عناصر الخطبة
1/ معنى اسم الله تعالى (المتكبر) 2/ دلالات هذا الاسم من الأسماء الحسنى 3/ هلاك المتكبرين في الدنيا والآخرة 4/ من صور التكبر 5/ معاني صفة التواضع 6/ من تواضع النبي صلى الله عليه وسلماهداف الخطبة
اقتباس
والكبرياء صفة لله -تعالى- تدل على تعالي الله عن صفات خلقه، وتعَظُّمه -سبحانه- عن المماثلة، ورفعته -سبحانه- عن كل نقص وعيب، فهو المتكبر عن الشرِّ، وعن السوء، وعن الظلم؛ وهذا متضمن ثبوت الكمال له -سبحانه- في أسمائه وصفاته وأفعاله -جل وعلا-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله ..
أما بعد: فإن الله -عز وجل- وصف نفسه بأوصاف فقال: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الحشر:23].
فمن أسماء الله الحسنى التي سمى الله -تعالى- بها نفسه في هذه الآية المتكبر، قال قتادة: "هو الذي تكبَّر عن كلِّ سوء"، وقال مقاتل: "المتعظِّم عن كل سوء"، وقال أبو إسحاق السبيعي: "الذي تكبَّر عن ظلم عباده"، وقال ميمون بن مهران: "تكبَّر عن السوء والسيئات، فلا يصدر منه إلا الخيرات".
والكبرياء صفة لله -تعالى- تدل على تعالي الله عن صفات خلقه، وتعَظُّمه -سبحانه- عن المماثلة، ورفعته -سبحانه- عن كل نقص وعيب، فهو المتكبر عن الشرِّ، وعن السوء، وعن الظلم؛ وهذا متضمن ثبوت الكمال له -سبحانه- في أسمائه وصفاته وأفعاله -جل وعلا-.
وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلا-: "الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهُ أدخلته النَّار" رواه أحمد أبو داود وابن ماجه والبيهقي وغيرهم.
فالتكبر لا يليق إلا به -سبحانه-، لأنه وحده الملك وما سواه مملوك، وهو وحده الربُّ وما سواه مربوب، وهو وحده الخالق وما سواه مخلوق، فالله وحده المتفرد بصفات الكمال والجمال والعظمة والجلال، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع له ذلك في بعض صلاته في الركوع والسجود -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ" رواه أبو داود في سننه.
والمنزه عن النقائص الذي له الملك والتصرف والتدبير والعظمَة في أسمائه وصفاته وأفعاله هو وحده المتكبر لا شريك له، أما العبدُ المخلوقُ فمقامُه العبوديةُ والخضوعُ والذلُّ والانكسارُ، والركوعُ والسجودُ للكبير المتعال، العظيم ذي الجلال، ولعل في هذا سرًّا من أسرار ذكر الله بالتكبير عند الخفض للركوع والخفض للسجود.
وفي صحيح مسلم عن عَبْد اللهِ بْن عُمَرَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَطْوِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟".
عباد الله: إنَّ العبد إذا استكبر فقد تعرض لوعيد الله بالعقاب الشديد الذي قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]، أي: صاغرين ذليلين حقيرين، وقال -جلَّ وعلا-: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:72].
وإن إبليسَ لما تكبَّر عن طاعة ربِّه في السجود لآدم -عليه الصلاة والسلام- لعن وطرد من رحمة الله أبدًا، (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) [ص:73-78].
وفرعونَ لما طغى وتجبر، وتكبر عن قبول الحقِّ؛ أهلكه الله، وجعله عبرة لغيره، (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ *فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:39-40].
وقال -تعالى- فيهم: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [القصص:39-40].
وأهلكَ الله أممًا لما تكبرت على الحقِّ وتعالت على أنبياء الله ورسوله، فقال -تعالى- عن قوم نوح -عليه الصلاة والسلام-: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) [نوح:7]، فأغرقهم الله جميعًا، ونجى نوحًا -عليه الصلاة والسلام- ومن آمن معه.
وعادٌ قوم هودٍ -عليه الصلاة والسلام- قصَّ الله علينا استكبارهم فقال: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) [فصلت:15-16].
عباد الله: إن الكِبْرَ والتكَبُّر يدفع المرء لردِّ الحق وعدم قبوله، وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ"، بمعنى: ردُّ الحق، وعدم قبوله، وعدم الرضا به، وانتقاص الناس، والاستخفاف بهم، والسخرية منهم.
لذلك؛ فإن من العبارات التي تسمع من بعض الناس وتدل على تكبُّرٍ في نفس قائلها وإن لم يشعر: (مَن أنت حتى تعلِّمني؟!)، (لم يبق إلا فلان ينصحني؟!)، (أنا كذا وكذا وصفتي كذا، أتعلم من ذاك؟!)، (أنا فلان بن فلان يوجِّهني ذلك الـ...؟!).
ومن صور التكبر المنهي عنه أن يطيل ثيابه أو سراويله، وقد جاء في الصحيحين قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ" ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا".
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الكبر؛ فإن الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" رواه مسلم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه إذا كان الكبرُ صفةً ذميمةً ممقوتة، فإن التواضع صفةٌ جميلةٌ محبوبة.
وقد كان الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس تواضعًا، فكان -صلى الله عليه وسلم- يأكل مع الفقير، ويلبس المرقع من الثياب، و"إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ".
وتقول عائشة -رضي الله عنها- تصف تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته: "كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ".
وفي صحيح مسلم، من حديث عياض بن حمار -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ"
قال الشيخ ابن عثيمين -يرحمه الله-: وكان من عادة السلف رحمهم الله، أن الإنسان منهم يجعل من هو أصغر منه مثل ابنه، ومن هو أكبر مثل أبيه، ومن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى ما هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى من هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى من هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحد على أحد، وهذا من الأمور التي يجب على الإنسان أن يتصف بها، أي بالتواضع لله -عز وجل- ولإخوانه من المسلمين. اهـ.
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ"، قال ابن عثيمين -يرحمه الله-: والتواضع لله له معنيان: المعنى الأول: أن تتواضع لدين الله، فلا تترفع عن الدين، ولا تستكبر عنه وعن أداء أحكامه. والثاني: أن تتواضع لعباد الله من أجل الله، لا خوفًا منهم، ولا رجاءً لما عندهم؛ ولكن لله -عز وجل-.
والمعنيان صحيحان، فمَن تواضع لله، رفعه الله -عز وجل- في الدنيا وفي الآخرة، وهذا أمر مشاهَد أن الإنسان المتواضع يكون محل رفعة عند الناس وذكرٍ حسن، ويحبُّه الناس.
وانظر إلى تواضع الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو أشرف الخلق، حيث كانت الأمَة من إماء المدينة تأتي إليه، وتأخذ بيده، وتذهب به حيث شاءت ليعينها في حاجتها، هذا وهو أشرف الخلق، أمة من الإماء تأتي وتأخذ بيده تذهب به حيث شاءت ليقضي حاجتها، ولا يقول: أين تذهبين بي؟ أو يقول: اذهبي إلى غيري! بل كان -صلى الله عليه وسلم- يذهب معها ويقضي حاجتها، لكن؛ مع هذا، ما زاده الله -عز وجل- بذلك إلا عزًا ورفعة، صلوات الله وسلامه عليه.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب...
التعليقات