عناصر الخطبة
1/من صفات النفوس المؤمنة 2/أفضل أوقات مناجاة الله 3/خلوة النبي بربه وشدة مناجاته له 4/من آداب مناجاة الله 5/من ثمرات الخلوة ومناجاة اللهاقتباس
فأبعدُ النَّاسِ عن الرياءِ هم أهلُ الخلوةِ باللهِ -تعالى-، وما نالوا ذلكَ إلا لأنْهم قاموا بينَ يديْهِ -سبحانَه- محبةً وشوقًا وخشيةً وخوفًا ورجاءً, يقولُ ذُو النونِ: "مَنْ أَحَبَّ الْخَلْوَةَ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِعَمُودِ الْإِخْلَاصِ, وَاسْتَمْسَكَ بِرُكْنٍ كَبِيرٍ مِنْ أَرْكَانِ الصِّدْقِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ الذي أسبغَ على قلوبِ عبادِه محبتَه والأنسَ به والتلذّذَ بقربِه ومناجاتِه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ الذي امتنَّ عليهمْ بفيضِ نعمِه وعطائِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه خيرُ من ناجَى ربَّه في سرِّه وعلانيتِه، وقرَّتْ عينُه بحلاوةِ قُربِه ومناجاتِه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فتلك وصيتُه -تعالى- للأولينَ والآخرينَ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131].
عبادَ اللهِ: النفوسُ المؤمنةُ التي ذاقتْ طعمَ الإيمانِ وحلاوتَه هي تلكَ النُّفوسُ التي أحبَّت ربَّها وعاشتْ مِنْ أجلِه، وتلذَّذتْ بقُربِه ومناجاتِه ودعائِه، فلا تسعدُ ولا تهنأُ إلا إذا خَلَتْ بمولاها في لحظاتِ القُربِ في ذُلٍّ وافتقارٍ, ومناجاةٍ بالأسحارِ، ودعاءٍ واستغفارٍ, وبكاءٍ واسترحامٍ، وطلبٍ واسترضاءٍ، وحُسنِ ظنٍّ بالواحدِ الغفَّارِ، بعيدًا عن شواغلِ الدنيا وملهياتِها، لمحاسبةِ تلكَ النفوسِ، واستدراكِ تقصيرِها، والازديادِ من الطاعاتِ والقرباتِ، فأَنِسَتْ أرواحُهم، وانشرحتْ صدرُوهم، واطمأنَّتْ قلوبُهم، وسَكَنتْ جوارحُهم، وزالتْ همومُهم وغمومُهم.
وأجملُ أوقاتِ الخَلوةِ باللهِ تلكَ اللحظاتُ التي تكونُ في الأسحارِ عندما تهدأُ الأصواتُ، ويحلُّ السكونُ، وَقْتَ نزولِ الرَّبِ المعبودِ إلى السماءِ الدنيا، حيثُ يناديْ: هل من سائلٍ؟ فأعطيَه، هل من تائبٍ؟ فأتوبَ عليه، هل من مُستغفرٍ؟ فأغفرَ له، ذلك الوقتُ الذي تتذوَّقُ فيه النفوسُ لَذَّةَ الذكرِ والفكرِ والتدبّرِ والتأمُّلِ والقُرْبِ.
أيُّها المؤمنونَ: لقد كانَ نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- يُحبُّ الخلوةَ بربِّهِ؛ لمناجاتِه وذكْرِه ودُعائِه، وكانَ يَغلِبُ عليه البكاءُ في خلوتِه؛ محبةً وشوقًا وهيبةً ورهبةً, وتعظيمًا وإجلالاً لمولاهُ، فعن عبدِ اللهِ ابن الشِّخِّيرِ، قال: "أتيتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهوَ يصلِّي, ولجوفِهِ أزيزٌ كأزيزِ المِرجَلِ"(رواه النسائي وصححه الألباني)؛ يعني: يبكي.
