عناصر الخطبة
1/حال الناس قبل مجيء الأجهزة الكفية وبعدها 2/آثار الأجهزة الكفية ومخاطرها 3/بعض منافع الأجهزة الكفية 4/تقنين استخدام الأجهزة الكفية .اقتباس
فَيَا حَسْرَةَ الْغَيَارَى مِنَّا عَلَى أَوْلَادِنَا الَّذِينَ تَكَدَّرَ نَقَاءُ طُفُولَتِهِمْ، وَانْطَفَأَتْ يَقَظَةُ مَلَكَاتِهِمْ تَحْتَ إِشْعَاعَاتِ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الْمَاضِي يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالصِّحَاحَ وَالسُّنَنَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا، فَكَيْفَ حَالُهُمُ الْيَوْمَ بَعْدَ أَنْ أَسَرَتْهُمْ هَذِهِ الْأَجْهِزَةُ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ -تَعَالَى- الْإِنْسَانَ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، وَسَخَّرَ لَهُ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَعَلَّمَهُ مِنَ الْعُلُومِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَلَا تَزَالُ مَعَارِفُ هَذَا الْمَخْلُوقِ فِي تَطَوُّرٍ مُسْتَمِرٍّ بَحْثًا عَمَّا يُسْعِدُهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى؛ غَيْرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يُحْسِنُونَ الِانْتِفَاعَ بِكُلِّ جَدِيدٍ تُنْتِجُهُ تِكْنُولُوجْيَا الْحَيَاةِ الْمُعَاصِرَةِ.
فَلَقَدْ كَانَ النَّاسُ -قَبْلَ مَجِيءِ الْأَجْهِزَةِ الْكَفِّيَّةِ- يَعِيشُونَ حَيَاةً اجْتِمَاعِيَّةً طَبِيعِيَّةً، فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ وَالنَّقَاءِ وَالْحَيَوِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي عَصْرِ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ، وَكَانُوا يَقْضُونَ الْوَقْتَ فِي عِبَادَةٍ، أَوْ عَمَلٍ دُنْيَوِيٍّ نَافِعٍ، وَأَمَّا أَوْلَادُهُمْ فَقَدْ كَانُوا -قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا عَالَمَ هَذِهِ الْأَجْهِزَةِ- يَحْيَوْنَ حَيَاةً سَعِيدَةً مَعَ أُسَرِهِمْ وَجِيرَانِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ، لَا تُكَدِّرُ تِلْكَ الْحَيَاةَ مَا يُعَانِيهِ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ الْيَوْمَ مِنْ إِدْمَانِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْأَجْهِزَةِ الْكَفِّيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ أَوْقَاتَهُمْ وَعُقُولَهُمْ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ انْصِرَافَ الْأَوْلَادِ إِلَى الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ وَإِدْمَانَ بَعْضِهِمُ التَّعَامُلَ مَعَهَا قَدْ نَتَجَتْ عَنْهُ آثَارٌ سَلْبِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَمَخَاطِرُ مُتَنَوِّعَةٌ كَبِيرَةٌ؛ فَهُنَاكَ أَضْرَارٌ دِينِيَّةٌ نَتَجَتْ عَنِ اسْتِخْدَامِ الْأَوْلَادِ لِهَذِهِ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ وَخِدْمَاتِهَا؛ فَمِنْهَا:
تَشْوِيهُ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ النَّقِيَّةِ؛ فَقَدْ بِتْنَا نَسْمَعُ مِنْ بَعْضِ الْأَبْنَاءِ أَفْكَارًا إِلْحَادِيَّةً، وَنَرَاهُمْ يُمَارِسُونَ أَعْمَالًا شِرْكِيَّةً، شَاهَدُوهَا أَوْ سَمِعُوهَا عَبْرَ الْأَجْهِزَةِ الْكَفِّيَّةِ؛ فَغَدَوْا يُحَاكُونَهَا وَيُمَارِسُونَهَا وَاقِعًا؛ وَلِهَذَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُدْرِكَ عَظَمَةَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى مِنْ لُقْمَانَ لِابْنِهِ حِينَمَا قَالَ لَهُ: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لُقْمَانَ: 13]، وَنُدْرِكُ أَيْضًا مَدَى أَثَرِ قَوْلِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَكَيْفَ سَيَتَرَبَّى الْوَلَدُ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ وَهُنَاكَ أَفْكَارٌ مَسْمُومَةٌ تُزَاحِمُ تِلْكَ التَّرْبِيَةَ، يَتَلَقَّاهَا عَبْرَ الْأَجْهِزَةِ الْكَفِّيَّةِ؟!
