عناصر الخطبة
1/ دين الله شرع ووحي من الله 2/ ضرورة اتّباع الشريعة في التحليل والتحريم 3/ حُسن الأحكام الشرعية 4/ كثرة الحلال وقلّة الحرام 5/ خطورة استحلال المحرّماتاقتباس
مَن عرَف أنّ الله خلقه لِعبادتِه، وأَوجده في هذه الدنيا لِطاعتِه، فإنّ عليه أنْ يعلمَ أنّ مِن أظهَرِ صُوَرِ العبادة، ومِن أجلى أنواع الطّاعةِ المطلقة، الاتّباعَ في التحليلِ والتحريم...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
أيها المسلمون: دِينُ الله شَرعٌ مُنزّل، ووحْيٌ أوحاه إلى نبيِّه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ أحلّ اللهُ تعالى لعبادِه الحلالَ بفضلِه، وحرَّمَ عليهم الحرامَ بِحكمتِه، ولم يَتركْهُم هملا؛ بل أكملَ لهم دِينَهم، وبيّن حلالَه مِن حرامِه، كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
إخوةَ الإسلام: مَن عرَف أنّه عبدٌ لله تعالى، خلقه الله تعالى لِعبادتِه، وأَوجده في هذه الدنيا لِطاعتِه، فإنّ عليه أنْ يعلمَ أنّ مِن أظهَرِ صُوَرِ العبادة، ومِن أجلى أنواع الطّاعةِ المطلقة، الاتّباعَ في التحليلِ والتحريم، فإذا كانت العبادةُ والطّاعةُ المطلقةُ حقًّا لله وحده، الذي لا إله غيرُه، فإنّ صاحبَ الحقّ في التحليلِ والتحريم هو الله وحدَه، لا شريك له، فلا أحدَ يَشْرَعُ غيرُه، ولا يُحلُّ ولا يُحرّم أحدٌ سواه.
وذلك أنّ الخالقَ هو الله، والذي له الخلقُ هو الذي له الأمر، كما قال تعالى: (ألَا لَهُ الخَلقُ والأمرُ تبارك اللهُ ربُّ العالمَين)، والذي يَعلمُ الطيّبَ مِن الخبيثِ، والحسنَ مِن القبيحِ، على الوجه الأتمّ، ويَعلمَ ما يُصلِحُ العبادَ وما يُفسدُهم هو العليمُ الحكيمُ وحدَه -جلّ وعلا-.
فَمَن آمن بأنّ الله تعالى هو الحكيمُ في أمرِه، العليمُ في شرعِه، سَلّمَ وآمَنَ أنّ حُكمَه أكملُ الأحكام، وشريعتَه أحسنُ الشرائع، (ومن أحسن من الله حكمًا لقومٍ يُوقِنون).
ومَن تأمّل شريعةَ الله وما فيها مِن التحليلِ والتحريمِ وَجَدَها في غايةِ الحُسنِ والبهاء، ليس فيها قُصُورٌ أو خلل.
شريعةٌ تُحلّ الطيّباتِ، وتُحرّم الخبائثَ والمنكرات، كما قال تعالى عن رسوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
فالطيّباتُ هي أكثرُ ما في الأرضِ ممّا امتنّ اللهُ به على عبادِه، والخبائثُ والمنكراتُ هي القليلُ الذي نهى اللهُ عنه عِبادَه، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
فهذه شريعةُ الله، وهذا تحليلُه وتحريمُه، يدلُّ على أنّه -سبحانه- طيّبٌ لا يَقبلُ إلا طيِّبًا، قدوسٌ سلامٌ، لا يرضى بِالمنكرِ والخبيث، وقد فصّل الحرام والحلال أتمّ تفصيل، بحيث لم يبقَ لمخالفٍ عُذر، قال تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).
فعلى المسلم إذا كانَ مسلمًا حقًّا أن يُذعن ويُسلّم، وينقاد ويستسلم لحكم الله تعالى، فيعتقدَ تحريم ما حرّم الله، وحِلّ ما أحلّه، ولا يعمدَ إلى دينِ الله فيبدّلَه بتحريمِ الحلالِ وتحليلِ الحرام، كُفرًا بشريعةِ الله، ومُعاندةً لحُكمِه، وافتراءً عليه.
