عناصر الخطبة
1/ نهج البساطة في حياة النبي الكريم 2/ معنى التكلف 3/ الهدي النبوي الخالي من التكلف في الدعوة 4/ نهج السلف الصالح في عدم التكلف 5/ من مظاهر التكلف في حياتنااهداف الخطبة
اقتباس
غير أن واقع الناس اليوم يصادم الفطرة الإنسانية في كثير من مظاهره، ويتعارض مع نصوص الشرع؛ وذلك بما جلبه الناس وأدخلوه على أنفسهم من مظاهر التكلف التي باتت حياة الكثيرين تئنّ منها، وتغصّ بها، وبدا التكلف ظاهرة بينة، ولها ..
أما بعد: إن الله -تعالى- بعث نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالحنيفية السمحة كما ثبت ذلك بالسنة، وما خُيّر -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
غير أن واقع الناس اليوم يصادم الفطرة الإنسانية في كثير من مظاهره، ويتعارض مع نصوص الشرع؛ وذلك بما جلبه الناس وأدخلوه على أنفسهم من مظاهر التكلف التي باتت حياة الكثيرين تئنّ منها، وتغصّ بها، وبدا التكلف ظاهرة بينة، ولها بعدٌ لا ينفك عن كثير من ممارساتنا اليومية.
التكلف -عباد الله- هو ما يفعله الإنسان تجشماً على مشقةٍ وعسرة، وهو مذموم شرعاً، وما دُوِّن في كتب السنة والسيرة من وصفٍ حيٍ لتفاصيل حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- يبرز نهج البساطة والسماحة وعدم التكلف في تعاطيه لشؤون الحياة، بل حتى وهو يعرض دين الله -تعالى- على الناس، ويدعوهم إليه.
وقد نقل عنه -صلى الله عليه وسلم- هديه في كل مراحل الدعوة المكية والمدنية خالياً من التكلف قولاً وعملاً: ذم الثرثارين، والمتفيهقين، وذم التنطع، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ونهى أن يسلك معه في توقيره وإطرائه مبالغات الأعاجم، ولم يكن يتميز عن أصحابه بلباس، أو شارة، وكان طبعه أن يشارك أهل بيته أعمالهم، ويشاركَ أصحابه نشاطاتهم.
وقد أقرّه مولاه -سبحانه- على هذه الكيفية في تعامله مع الناس في كافة نواحي الحياة، في قوله -تعالى-: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص:86].
إن في الآية الكريمة تأكيداً لـ(أن ماجاء به من الدين لا تكلف فيه، أي: لا مشقة في تكاليفه، وهو معنى سماحة الإسلام، وهذا استرواح مبني على أن من حكمة الله أن يجعل بين طبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين روح شريعته تناسباً، ليكون إقباله على تنفيذ شرعه جميعاً بأثقاله، لأن ذلك أنفى للحرج عنه في القيام بتنفيذ ما أًمر به).
ومنه يفهم أن ما يسلكه البعض من تحميل أنفسهم، وإحراج آخرين معهم من ممارسات تضاد بساطة الإسلام، وشفافيته، وفطريته، إنما هو مخالفة، ولو زعم أصحابه الحق، وظنوا أنهم مصيبون.
ومنطوق الآية السابقة ومفهومها يؤكدان هذا الحكم؛ فالمنطوق يقرر نفي التكلف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان التكلف ديناً، أو خلقاً جميلاً، لكساه الله -تعالى- نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم-، أما حين نفاه عن الرسول، فدل ذلك -مفهوماً- على أن الشرع والحق في ترك التكلف.
معشر المؤمنين: المتتبع لأحوال الصحابة -رضي الله عنهم-، سواء في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- أم بعد مماته، يدرك جلياً عدم تكلفهم في كافة مناحي الحياة.
ولقد مضى التابعون، ومن بعدهم من العلماء يحذرون الناس من التكلف، وأنه ينافي روح الإسلام، ونصاعته، ويسره، حتى جاء القرن السادس الهجري، فصنف ابن الجوزي رحمه الله -تعالى- كتاب"تلبيسُ إبليس" أورد فيه صوراً عدة من التكلفات التي أدخلها الناس على أنفسهم.
ومما ذكر: تلبيس الشيطان على القراء، واشتغال بعضهم بالقراءات الشاذة وتحصيلها، في الوقت الذي ينشغل فيه عن تحصيل الفرائض والواجبات.
كما أنكر -رحمه الله تعالى- على قوم أكثروا سماع الحديث، ولم يكن مقصودهم صحيحاً، بل هدفهم معرفة العوالي والغرائب، ومقصدهم المباهاة، أو طلب الرئاسة.