وَمِنْ أَضْرَارِ اسْتِخْدَامِ الْأَبْنَاءِ لِلْأَجْهِزَةِ الْكَفِّيَّةِ: الْأَضْرَارُ الْأَخْلَاقِيَّةُ وَالسُّلُوكِيَّةُ؛ فَإِنَّ الْأَوْلَادَ إِذَا دَخَلُوا الْفَضَاءَ الْمَفْتُوحَ عَبْرَ أَجْهِزَتِهِمُ الذَّكِيَّةِ وَجَدُوا الدَّعْوَةَ إِلَى الْفَحْشَاءِ، وَالتَّشْجِيعَ عَلَى الْعُقُوقِ، وَالْحَثَّ عَلَى الْجَرِيمَةِ، وَتَصْوِيرَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ عَلَى أَنَّهَا أَعْمَالٌ بُطُولِيَّةٌ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْحَرِفُ سُلُوكُ الطِّفْلِ وَيَسُوءُ خُلُقُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُخْتَصِّينَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْعُنْفِ وَالْعُدْوَانِ لَدَى الْأَبْنَاءِ اسْتِخْدَامَ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ اسْتِخْدَامًا خَاطِئًا.
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ -تَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِاعْتِزَالِ مَجَالِسِ الشَّرِّ حَتَّى تَخْلُوَ مِنَ الشَّرِّ؛ فَإِنَّ الِابْنَ أَحْرَى بِأَنْ يُعْزَلَ عَنْ إِدْمَانِ الْعَلَاقَةِ مَعَ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 68].
وَمِنْ أَضْرَارِ اسْتِخْدَامِ الْأَوْلَادِ لِلْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ: الْأَضْرَارُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ فِي زَمَنِ مَا قَبْلَ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ أَصْفَى عَقْلًا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَقْدَرَ عَلَى اكْتِسَابِ الْمَهَارَاتِ وَحِفْظِ الْمَعْلُومَاتِ، حَتَّى شَاعَ بِأَنَّ "الْحِفْظَ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ عَلَى الْحَجَرِ"؛ فَإِنَّ الطِّفْلَ فِي عَصْرِ الْأَجْهِزَةِ الْكَفِّيَّةِ قَدْ تَغَيَّرَ حَالُهُ؛ فَلَقَدْ تَوَصَّلَتْ بَعْضُ الْأَبْحَاثِ الطِّبِّيَّةِ الْيَوْمَ إِلَى أَنَّ إِدْمَانَ الْأَوْلَادِ التَّعَامُلَ مَعَ هَذِهِ الْأَجْهِزَةِ الْعَصْرِيَّةِ يُؤَثِّرُ عَلَى قَابِلِيَّةِ التَّعَلُّمِ لَدَيْهِمْ، وَيُضْعِفُ قُوَّةَ الذَّاكِرَةِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى التَّرْكِيزِ. وَأَنَّ هَذِهِ الْأَجْهِزَةَ لَهَا دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي تَعْطِيلِ الدِّمَاغِ فِي الْبَحْثِ عَنْ إِجَابَاتِ الْمَسَائِلِ؛ لِوُجُودِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ.
فَيَا حَسْرَةَ الْغَيَارَى مِنَّا عَلَى أَوْلَادِنَا الَّذِينَ تَكَدَّرَ نَقَاءُ طُفُولَتِهِمْ، وَانْطَفَأَتْ يَقَظَةُ مَلَكَاتِهِمْ تَحْتَ إِشْعَاعَاتِ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الْمَاضِي يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالصِّحَاحَ وَالسُّنَنَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا، فَكَيْفَ حَالُهُمُ الْيَوْمَ بَعْدَ أَنْ أَسَرَتْهُمْ هَذِهِ الْأَجْهِزَةُ:
لِمِثْلِ هَذَا يَذُوبُ الْقَلْبُ مِنْ أَسَفٍ *** إِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ إِسْلَامٌ وَإِيمَانُ
وَمِنْ أَضْرَارِ اسْتِخْدَامِ الْأَوْلَادِ لِلْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ: الْأَضْرَارُ الصِّحِّيَّةُ وَالنَّفْسِيَّةُ؛ وَمَنْ يَقْرَأْ نَتَائِجَ الدِّرَاسَاتِ وَالْأَبْحَاثِ الصِّحِّيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ الَّتِي تَتَحَدَّثُ عَنْ مَخَاطِرِ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ عَلَى الْأَوْلَادِ؛ يَقِفْ مَذْهُولًا مِنْ حَجْمِ تِلْكَ الْأَضْرَارِ وَعِظَمِ أَثَرِهَا.