وكان -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ الناسِ خشيةً لربِّهِ، وأعظمَهم رجاءً فيه، وأكثرَهم حبًّا له، وكانَتْ أحبَّ الأوقاتِ إليه تلكَ الساعاتِ التي يَعْتزلُ فيها الناسُ؛ ليَأْنَسَ بمناجاةِ خالقِه.
وكان قبلَ البعثةِ يَمكثُ في غارِ حِراءَ اللياليَ ذواتِ العدَدِ؛ متعبدًا، متضرعًا، طالبًا للهُدى، ولَمَّا بُعثَ نبيًّا واختارَه ربُّه رسولاً إلى النَّاسِ كافةً، كانَ أعظمُ ما تَسعدُ به نفسُه، تلكَ الساعاتِ التي يَقضيْها في القيامِ بينَ يدِيْ اللهِ، راكعًا ساجدًا قانتًا له؛ يُسبِّح بحمدِه، ويَذكُرُ آلاءَه، ويُلِحُّ عليه في الرجاءِ.
وكانَ -صلى الله عليه وسلم- يواظبُ على قيامِ الَّليلِ والتبتُّلِ، حتى سُئلَ عن سرِّ ذلكَ, قالتْ عائشةُ -رضيَ الله عنها- أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتّى تَتَفَطَّرَ قَدَماهُ، فَقالَتْ عائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رَسولَ اللَّهِ! وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قالَ: "أفلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا؟"(رواه البخاري).
أيُّها المؤمنونَ: وإذَا أرادَ العبدُ أنْ يقتديَ بنبيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- وينالَ تلكَ النعمةَ العظيمةَ والمنَّةَ الجزيلةَ, فعليه أَنْ يُراعيَ بعضَ الآدابِ المهمة؛ ومن ذلك:
أولاً: النِّيةُ الصادقةُ في طَلَبِ الخلوةِ باللهِ؛ فكلَّما صَدَقَ العبدُ في ذلكَ نالَ ما يتمنَّاه.
ثانيًا: استحضارُ معيَّةِ اللهِ -تعالى- وقُرْبِه، وتعظِيمِه وإجلالِه.
ثالثًا: قَطْعُ جميعِ الأسبابِ التي تُفسدُ على صاحبِها خلوتَه بربِّه.
رابعًا: الإكثارُ من الصلاةِ؛ فهيَ من أعظمِ القُرُباتِ في الخلوةِ, وأحبِّها إلى اللهِ, قال -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ, إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ"(رواه البخاري ومسلم).
خامسًا: تلاوةُ القرآنِ بترتيلٍ وتدبرٍ؛ فهذا مما يَفْتحُ على العبدِ أبوابَ التأثُرِ والخشوعِ، ممَّا يكونُ سببًا في طهارةِ قلبِه وسكونِ جوارحِه، ونيلِ لذةِ الإيمانِ، والأُنسِ بمناجاةِ الواحدِ الدَّيان.
سادسًا: الإقبالُ على اللهِ بالقلبِ والجوارحِ، والإكثارُ من شُكْرهِ وتسبيحِه وتهليلِه وتعظيمِه؛ فهذا مما يزيدُ فَرَحَ القلبِ وسرورَ النَّفسِ، يقولُ مسلمُ بنُ يسارٍ: "مَا تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"، ويقولُ محمدُ بنُ يوسفٍ: "مَنْ أَرَادَ تَعْجِيلَ النِّعَمِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ مُنَاجَاةِ الْخَلْوَة".
عبادَ اللهِ: ومن الكنوزِ العظيمةِ والمنحِ الجليلةِ والثمراتِ العاجلةِ في الخَلوةِ باللهِ ولذةِ مناجاتِه ما يلي:
الإخلاصُ للهِ -تعالى-، فأبعدُ النَّاسِ عن الرياءِ هم أهلُ الخلوةِ باللهِ -تعالى-، وما نالوا ذلكَ إلا لأنْهم قاموا بينَ يديْهِ -سبحانَه- محبةً وشوقًا وخشيةً وخوفًا ورجاءً, يقولُ ذُو النونِ: "مَنْ أَحَبَّ الْخَلْوَةَ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِعَمُودِ الْإِخْلَاصِ, وَاسْتَمْسَكَ بِرُكْنٍ كَبِيرٍ مِنْ أَرْكَانِ الصِّدْقِ"(صفة الصفوة).