وحين يتحدث -رحمه الله تعالى- عن تكلفات الصوفية، يورد العجب مما أوقعوا فيه أنفسهم مما يتصادم صراحة مع قول الله -تعالى- مثنياً على نبيه، ومجلياً طبيعة رسالته سماحةً وسهولة: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف:157].
أيها المسلمون: وللأسف الشديد؛ فليس التكلف قاصراً على النخب العلمية والزهاد والعباد والمتصوفة، بل له تداعيات وانعكاسات تمتد لتصل إلى العوام من الناس، فتتسع دائرته لتغرق المجتمع في مستنقعات التكلف.
ولا شك حينئذ أنه سيلوث الفطرة، مما يؤثر سلباً في الاستجابة لنداءات الحق وحب الفضيلة.
اللهم أهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم المنان، ذي الجلال والإكرام، والمواهب العظام، رضي الإسلام لنا ديناً، خالياً من الأغلال والآصار، ومحمداً -صلى الله عليه وسلم- رسولاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال عن نفسه: "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".
ثم أما بعد: فلئن كانت مظاهر التكلف في القرون الماضية بدا منها نماذج متعددة ومختلفة، وسطر التاريخ شيئاً من ذلك، إلا أن العلماء وفقهاء الإسلام وقفوا لها بالمرصاد خوفاً من أن تنال نصاعة الإسلام وروحه بسوء، فهي الآن في عصرنا الحاضر أخذت أبعاداً أعمق، وفي نواحٍ من الحياة أكثر، نلمس ذلك ونشاهده في حياتنا اليومية، حيث ألقت بظلها الثقيل على حياة الناس ومعاملاتهم.
ومن ذلكم: التأخر في النوم ليلاً بحجة حضور دعوة عشاء تأخراً قد يصل إلى ثلاث ساعات أو أكثر بعد أذان العشاء، ومن المشاهد والمعلوم أن ذلك سيكون على حساب القيام لصلاة الليل، بل أحياناً يمنع من صلاة الفجر مع الجماعة، وربما صلاها البعض بعد خروج وقتها.
وكان الأولى والأفضل أن يجيب الدعوة، لكن لا يسترسل في المكث طويلاً، سواء قبل العشاء أم بعده.
ومن مظاهر التكلف، التكلف في أداء العمرة في رمضان، وخاصة ممن يكون ملتزماً بعمل، تعطيله يؤثر على آخرين، أو ربما اقترض مالاً من أجل عمرة في رمضان، وأبعد عن الحكمة مَن يسأل الناس مالاً لغرض أداء عمرة في رمضان.
عباد الله: الهدية نالها ما نالها من التكلف، وإن كانت هي في الأصل مشروعة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تهادوا تحابوا"، وقال: "تهادوا تزدادوا حباً".
لكن التكلف فيها إلى درجة أن تصبح عبئاً ثقيلاً، وهماً يقلق المهدي، ويدعو إلى انبعاث الكراهية في نفسه لما يجده في الأثر المؤذي عقب الهدية بما كلفته من دفع أموال طائلة وجهد كبير، ووقت طويل، فبهذا النوع من التعامل يضعف أثرها، وتخرج عن الهدف المشروع لها.
ومن التكلف المذموم ما يجري في صلاة التراويح، ويتمثل في التشدد في الصلاة بمسجد الحي لسبب أو آخر، وربما استدل بعضهم بالحديث المروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليُصَلّ أحدكم في المسجد الذي يليه، ولا يتتبع المساجد".صحيح الجامع.
فهذا يتعين في حق من يتكلف التنقل إلى مساجد بعيدة بغية التذوق؛ لأن هذا الفعل ربما عطل مسجد الحي أو أضعفه؛ أما من يتعمد ذلك لما في المسجد البعيد من دواعي الخشوع، كأن يكون إمام ذلك المسجد ممن وهبه الله صوتاً مؤثراً، وتكامل خدمات المسجد، ونحو ذلك فتركه لمسجد الحي والصلاة في غيره لا بأس به، بل قد يتعين أحياناً.
ومن ذلك التكلف ما يقدم للضيوف من الطعام كماً ونوعاً، وحال الكثيرين ممن يفعلون ذلك إما تفاخراً، أو حذار مسبة، أو شرهٍ في نفس المضيف، فإذا تجاسر أحد وأبدى تحفظه أو اعتراضه أو نقده لهذا المسلك، أجاب: بأنه لن يضيع شيء من الطعام، وسيعطى للمحتاجين بعد فراغ الضيوف!.
لكننا نتساءل: لو لم يوجد محتاجون، هل يعني أن المضيف سيعتدل في تقديم الطعام لضيوفه، أو أن الأمر سيان، وُجد محتاجون أم لم يوجدوا؟!.
