عناصر الخطبة
1/لماذا الحديث عن الإسلام؟ 2/من خصائص دين الإسلام 3/من أَعْظَم أَوْصَاف الإسلام 4/وضوح الشريعة الإسلامية وظهور أحكامها 5/ دور العلماء الراسخين في استنباط الأحكام.اقتباس
إنَّ أَوَّل مَنَازِل فَهْم الإسلام هُو تَثْبِيت الْمُحْكَمَات وترسيخها فِي أَنْفُسِنَا؛ فَهِي أَصْلُ هَذَا الدِّين وَرُكْنُه الرَّكِين، وَعَلَيْه تُبْنَى تَفَاصِيلُ الشَّرِيعَة وَدَقَائِقُهَا، فَلا تَقُوم شَجَرَة هَذَا الدِّين إلّا عَلَى جُذُورهَا، وَهي مُحْكَمَاتُهَا وأُسُسها ومُسلَّماتها، فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذ، فَإِذَا...
الخطبة الأولى:
عِبَاد اللَّه: دَعُونَا نَتَأَمَّل فِي هَذِه الْخُطْبَة، ونُفكِّر بِعُمْقٍ تجَاه دِين الإسلام، دَعُونَا نَضَع تساؤلات عَن هَذَا الدِّين ونُجِيب عَنْهَا.
فَإِن قَال قَائِل: كَيْف تُحَدِّثُنَا عَن الإسلام وَنَحْن مُسْلِمُونَ؟، لِمَاذَا نتساءل عَن الإسلام؟، وَنَحْن مَن وُلِدْنَا مُسْلِمِينَ وَعِشْنَا وَنَشأنا وَكَبرْنَا عَلَى دِين الإسلام؟! أَيُّهَا الْخَطِيبُ! دَع غَيْرَكَ يَصْعَد الْمِنْبَر، ويُحدِّثنا حَدِيث الْمُسْلِم لِلْمُسْلِمِين؛ فَلِكُلِّ مَقَام مَقَال.
فَأَقُول لِهَذَا الْقَائِل: عَلَى رِسْلِك، وخُذْني بِحِلْمِك، فَإِنَّ جِبْرِيل -عَلَيْه السَّلام- دَخَل مَجْلِس رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ- وَفِِيهِم أَبُو بَكْر وَعُمَر وَكِبَار الصَّحَابَة، وَأَخَذَ يَسْأَلُهُ عَن الإسلام وَالإِيمَان وَالإِحْسَان؛ فهل كان الْقَوْم حديثي عَهْد بِه؟ ثم قَال النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعُمَر: "هَذَا جِبْرِيل أتاكم يُعَلِّمُكُم أُمُور دِينِكُم"(متفق عليه).
إنَّ الْحَدِيث عَن بدهيات الدِّين وَضَرُورِيَّاتِه ومُحْكَمَاته، أَمْرٌ فِي غَايَة الْأَهَمِّيَّة؛ لأَنَّه يُعَمِّق فِي وجْدَان الْمَرْء الْيَقِينَ بِهَذَا الدِّين، فِي زَمَنٍ تَتَلَاطَم فِيْه أَمْوَاج الْفِتَن وَالشُّبُهَات.
وَلَهَذَا -أحبتي فِي اللَّه- لَو أَنِّي أَطْرَح بَيْن أَيْدِيكُم سؤالاً فِي غَايَة الْأَهَمِّيَّة؛ وَهو: مَا السِّرّ الَّذِي أَودَعَهُ اللَّه فِي الإسلام لِيَكُون هُو خَاتِمَة الرسالات السماوية؟ وَلماذا هو الْحَاكِم النَّافِذ فِي كَلِّ زَمَان وَمَكَان؟
حِينَمَا يَطْرَأ فِي ذِهْنِي هَذَا السُّؤَال الْعَابِر؛ فَإِنِّي أُرْدِفُهُ بِحَدِيثٍ يُشَكِّل قَاعِدَةً مُهِمَّة فِي منهجيَّة تَلَقِّي الأَحْكَام الْفِقْهِيَّة، بَل هُو أَسَاس وَاضِح وَطَرِيق بَيِّن.
اسْمَع لِحَدِيث النُّعْمَان بن بَشِير -رضي الله عنهما- حِين قَال: قَال رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "الْحَلَال بَيِّن، وَالْحَرَام بَيِّن، وَبَيْنهمَا أُمُور مُشْتَبِهَات، لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مَن النَّاس، فَمَن وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَام، وَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَات فَقَد اسْتَبْرَأ لِدِينِه وَعِرْضِه".