فَلَقَدْ تَحَدَّثَ أَهْلُ الِاخْتِصَاصِ بِأَنَّ الْأَوْلَادَ الَّذِينَ يَسْتَخْدِمُونَ الْأَجْهِزَةَ الذَّكِيَّةَ لِسَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ يُمْكِنُ إِصَابَتُهُمْ بِأَوْرَامٍ سَرَطَانِيَّةٍ، وَأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ الْمُفْرِطَ لَهَا قَدْ يُسَبِّبُ تَأَخُّرَ النُّطْقِ لَدَى الطِّفْلِ، وَيُؤَدِّي إِلَى مُشْكِلَاتٍ فِي النَّظَرِ وَأَلَمِ الرَّقَبَةِ وَالصُّدَاعِ الْمُسْتَمِرِّ، وَيَزْرَعُ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ الْخَوْفَ وَالْقَلَقَ، وَحُبَّ الْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ، وَيُصِيبُهُمْ بِأَمْرَاضٍ نَفْسِيَّةٍ، وَيُؤَدِّي بِآخَرِينَ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْحَيَاةِ بِالِانْتِحَارِ.
وَهَذِهِ النَّتَائِجُ لَمَسْنَاهَا فِي وَاقِعِنَا الْيَوْمَ، فَكَمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ صَارَا يَعَضَّانِ أَصَابِعَ النَّدَمِ يَوْمَ أَنْ رَأَيَا بَعْضَ أَطْفَالِهِمَا أُصِيبُوا بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَمْرَاضِ بَعْدَ أَنْ كَانَا يُلَبِّيَانِ رَغْبَتَهُ فِي إِعْطَائِهِ الْأَجْهِزَةَ الذَّكِيَّةَ وَإِبْقَائِهِ مَعَهُ السَّاعَاتِ الطِّوَالَ.
وَهَذِهِ قِصَّةٌ لَمَسْتُهَا فِي الْوَاقِعِ لِطِفْلٍ كَانَ أَبَوَاهُ حَرِيصِينَ عَلَى إِعْطَائِهِ الْأَجْهِزَةَ وَهُوَ مَازَالَ فِي عَامِهِ الْأَوَّلِ، وَيَسْعَدَانِ بِلَهْوِهِ بِتِلْكَ الْأَجْهِزَةِ لِكَوْنِهِ الِابْنَ الْأَوَّلَ لَهُمَا، وَكُلَّمَا نَزَعَاهُ مِنْهُ أَجْهَشَ بَاكِيًا، فَيَرِقَّانِ لَهُ ثُمَّ يَرُدَّانِ مَا أَخَذَا مِنْهُ، فَيَعُودُ إِلَى قَضَاءِ وَقْتِهِ مَعَ تِلْكَ الْأَجْهِزَةِ عِدَّةَ سَاعَاتٍ فِي الْيَوْمِ، وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ حَتَّى أُصِيبَ ذَلِكَ الطِّفْلُ بِمَرَضِ التَّوَحُّدِ، وَهُوَ الْيَوْمَ ابْنُ ثَمَانِي سَنَوَاتٍ قَدْ ذَاقَ مِنْهُ أَبَوَاهُ الْوَيْلَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الْمَرَضِ الْخَطِيرِ؛ فَهَلْ مِنْ مُعْتَبِرٍ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ يُغَلِّبُ جَانِبَ الْعَقْلِ وَالْحَزْمِ عَلَى الْعَاطِفَةِ، فَيَمْنَعُ أَوْلَادَهُ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَوْ صَرَخُوا بَاكِينَ، وَبَقُوا عَلَيْهِ سَاخِطِينَ؟
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَنَا عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ لِأَوْلَادِنَا، وَإِبْعَادِ الشَّرِّ عَنْهُمْ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: رَغْمَ أَنَّ اسْتِخْدَامَ الْأَوْلَادِ لِلْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ لَهُ أَضْرَارٌ كَثِيرَةٌ عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ مَنَافِعَ يُمْكِنُ أَنْ يُحَصِّلُوهَا مِنْ تِلْكَ الْأَجْهِزَةِ؛ فَقَدْ تُقَدِّمُ مَعْلُومَاتٍ وَأَفْكَارًا تَنِمِّي مَوَاهِبَهُمْ، وَتُوَسِّعُ مَدَارِكَهُمْ، وَتَفْتَحُ لَهُمْ آفَاقًا جَدِيدَةً عَنِ الْوَاقِعِ الَّذِي يَعِيشُونَهُ؛ وَيُمْكِنُ لِلْآبَاءِ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِهَذِهِ الْأَجْهِزَةِ فِي مُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ تَرْبِيَةً نَاجِحَةً؛ فَفِيهَا بَرَامِجُ وَفِقْرَاتٌ مَسْمُوعَةٌ وَمُشَاهَدَةٌ يُمْكِنُ مِنْ خِلَالِهَا تَعْلِيمُ الْأَوْلَادِ وَتَرْبِيَتُهُمْ عَلَى مَا هُوَ صَالِحٌ وَنَافِعٌ.
