين.
التعليقات