ومن مظاهر التكلف التي ابتلينا بها استعمال الهاتف في أمورِ ليست واجبة، وإنما يفرض ذلك نسيج التكلف الذي أحطنا به أنفسنا، أكثرها نحن في عافية منها.
منها في مناسبات الأعياد مكالمات تهنئة، ورسائل في الجوال تنهض بما قصرت عنه المكالمات، وقُل مثل ذلك عند دخول رمضان، وبداية العشر الأواخر منه، وليلة عيد الفطر، وعند دخول عشر ذي الحجة، وليلة عيد الأضحى، ونهاية العام، وعند وفاة شخص أو زواج آخر، أو حينما يرزق مولوداً أو ينال شهادة أو يحصل على وظيفة، أو الخروج من مستشفى، أو الوصول من سفر، ونحو ذلك من المناسبات الكثيرة، يجري كثير من المكالمات تكلفاً، وخوفاً من الملامة، أو طمعاً في قربة، وما شابهها.
وأما تكلفات النساء، فالحديث عنها ذو شجون، وأظنه من نافلة القول لا تقل عن الرجال، بل ربما فاقتها بكثير، يدفع إلى ذلك عوامل قد تشترك مع الرجال في بعضها، وتنفرد في بعض آخر.
والدوافع التي تنفرد بها المرأة أولها الميل الفطري إلى التجمل والتذوق، وثانيها غلبة العاطفة على العقل في كثير من تصرفاتها، وثالثها أنها مكفولة النفقة، فلا تشعر بثقل الأعباء المالية التي تورثها مظاهر التكلف، وما تجره على الزوج من معاناة.
ورابع تلك الدوافع أن المرأة إن كانت غير عاملة في وظيفة، طغى الفراغ عليها لينعكس في التلهي والتشاغل في الوقوف طويلاً أمام المرآة، وتكديس أدوات التجميل حولها، ثم استعمالها استعداداً لزيارة قريبة أو صديقة، وكذا إمضاء الأوقات الطويلة في التحضير لوجبة غذائية من نوع جديد.
أما حين تستلم سماعة الهاتف -ارسالاً واستقبالاً- فلا تعجب من هذا الوقت الذي تمضيه في المكالمة، حتى إنك لتلاحظ أنها كلما همّت بإنهاء المكالمة نشطت ثانية، وذلك بسبب أنها اجترت للتوِّ معلومات كانت نسيت إيرادها أولاً.
فاتقوا الله عباد الله، واعلم أيها المسلم أنك أيام كلما مضى يوم ذهب بعضك، وفقنا الله لما يحب ويرضى، وجنبنا مواطن الزلل، وسبل الغواية.
عباد الله: ومن مظاهر التكلف ما يجري في شأن الجنائز وأوجه التكلف فيها كثيرة؛ منها التكلف في تجهيز الجنازة، والصلاة عليها، ثم دفنها.
ويتمثل في فعل البعض حينما يموت لهم شخص في بلد غير بلده، يتكلفون في نقل جثمانه إلى بلده، وهذا يتطلب جهداً ومالاً ووقتاً، إضافة إلى إماتة السُّنَّة في سرعة تجهيز الميت والصلاة عليه ودفنه.
وأحياناً قد يكون الميت توفي في دولة أخرى إسلامية، فيتكلف أهله نقله إلى إجراءات نظامية تتعلق في إخراج تصريح في ذلك، ثم موافقة وزارة الخارجية، واجراءات الشحن جواً أو براً.
ومن ذلك المبالغة في دعوة الآخرين للصلاة على الجنازة، وإحاطة المساجد المجاورة الأخرى بذلك، بغية حضورهم، وتفاعل ذلك إلى درجة أن يحس البعض في التقصير لو لم يحضروا الصلاة على الجنازة.
وربما عمد بعض الناس إلى تعطيل عملٍ قائم، أو إخلاف موعدٍ سابق، لأجل حضور الجنازة؛ ولعله في تصرفه هذا قدم نفلاً على واجب في أحيانٍ كثيرة.
ومنها التكلف بالتعزية، فالأصل مشروعية التعزية، وهي من واجبات المسلم على أخيه، لكن ذلك مقيد بأن يكون وفق الشرع؛ لا يتكلف فيه الطرفان: المعزِّي والمعزَّى، فإن عزاه في المقبرة أو المسجد كفى، وأدى سنة التعزية، فلا ينشىء له سفراً، أو يتكلف في البحث عنه، فتلك من الآصار التي تَميّز دينُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بوضعها عن أتباعه.
ويتعلق بمسألة التعزية -إضافة إلى ما سبق- ما أحدثه البعض في الجلوس لها أياماً عدة، يصنع أهل الميت الطعام والمشروبات لمن يحضر للتعزية، ومعلوم أن السنة خلاف ذلك.
التعليقات