وَعَبْرَ تِلْكَ الْأَجْهِزَةِ يَتَمَكَّنُ الْأَوْلَادُ مِنْ مَعْرِفَةِ أَقَارِبِهِمُ الْبَعِيدِينَ عَنْهُمْ، وَتَحْسِينِ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بَيْنَهُمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ مِنْ خِلَالِ ذَلِكَ التَّوَاصُلِ صِلَةَ الرَّحِمِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَنْهَا: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)[الرَّعْدِ: 21]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ: غَيْرَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَنَافِعِ لَا تَأْتِي إِلَّا عَبْرَ تَقْنِينٍ أُسَرِيٍّ دَقِيقٍ وَضَوَابِطَ سَلِيمَةٍ لِلِاسْتِخْدَامِ الصَّحِيحِ لِتِلْكَ الْأَجْهِزَةِ، وَإِلَّا أَوْقَعَتْ فِي الْمَضَارِّ الَّتِي أَسْلَفْنَا الْحَدِيثَ عَنْهَا؛ فَمِنْ تِلْكَ الضَّوَابِطِ: مُرَاعَاةُ سِنِّ الْأَوْلَادِ؛ فَالرُّضَّعُ حَتَّى سَنِّ (18) شَهْرًا مِنَ الْعُمْرِ؛ يَنْصَحُ أَهْلُ الِاخْتِصَاصِ بِإِبْعَادِهِمْ مُطْلَقًا عَنْ تِلْكَ الْأَجْهِزَةِ، وَمِنْ مَرْحَلَةِ مَا قَبْلَ الْمَدْرَسَةِ لَا يَزِيدُ وَقْتُ مُتَابَعَةِ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ عَنْ سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ مَعَ وُجُودِ أَحَدِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ مَعَهُمْ، وَمِنْ عُمْرِ خَمْسِ سَنَوَاتٍ إِلَى (18) سَنَةً مِنَ الْعُمْرِ يَجِبُ وَضْعُ حَدٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَتَجَاوَزُ سَاعَتَيْنِ يَوْمِيًّا.
وَمِنْ تِلْكَ الضَّوَابِطِ: اخْتِيَارُ الْمُحْتَوَى؛ إِذْ يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ النَّظَرُ فِي مُحْتَوَى تِلْكَ الْأَجْهِزَةِ قَبْلَ اسْتِخْدَامِ الْأَوْلَادِ لَهَا؛ فَالْمُحْتَوَى الضَّارُّ دِينِيًّا وَصِحِّيًّا وَعِلْمِيًّا يَجِبُ تَنْحِيَتُهُ عَنْهُمْ، مَعَ الْمُتَابَعَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ لَهُمْ دُونَ إِشْعَارِهِمْ بِذَلِكَ.
وَمِنَ الضَّوَابِطِ أَيْضًا: تَحْدِيدُ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ يُتَّفَقُ عَلَيْهِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ ذَلِكَ فَوْضَى تُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ أَوْقَاتِ الْأَوْلَادِ الَّتِي يَحْتَاجُونَهَا فِي حِفْظِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَمُذَاكَرَتِهِمْ وَنَشَاطَاتِهِمُ الطُّفُولِيَّةِ الْبَرِيئَةِ.
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي أَوْلَادِكُمْ، وَحَافِظُوا عَلَى تَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً، وَجَنِّبُوهُمْ إِدْمَانَ الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ، وَأَحْسِنُوا تَوْجِيهَهُمْ إِلَى الِاسْتِعْمَالِ الْحَسَنِ الَّذِي لَا يَضُرُّهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَذْهَانِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَهَذِهِ التَّرْبِيَةُ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ، يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَدَاؤُهَا؛ قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النِّسَاءِ: 58].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَوْلَادَنَا وَاجْعَلْهُمْ قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَنَا، وَاجْعَلْ تِلْكَ الْأَجْهِزَةَ نَافِعَةً لَهُمْ غَيْرَ ضَارَّةٍ.
اللَّهُمَّ وَأَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ اللَّه يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات