الثقة بنصر الله والوصية بالصبر والاحتساب

الشيخ يعقوب شبانة

2023-11-13 - 1445/04/29
عناصر الخطبة
1/بركة المسجد الأقصى وما حوله وبركة ساكني فلسطين 2/وجوب الثقة في الله تعالى 3/ابتلاء الله تعالى تمحيص ورفعة للصابرين المحتسبين 4/الحث على الصبر والاحتساب والرباط 5/الدعوة لنصرة المسلمين المستضعفين

اقتباس

اعلموا أن الإسلام وأهله مرُّوا بكروب شديدة، ومحن كثيرة عظيمة، خرجوا منها أقوى صفًّا، وأصلب عودًا، وأعزَّ اللهُ الإسلامَ، وليس بغائبٍ عنكم فتنةُ وابتلاء المغول، الذين أرادوا محو الإسلام عن الأرض، واستئصال شأفة المسلمين، ولكن الصادقين من هذه الأمة أوقفوا زحفهم...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الْمَلِكِ الحقِّ المبينِ، والعاقبةُ للمتقينَ، وعَد عبادَه المتقينَ بالعزِّ والتمكينِ، فقال عزَّ مِنْ قائلٍ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[النُّورِ: 55-56].

 

وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، خصَّنا بخير نبي أُرسِلَ، وبأعظم كتاب أُنزِلَ، وبخيرِ وأعظمِ دينٍ شُرِعَ؛ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[الْمَائِدَةِ: 3]، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصَح الأمةَ، وتركها على المحجة البيضاء، على الطريقة الواضحة الغرَّاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتنكَّبُها إلا متنكبٌ مصيره النار، والعياذ بالله.

 

اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على هذا النبي، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واتبع هداه إلى يوم الدين.

 

أيها المبارَكون، يا عمار مسجدنا الأقصى المبارَك: أقول: "أيها المباركون"؛ لأنكم تعيشون على هذه الأرض التي بارَك اللهُ مسجدها الأقصى، وبارك ما حوله، شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الْإِسْرَاءِ: 1]؛ فمن شرب من ماء هذه الأرض، وعاش على ظهرها، فهو مبارَك تمامًا، كالمسجد الأقصى، الذي هو مسجد إسلامي خالص للمسلمين إلى يوم الدين، بقرار رب العالمين.

 

عبادَ اللهِ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلمًا ومُرشِدًا الأمة، ومُبيِّنًا لها طريق الفلَاح والنجاح، وطريق الفوز في الدارين؛ الدنيا والآخرة، وأن تكون ثقتهم بالله -تعالى-، قال: "إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصُّحُف".

 

أيها المؤمنون: خلَق اللهُ -سبحانه وتعالى- الخلقَ لعبادته؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذَّارِيَاتِ: 56]، وجعَل لهم الدنيا دارَ ابتلاء واختبار؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملًا، وقلَّب أحوالَهم بين الخير والشر، والْمَنشَط والمكره، والضرَّاء والسرَّاء، والعُسْر واليسر، فقال سبحانه: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آلِ عِمْرَانَ: 140]، وأخبرهم -سبحانه- أنَّه لا يكشف الكروب إلا هو، فقال عز من قائل: (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[النَّمْلِ: 62]، نعم؛ (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[النَّمْلِ: 62]، سنة الله، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلا، ولن تجد لسُنَّة الله تحويلا؛ فلذلك أيها المؤمنون: مهما أصاب المؤمن من ابتلاء فلا تلين له قناة، ولا يضعف ولا يستكين، بل يقابل تلك الخطوب بالصبر والثبات؛ لإيمانه أن الله -تعالى- سيجعل بعد العُسْر يُسِرًّا، وبتصديقه لقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطَّلَاقِ: 2-3]، مقتديا في ذلك بالرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأطهار الأبرار -رضوان الله عليهم-، فقد مرَّت بهم كروب وشدائد، لا تتحملها الجبال الرواسي، وابتلوا ابتلاء شديدًا، وزلزلوا، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وذلك حتى يعلم الله الصادق من الكاذب، ومن ذلك ما حدَث في غزوة الأحزاب، حينما اجتمع المشركون بكامل قوتهم، وأحاطوا بالمدينة كي يكسروا شوكة المسلمين، واشتد الأمر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأصابهم الخوف والجوع، حتى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج مع صحابته لحفر الخندق وهو واضع على بطنه حجرا؛ من شدة الجوع، قال تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)[الْأَحْزَابِ: 10-11]، ولكن الله -تعالى- تداركهم برحمته، وأرسل على المشركين ريحا قويَّة، أزالت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وقلبت قدورهم، وألقت الرعب في قلوبهم، قال تعالى: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)[الْأَحْزَابِ: 25].