هَذَا الْحَدِيث يُوضِّح حَقِيقَة هَذَا الدِّين، وأنه جَاء عَلَى وَصْفٍ فِي غَايَة الْأَهَمِّيَّة، وَهُو وَصْف الشَّرِيعَة بالوضوح وَالْبَيَان؛ فَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُوضِّح لِأُمَّتِه أنَّ هَذَا الدِّين حَلَالَه وَحَرَامَه فِي غَايَة الْوُضُوح وَالْبَيَان، فَلا يَقَع الْمُسْلِم فِي رِيبَة مَن أَمْر دِينِه، وَلَذَا حَذَّر اللَّه -تَعَالَى- مَن مَغَبَّة الزَّلَل بَعْد وُضُوح الْحَقّ؛ فقال: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[البقرة:209].
وَهَذَا الْبَيَان وَالْوُضُوح يَدُلّ عَلَى أن الشَّرِيعَة إِنَّمَا هِي قَانُون وَأَحْكَام مُلْزِمَة، فَهَل رَأَيْتُم قانونًا يُوْضَع عَلَى وَجْه الأَرْض يَقْصِد فِيه وَاضِعُهُ اللُّغْزَ وَالْإِخْفَاء؟ بَل جَرَتِ الْعَادَة أن تَكُون الْقَوَانِين فِي غَايَة الْوُضُوح وَالْبَيَان.
وَبِالْعَوْد إِلَى التَّسَاؤُل؛ فَإِن مِن أَعْظَم أَوْصَاف الإسلام: أَنَّه دِين قَائِم عَلَى الْوُضُوح وَالْبَيَان، وَلِيس الْأَصْلُ فِيه الْغُمُوضَ وَلا الْخَفَاءَ.
وَهَل يُعْقَل أنَّ اللَّه -سُبْحَانَه، وَهْو الْمُتَّصِف بِالْعَدْل- يُعَذِّب عِبَادَهُ مِن غَيْر أن يُقِيم عَلَيْهِم الْحُجَّة الْوَاضِحَة الْبَيِّنَة، بَل ذَمَّ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَاب بِأَنَّهُم لَم يَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَضِلُّوا إلَّا مِن بَعْد مَجِيء الْعِلْم وَالْبَيِّنَات؛ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران:105].
وَهَذا الْوُضُوح يَرُدّ على زَعْم مَن نَسَبَ إِلَى أَحْكَام الشَّرِيعَة كَثْرَةَ الْخِلَاف، وأنها كُلّهَا مَسَائِل خِلَافِيَّة، وَأَن الْعُلَمَاء مُخْتَلِفُون، وَأَنَّنَا أَصْبَحْنَا فِي شَكٍّ مِن دِينِنَا بِسَبَب اخْتِلَاف أَهْل الْعِلْم، وأن هناك مسائل شرعية غَيْر وَاضِحَةِ الْمَعَالِم.
وَهَذِه الْمُبَالَغَة إِنَّمَا جَاءَت بسبب جَهْلِنَا بِقَوَاعِد وَأُصُول الأَحْكَام؛ فَإِن الْوَاضِحَات الْبَيِّنَات الَّتِي يَقُوم عَلَيْهَا دِين الْمَرْء هي أَكْثَرُ هَذَا الدِّين، بَل هِي أُمّ الْكِتَاب، (مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)[آل عمران:7].
وَأَمَّا الَّتِي هِي مَحَلّ اخْتِلَافٍ فَقَد سَمَّاهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ- بالمشتبهات، وَقَد أَمَرَنَا أَنْ نَتَّقِي هَذِه الشُّبُهَات. ومعنى اتقائها أَلَّا يَخُوض فِيهَا الْمُسْلِم مِن غَير عِلْم ولا رَوِيَّة، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّف حَتَّى تَتَبَيَّن لَه، وَقَد جَاءَت الْآيَات وَالْأَحَادِيث بِبَيَان طَرِيقَة مَعْرِفَة تَوْضِيح الْمُشْتَبِهَات؛ وَذَلِك مَن خِلَال سُؤَال أَهْل الْعِلْم: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النحل:43].
وَلَهَذَا جَاء وَصْف الْمُشْتَبِهَات بِأَنَّها "لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِن النَّاس"؛ لأَنَّ أَهْل الْعِلْم هِي بِالنِّسْبَة لَهُم وَاضِحَة وَبَيِّنَة.
وَلَهَذَا -أَيُّهَا الْأَحِبَّة- إنَّكُم تتعبَّدون اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- بِشَرِيعَة وَاضِحَة بَيِّنَة ولا الْتِبَاس بِهَا، وَهَذِه الْمَذَاهِب الْأَرْبَعَة واجتهادات أَئِمَّة الإسلام مِن السَّلَف وَالْخَلَف إِنَّمَا كَان دَوْرُهَا فِي تَوْضِيح مَا اشْتَبَه عَلَى النَّاس من أَمْر دِينِهِم، وَمِن هُنَا جَاءَت عِظَم مَنْزِلَة أَهْل الْعِلْم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة:11].