ومنها: الأنسُ بهِ ورقةُ القلبِ والبكاءُ من خشيتِه، وكيفَ لا يأنسُ الخالي بربِّه وقد أفاضَ عليه مولاهُ بنفحاتِ رحْمتِه وعظيمِ كَرَمِه، بإقامتِه بينَ يديْهِ، وإعانتِه على طاعتِه، ويكفي مَنْ خلى بربِّه وهَطَلتْ عينُه من محبَّتِه وخشيتِه قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ -تعالى- في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ", وذكر منهم: "ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خالِيًا، فَفاضَتْ عَيْناهُ"(رواه البخاري ومسلم).
ومنها: التلذُّذُ بمناجاتِه وقُرْبِه، ودعاؤُه والتضرُّعُ إليه، ومَنْ منَّا لا يفتقرُ إلى عظيمِ جودِه وعطائِه، عن عائِشَةَ قالَتْ: "افْتَقَدْتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أنَّه ذَهَبَ إلى بَعْضِ نِسائِهِ، فَتَحَسَّسْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ، فَإِذا هو راكِعٌ، أوْ ساجِدٌ يقولُ: "سُبْحانَكَ وبِحَمْدِكَ لا إلَهَ إلّا أنْتَ"، فَقُلتُ: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي، إنِّي لَفِي شَأْنٍ وإنَّكَ لَفِي آخَرَ"(رواه مسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا* وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)[الإسراء:78، 79] .
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، والشكرُ لهُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلَه إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه ومن سارَ على نهجِه إلى يومِ الدينِ.
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ -أيُّها المؤمنونَ- حقَّ التَّقوى: واعلموا أن من الكنوزِ العظيمةِ والمنحِ الجليلةِ والثمراتِ العاجلةِ في الخلوةِ باللهِ ولذةِ مناجاته أيضًا ما يأتي:
مجاهدةُ النَّفسِ ومحاسبتُها على التقصيرِ والزللِ، وإعانتُها على الإخلاصِ وشُكرِ خالقِها على توفيقِه وإعانتِه، والحرصُ على التَّوبةِ والاستغفارِ, قالَ الحسنُ -رحمهُ اللهُ-: "المؤمنُ قوَّامٌ على نفسِه، يُحاسبُ نَفسهُ للهِ، وإنَّما خفَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قومٍ حاسبوا أنَّفسهمْ في الدنيَا، وإنَّما شقَّ الحساب يوم القيامةِ على قومٍ أخذوا هذا الأمرَ من غيرِ محاسبةٍ".
ومنها: صفاءُ القلبِ وسعادتُه وانشراحُه، وزيادةُ الإيمانِ واليقينِ، ونيلُ محبةِ ربِّ العالمينَ، قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ"(رواه مسلم).
ومن الثمراتِ العاجلةِ في الخلوةِ باللهِ: سكونُ الجوارحِ وحبُّها للطاعةِ والذِّكرِ، وهطولُ العيونِ بدموعِ المحبَّةِ والقُرْبِ.
ومنها: تَذكُّرُ الآخرةِ، وبذلُ الغالي والنفيسِ من أجلِها.
ومنها: الإكثارُ من العملِ الصالحِ والتزودُ للقاءِ اللهِ -تعالى- في الآخرةِ.
ومن ثمراتِ الخلوةِ باللهِ: تحصيلُ المغفرةِ والأجرِ الكبيرِ من الربِّ الكريمِ، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك:12].
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى؛ فقد أَمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقال -جلَّ من قائلٍ عليمًا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
التعليقات