عناصر الخطبة
1/ موعد ليلة القدر 2/ من علاماتها 3/ بعض أحكام زكاة الفطر 4/ مشروعية التكبير وصيغته وبعض أحكامه 5/ مغالبة النفس بصالح الأعمال اغتناما لفاضل الأوقات 6/ السرور لمظاهر عمران المساجد ليالي رمضاناهداف الخطبة
اقتباس
إذا لم نحسن الاستقبال فلنحسن الوداع؛ فالعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، فالأعمال بالخواتيم، يقول الحسن البصري: "أَحْسِنْ فيما بقى يغفر لك ما مضى، واغتنم ما بقي، فلا تدري متى تدرك رحمة الله"، فربما تكون في آخر ساعة من رمضان! اللهم اختم لنا رمضان بالغفران!.
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: ونحن نَتَفَيَّأُ ظلال العشر الأواخر من شهر البر والخير والطاعة، تهفو نفوسنا بلا شك لإدراك ليلة القدر، والمتقرر أنها في أوتار العشر الأواخر وهذا صحيح.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- معنى آخر دل عليه ما رواه ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ -يعني لَيْلَةَ الْقَدْرِ-، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى" رواه البخاري.
فقال ما ملخصه في الفتاوى الكبرى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، هَكَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وأَنَّهُا تَكُونُ فِي الْوِتْرِ مِنْهَا، والْوِتْر يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، فَتُطْلَبُ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ.
وَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: "لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى، لِسَابِعَةٍ تَبْقَى، لِخَامِسَةٍ تَبْقَى، لِثَالِثَةٍ تَبْقَى".
فَعَلَى هَذَا؛ إذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَكُونُ التماسها لَيَالِي الْأَشْفَاعِ، وَتَكُونُ ليلةُ اثْنَتيْنِ وَعِشْرِينَ تَاسِعَةً تَبْقَى، وَلَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَابِعَةً تَبْقَى، وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عنه-، وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، كَانَ التَّارِيخُ بِالْبَاقِي،كَالتَّارِيخِ الْمَاضِي.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "تَحَرُّوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ"، وَتَكُونُ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ أَكْثَرَ، وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
وقد أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عن بعض علاماتها: منها أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ صَبِيحَتِهَا كَالطَّسْتِ لَا شُعَاعَ لَهَا، وأَنَّهَا لَيْلَةٌ بَلْجَةٌ مُنِيرَةٌ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ لَا قَوِيَّةُ الْحَرِّ، وَلَا قَوِيَّةُ الْبَرْدِ، وَقَدْ يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ، أَوْ الْيَقِظَةِ. اهـ. مُلخَّصاً.
أحبتي: مَن حافظ على القيام ليالي العشرِ واستثمرها كلها أدرك ليلةَ القدرِ إن شاء الله، وهو ليس بحاجة لتتبع العلامات أو الأخذ بالمنامات، وفقنا الله جميعاً لإدراكها، ومنَّ علينا بالقبول.
وأكْثِرُوا في هذه الليالي من الدعاء الذي علمه رسول الله لعَائِشَةَ، فَقَدْ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: "قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" رواه الترمذي واللفظ له وابن ماجة وأحمد بدون "كريم"، وصححه الألباني.
واعلموا -وفقني الله وإياكم- أن الله قد شرع لنا في ختام الشهر عباداتٍ جليلةً نزداد بها إيمانًا، وتكمل بها عبادتُنا؛ شرع لنا زكاةَ الفطرِ، والتكبيرَ، وصلاةَ العيد.
أما زكاةُ الفطر فقد فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، وما فرضه رسول الله فله حكم ما فرضه الله -سبحانه- أو أمر به، قال الله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7].
وقال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- زكاةَ الفطرِ من رمضان صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغيرِ والكبير من المسلمين" متفق عليه.
والواجب في الفطرة أن تخرج من طعام الآدميين من تمر أو بُرّ أو أرز، ومقدارها صاع، ومقدار الصاع النبوي كيلوّان وأربعون غرامًا.
ويجب على المسلم أن يخرجها عن نفسه وعن كل من تلزمه نفقته من زوجة أو قريب، إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم؛ فإن استطاعوا -كأنْ يكون لهم راتب أو مال- فالأولى أن يخرجوها عن أنفسهم؛ لأنهم المخاطبون بها أصلاً، ومن أراد إخرجها عن خَدَمِهِ فعليه أن يستأذنهم في ذلك.
وتجب بغروب الشمس ليلة العيد، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، ومن أخرجها بعد صلاة العيد بلا عذر فهي صدقة من الصدقات، لا تبرأ بها ذمته إلا أن يكون معذورًا؛ لأنه خلاف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الإخوة: ادفعوها إلى فقراء المكان الذي أنتم فيه وقت الإخراج، سواء أكان محل الإقامة أم غيره من بلاد المسلمين، لا سيما إن كان مكانًا فاضلاً كمكة أو المدينة، أو كان فقراؤه أشد حاجة.
والأفضل أن يدفعها الإنسان بنفسه، فإن لم يستطع أو لم يعرف الفقراء فجمعية البر الخيرية بعنيزة تستقبلها في مواقع متعددة من البلد وتقوم بدفعها للفقراء.
وحسِّنوها وكملوها، ولتكن من أطيب أموالكم الذي تجدون، فـ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]، (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة:267].
أيها الأحبة: ومما يشرع لكم بعد إكمال العدة التكبير، ووقته من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال الله -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]، أي: تشكرون الله -تعالى- عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده، وبالتكبير عند انقضائه.
ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال، إلى فراغ خطبة العيد.
وصيغة التكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وإن كبَّر -قال: الله أكبر، ثلاثًا، فلا بأس.
ويسن الجهر به للرجال في المساجد والأسواق والبيوت، إعلانًا لتعظيم الله، وإظهارًا لعبادته وشكره.
ويُسِرُّ به النساء؛ لأنهن مأمورات بالتستر والإسرار بالصوت، إلا إن كنَّ في مكان لا يسمعه الرجال غير المحارم.
الله أكبر! يا عباد الله: ما أجمل حال الناس وهم يكبرون الله تعظيمًا وإجلالاً في كل مكان عند انتهاء صومهم! فتمتلئ الآفاق تكبيرًا وتحميدًا وتهليلاً؛ رجاءَ رحمةِ اللهِ، وخوفَ عذابه، وإحياءً لسنة نبيهم...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أحبتي: أيام قليلة ونودع هذا الشهر العظيم، والفتور طبيعي أن يدب إلى الإنسان، خصوصاً في آخر العمل؛ ولذلك حثنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على مغالبة النفس وحملها على الخير؛ من أجل دحر الفتور.
فعن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ -يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ- فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي" رواه مسلم.
أجل؛ غالِبْ نفسك ومشاغلك في هذه السبع البواقي لتظفر بالخير العظيم.
أيها الأحبة: وبالجملة؛ ينبغي للمسلم أن يزيد في الأعمال الصالحة في الأيام والليالي الفاضلة رجاء فضلها، قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: فإن الله -سبحانه- إذا أحب عبدا استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال، وإذا مقته استعمله في الأوقات الفاضلة بسيئ الأعمال، ليكون ذلك أوجع في عقابه، وأشد لمقته لحرمانه بركة الوقت، وانتهاكه حرمة الوقت.
إذا لم نحسن الاستقبال فلنحسن الوداع؛ فالعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، فالأعمال بالخواتيم، يقول الحسن البصري: "أَحْسِنْ فيما بقى يغفر لك ما مضى، واغتنم ما بقي، فلا تدري متى تدرك رحمة الله"، فربما تكون في آخر ساعة من رمضان! اللهم اختم لنا رمضان بالغفران!.
أيها الأحبة: من نعم الله علينا في هذا الشهر المبارك أن عُمرت المساجد فيه بالتراويح والقيام؛ وتعطرت لياليه بتلاوة القرآن والذكر والدعاء، ورفعت فيه أكف الضراعة إلى الله بالدعاء والثناء، وأمَّ المسلمين فيها شبابٌ من أبنائهم تحملوا المسؤولية وآثروا نفع عباد الله، واحتسبوا الأجر بالإمامة، واطَّرحوا الكسل، وفازوا بالمبادرة والأجر إن شاء الله.
وتوافد المسلمون إليهم زرافات ووحدانًا، صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً، يأتمُّون بهم، ويسمعون كلام الله يتلى عليهم غضًّا طريًّا، فيستشعرون وعده ووعيده، فما أعظمه من عمل! وما أجمله من بذل للخير! نسأل الله أن يُجزل لهؤلاء الأجر والمثوبة، وأن يزيدهم من فضله، وينفع بهم، إنه جواد كريم.
وصلُّوا...
التعليقات