عِبَاد اللَّه: إِنَّمَا تَكْثُر الْمُشْتَبِهَات، وَيُكْثِر الْخِلَاف وَتَكْثُر الْفِتَن إِذَا قَلَّ أَهْل الْعِلْم، واتَّخَذ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالاً؛ فَضَلَّوا وأَضَلُّوا. فَحِينَمَا تَطْغَى الْفِتَن وَيَكْثُر جَهْلُ النَّاسِ بِدِينِهِم؛ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا هُو رَاجِعٌ إِلَى غِيَاب أَهْل الْعِلْم وَقِلَّتِهِم، فَهُم حُرَّاس هَذَا الدِّين وأُمناء هَذِه الشَّرِيعَة.
بَارَك اللَّه لِي وَلِكُم...
الخطبة الثانية:
عِبَاد اللَّه: إن مِن حِكَم وَمَقَاصِد الشَّرِيعَة فِي كَوْنهَا وَاضِحَة بَيِّنَة؛ أَنَّهَا دِينٌ لِعَامَّة النَّاس، فَهَذَا كِتَاب اللَّه بَيْن أَيْدِيكُم يَقْرَأُهُ الْعَالِم فَيَخْشَع، وَيَقْرَأُهُ الْعَامِّيّ فَيَبْكِي ويتأثَّر، يُدَاوِم عَلَى قَرَاءته الْغَبِيُّ والذَّكِيُّ، الْمَرْأَة وَالرَّجُل، الصَّغِير وَالْكَبِير.
فَهَذَا بروفيسور تَجِدُه فِي جَانِب الْمَسْجِد يَمْكُث عَلَى كِتَاب اللَّه يَتَأَمَّلُ فِيه وَيَتَدَبَّرُهُ، وَهَذا الْعَجُوز الْأُمِّيّ يَقْرَأ الْقُرْآن فِي مِحْرَاب الْمَسْجِد، وفي بَيْتِه، حَتَّى إنَّه لا يُفَارِقُه، وَهَذا سِرٌّ مِن أَسْرَار وُضُوحِه وَبَيَانِه، أنْ جَعَلَه اللَّهُ كِتَابًا لِعَامَّة النَّاس: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)[سبأ:28].
فَهَذَا الْخِطَاب الْعَامّ لا بُدّ أن يَكُون واضحًا بَيِّنًا، وَإِذَا أَرَدْتَ أن يَزْدَاد يَقِينُكَ بِوُضُوح الْكِتَاب، فَإِنَّ النبيَّ محمَّدًا -صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ- أُوتِي جَوَامِع الْكَلِم، فَكَان أَفْصَح النَّاس؛ لأَنَّ الْوُضُوح وَالْبَيَان، إِنَّمَا هُو مَقَام أَهْل الْفَصَاحَة وَالْبَلَاغَة، فَكان يُعَبِّرُ عَن قَوَاعِد الدِّين وَأَحْكَامِهِ بِأَفْصَح الْعِبَارَات وَأَوْضَحِهَا وَأَقَلّهَا.
لِنَضْرِبَ مثالاً عَلَى ذَلِك: قَال -صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ-: "إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّات"، وَقَال -صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ-: "الْبَيِّعَان بِالْخِيَار مَا لَم يَتَفَرَّقَا"؛ فَهَذِه الْجُمَل الْبَسِيطَة حَوتِ الْكَثِيرَ مِن الأَحْكَام والتشريعات، وَهِي جُمَل وَاضِحَة بَيِّنَة يَفْهَمُهَا عَامَّة مَن سَمِعَهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ- أَرَاد أنْ يُبَيِّن بِالْأَوَّلِ مَنْزِلَةَ النِّيَّة، وَبِالْآخَر مَشْرُوعِيَّة الْخِيَار فِي الْبَيْع وَمُدَّتُه. وهكذا جُلُّ أَحَادِيث رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ-.
عِبَاد اللَّه: إنَّ أَوَّل مَنَازِل فَهْم الإسلام هُو تَثْبِيت الْمُحْكَمَات وترسيخها فِي أَنْفُسِنَا؛ فَهِي أَصْلُ هَذَا الدِّين وَرُكْنُه الرَّكِين، وَعَلَيْه تُبْنَى تَفَاصِيلُ الشَّرِيعَة وَدَقَائِقُهَا، فَلا تَقُوم شَجَرَة هَذَا الدِّين إلّا عَلَى جُذُورهَا، وَهي مُحْكَمَاتُهَا وأُسُسها ومُسلَّماتها، فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذ، فَإِذَا هُدِمَتْ هَذِه الْمُسَلَّمَات تَحْت ذَرِيعَة الْخِلَاف، أَو تَحْت مُبرِّرات ضَغْط الْوَاقِع، أَو بِدَوَاعِي مُرَاعَاة الْمَصَالِح هُدِمَ الدِّين فِي النُّفُوس، فَلْنُرَبِّ أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا عَلَى هَذِه الْمُحْكَمَات قَبْل أيِّ شَيْء.
وصَلُّوا وسَلِّمُوا على نبينا محمد وعلى آل وصحبه أجمعين.
التعليقات