 

نعم؛ لقد وعدَنا مولانا -سبحانه وتعالى- السعة بعد الضيق، والعافية بعد البلاء، والرخاء بعد الشدة، واليسر بعد العُسْر، فقال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشَّرْحِ: 5-6]، قال الشاعر:

ضَاقَتْ فلمَّا استحكمَتْ حلقاتُها *** فُرِجَتْ وَكنتُ أظُنُّها لا تُفْرَجُ

وقال آخر:

صبرًا جميلًا، ما أقربَ الفَرَجَا *** مَنْ راقَبَ اللهَ فِي الأمرِ نَجَا

مَنْ صدَّق اللهَ لم يَنَلْهُ أذًى *** وَمَنْ رَجَاهُ يَكُون حَيثُ رَجَا

 

فيا أيها المسلمون: اصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، واعلموا الله ناصر دينه، ولو بعد حين؛ (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الْمُجَادَلَةِ: 21].

 

واعلموا أن الإسلام وأهله مرُّوا بكروب شديدة، ومحن كثيرة عظيمة، خرجوا منها أقوى صفًّا، وأصلب عودًا، وأعزَّ اللهُ الإسلامَ، وليس بغائبٍ عنكم فتنةُ وابتلاء المغول، الذين أرادوا محو الإسلام عن الأرض، واستئصال شأفة المسلمين، ولكن الصادقين من هذه الأمة أوقفوا زحفهم في عين جالوت، وكان الانتصار الساحق، للقائدين الربانين، قطز وبيبرس -رحمها الله-، وليس بخافٍ عنكم أن الفرنجة الصليبيين قد احتلوا هذه البلاد ما يزيد على تسعين عامًا، وعاثوا فيها فسادًا، ثم كان الخسران عاقبتهم، والطرد مصيرهم، فأبشروا أيها المسلمون، وأملوا ما يسركم، واذكروا ربكم واستغفروه، واعلموا أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيا فوز المستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه، الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، وأُصلِّي وأُسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمينَ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، يا يسلمه ولا يخذله"، إن أخطر ما تعانيه الأمة في هذه الأيام، وفي غيرها، في كافَّة النواحي، أقصد نواحي حياتها الخذلان، فهناك الخذلان الاقتصادي، والخذلان الاجتماعيّ، والخذلان السياسيّ، وهذا الخذلان واضح للعيان، ولا يتسع المجال لتفصيل القول فيه، وبيانه، فثقوا في الله وآمنوا به، وتفاءلوا بالخير تجدوه، واصنعوا الحياة من حولكم بالتفاؤل، ولا تكونوا معولَ هدم، ولا سببًا في تقنيط الناس من رحمة الله -سبحانه وتعالى-، وابذلوا الخير والأمل، واعملوا على تآلُف القلوب، واجتماع الصفوف، فمن يدري ربما كان خَلْفَ هذه المحنةِ والابتلاءِ بابٌ إلى الخير مجهولٌ، قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 216]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)[يُونُسَ: 81]، فقد مرت بالأمة أزمات وفتن، دفعها الله عنها، وحفظها من كل سوء، ثقوا بالله، وأنزلوا حاجتكم به.

 

وأخيرًا يقول الله -عز وجل-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 186].

 

اللهمَّ أصلح أحوالنا، وعجِّلْ بقيام دولتنا، وفرِّجْ عَنَّا ما نحن فيه، أقول قُولِي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأنتَ يا مُقيمَ الصلاة أَقِمِ الصلاةَ.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life