إخوة الإسلام: إن المسلمَ قد يقعُ في المعصيةِ فيفعلُ الحرامَ وهو يعتقدُ حُرمتَه؛ كمن يأكلُ الرّبا مع اعتقادِه تحريمَ الرّبا، فهذا مرتكبٌ لكبيرةٍ ومُستحقٌّ للعذاب، ولكنه لم يخرجْ من الإسلام، وإنما يكونُ التخلّي عن الإسلام والخروجُ منه عندما يَتحوّلُ المرءُ إلى اعتقادِ استحلالِ المحرّمات المتّفَقِ على تحريمها؛ بأن يعتقد أن الرّبا حلالٌ، أو أنّ الزّنا حلالٌ، أو أنّ شربَ الخمرِ حلالٌ، لأنه رأى هذا الرأي، أو لأنّه حرّيةٌ شخصيّة، أو لأنّ لكلّ إنسانٍ الحقَّ في أن يفعل ما يشاء.
فهذا الذي قد خَلَعَ رِبْقَةَ العبوديةِ مِن عُنُقِه، واستنكفَ أن يكونَ عبدًا لخالقِه، وجعلَ نفسَه إلهًا مع الله يُشاركه في التحليل والتحريم -عياذًا بالله من غضبه-، فاحذروا عبادَ اللهِ مِن ذلك أشدَّ الحذَر، واجعلوا بينكم وبين استحلالِ المحرماتِ حاجزًا منيعًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
عبادَ الله: إنّ استحلالَ الحرامِ أو تحريمَ الحلالِ مِن أعظمِ الظلمِ والافتراءِ على الله، يقول الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي ما ظنُّهم أن يكونَ عقابُهم يومَ القيامة؟
ويقول جلّ شأنه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
إنّ مَن بَدّلَ الدّينَ؛ فحرّمَ الحلالَ المجمعَ على حِلّه، أو أحلَّ الحرامَ المجمعَ على تحريمِه، قد وقعَ في أمرٍ أجمعَ علماءُ المسلمين على أنّه كُفرٌ مُخرج مِن الإسلام، قال القاضي عياض رحمه الله: “أجمع المسلمون على تكفيرِ كلِّ مَن استحلَّ القتلَ أو شُربَ الخمرِ أو الزّنا ممّا حرم الله بعد علمه بتحريمه”.
ومن اتَّبَعَ غيرَ اللهِ في التحليلِ والتحريمِ كَمَن يتّبعُ بعض مَن يُسمَّون بِالمفكِّرين وهُم في الحقيقةِ ضَالّون مُضِلّون، يُحِلّون المحرّمات، أو علماءَ السّوءِ الفاسدين الذين يبيعون الدينَ بِالدنيا، فهو كاليهود والنصارى الذين اتّبعوا أحبارَهم ورهبانَهم في تبديل الدّين، فكانوا بذلك مشركين، حتى قال تعالى فيهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وقد سمعَ عَدِيُّ بنُ حاتمٍ الطائيّ لمّا كانَ نصرانيًّا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقرأُ قولَه: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) فقال: إنَّا لسنا نعبدُهم! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يُحَرِّمون ما أحلَّ الله فتحرّمون، ويُحلُّون ما حرَّم اللهُ فتستحِلُّون؟” قال: بلى، قال: “فتلكَ عبادتُهم”(أخرجه الطبراني والبيهقي).
فَمَن أراد السلامةَ لِنَفسِه، والثباتَ على دينِه، فلْيعتصمْ بحبلِ الله، ولْيُذعنْ لشرعِ الله، ولا يعبدُ هواه مُحِلًّا ما شاء ومُحرّمًا ما شاء، ولا يُفتي بلا علم، بل يبحثُ عن حكمِ الله، ويسألُ أهلَ العلم بشرعِه، فذلك خيرٌ له وأحسنُ تأويلا.
ثم صلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه: اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونسألك الجنة وما يقربنا إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقربنا إليها من قول وعمل، ونسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم وفّق وليّ أمرنا لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبِرِّ والتقوى.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبّحوه بكرة وأصيلا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات