عناصر الخطبة
1/ آيات القرب في القرآن الكريم 2/القرب من الله ثمرة الإيمان 3/كيف نتقرب إلى الله؟ 4/وسائل القرب من الله 5/المؤمن بين الخوف والرجاء 6/مخاوف المؤمناهداف الخطبة
اقتباس
لا شك أن القرب من الله ثمرة الإيمان، آمنت به فتقربت إليه آمنت به فأطعته، آمنت به فبذلت من الأعمال الصالحة ما يعينك على الاتصال به، آمنت به فاتقيت أن تعصيه، آمنت به فتقربت إلى أحبابه. والسؤال الكبير بعد هذه المقدمة، كيف نتقرب إلى الله؟. لا شك أن هناك قواعد يستطيعها كل إنسان...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام: يقول الله -سبحانه وتعالى- في محكم تنزيله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [سورة الواقعة الآيات : 10-11], وقال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [سورة العلق الآية : 19], وقال تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) [ سورة النساء الآية : 172] وقال تعالى: (وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [سورة آل عمران الآية : 45], وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)[سورة المطففين الآيات : 18-21].
أرأيتم -أيها الإخوة- إلى كلمة (المقربين) في كل هذه الآيات, إنها درجة من درجات الإيمان، أن تكون مقرباً عند الله -عز وجل-، أن تتقرب إلى الله، وأن يقربك الله إليه، لابد من سعي حثيث منك أن تتقرب إليه، ولابد من أن يسمح لك من أن تقترب منه.
مقام القرب من الله -أيها الإخوة- من مقامات الإيمان، ولا معنى أن تؤمن بالله دون أن تتقرب إليه، لا معنى أن تقر بوحدانيته دون أن تتقرب إليه، لا معنى أن تقر بربوبيته دون أن تتقرب إليه، لا معنى أن تؤمن بأن هناك يوماً آخر يُحاسب فيه الإنسان عن أعماله كلها، ثم لا تتقي هذا اليوم.
أيها الإخوة الكرام: هذا الانفصام الخطير بين العقيدة والسلوك هو الآفة الكبرى التي يعاني منها المسلمون، الله -جل جلاله- في كتابه العزيز يلخص القرآن كله بكلمات: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [سورة الكهف الآية 110] إذا أيقنت بالتوحيد عليك أن تتحرك إلى القرب من الله -عز وجل-.
أيها الإخوة الكرام: جاء في الصحيحين وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّه عَنْه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" [أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد].
يعني أية حركة إلى الله، أي عمل صالح تعمله تبتغي القرب من الله، أية كلمة صادقة تلقيها تبتغي رضوان الله منها، أي موقف تبتعد عن المنكر فيه تبتغي رضوان الله، أي حركة نحو الله، تجد الله يرحب بك ويتجلى على قلبك، ويعفو عنك، ويشعرك أنه قبلك، هذا معنى قول الله -عز وجل- في الحديث القدسي: "وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا".
إذا دخلت بيتاً من بيوت الله، تطلب رحمة الله، ماذا فعلت أنت تتقرب إلى الله، لابد أن يشعرك الله من خلال هذا الحديث القدسي أنه قبلك، وغفر لك، وتجلى على قلبك. "وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
أيها الإخوة الكرام: أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يعينني على توضيح وسائل القرب من الله، لا شك أن القرب من الله ثمرة الإيمان، آمنت به فتقربت إليه آمنت به فأطعته، آمنت به فبذلت من الأعمال الصالحة ما يعينك على الاتصال به، آمنت به فاتقيت أن تعصيه، آمنت به فتقربت إلى أحبابه.
أيها الإخوة الكرام: السؤال الكبير بعد هذه المقدمة، كيف نتقرب إلى الله؟.
لا شك أن هناك قواعد يستطيعها كل إنسان، دين الله -عز وجل- واضح وضوح الشمس، قال -عليه الصلاة والسلام-: "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَـالِكٌ" [أخرجه ابن ماجه وأحمد].
هناك وسائل تملكها أنت، بإمكان كل مسلم أن يصل إلى الله -عز وجل- إذا اتبع هذه الوسائل، فأكبر وسيلة إلى التقرب إلى الله هي طاعته.
رأى سيدنا عمر -رضي الله عنه- سيدنا سعد بن أبي وقاص، وكان خال رسول الله، وكان -عليه الصلاة والسلام -يرحب به أشد الترحيب كان إذا دخل سعد على رسول الله يقول: "هذا خالي، أروني خالاً مثل خالي" [هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ورد بهذه الصيغة هذا خالي فليرني امرؤ خاله ]. ما فدى النبي صلى الله عليه وسلم أحداً إلا سعد بن أبي وقاص حينما قال: "ارم سعد ، فداك أبي وأمي" [ رواه الطبراني ].
ومع ذلك قال له سيدنا عمر: "يا سعد لا يغرَّنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له".
فالفقرة الأولى في هذه الخطبة : الوسيلة الأولى للتقرب إلى الله -عز وجل- أن تطيع ، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[ سورة الأحزاب الآية : 71] (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [ سورة آل عمران الآية : 132].
لو تتبعت آيات الطاعة, لوجدت أن القربة الأولى في سلم القربات هي طاعة الله -عز وجل-, لكن ينبغي أن تعلم ما أمر الله؟ وما نهيه؟ وما حلاله؟ وما حرامه, وما الحكم الشرعي في أي شيء؟.
هناك قاعدة أصولية تقول: "ما لا يُؤدى الواجب إلا به فهو واجب". أرأيت إلى الوضوء, أتستطيع أن تصلي بلا وضوء؟ الجواب: لا, إذاً الوضوء فرض, لا يُتوصل إلى الصلاة التي هي فرض إلا بالوضوء فالوضوء فرض.
فإذا كانت طاعة الله واجبة عليك -أيها المسلم-, من لوازم هذا الوجوب أن تتعرف إلى أمر الله وإلى نهيه, من هنا كان طلب العلم فرض عين على كل مسلم، كيف تطيعه؟ كيف تأتمر بما أمر؟ وكيف تنتهي عما عنه نهى وزجر, وكيف تحل الحلال, وكيف تحرم الحرام إن لم تعرف الأمر والنهي, والحلال والحرام, ليس طلب العلم وردة تضعها على صدرك, إنه قوام حياتك.
"ابن عمر دِينَك دينَك, إنه لحمك ودمك, خذ عن الذين استقاموا, ولا تأخذ عن الذين مالوا" [ ورد بالأثر ], "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينك".
قضية معرفة الحلال والحرام, ومعرفة الأمر والنهي, ومعرفة الحق والباطل, ومعرفة العقيدة الصحيحة, والعقيدة الزائغة فرض عين على كل مسلم.
لا تقل أنا مهندس لا علاقة لي بهذه العلوم, هذه أكذوبة الشيطان, إن كنت مهندساً, أو كنت طبيباً, أو كنت عاملاً, أو كنت صانعاً, أو كنت تاجراً, في أية حرفة كنت, طلب العلم, أو ما ينبغي أن يُعلم بالضرورة -كما يقول العلماء- فرض عين على كل مسلم.
ما معنى أن تؤمن به دون أن تطيعه؟ ما معنى أن تؤمن به دون أن تتقرب إليه؟ ما معنى أن تؤمن به دون أن تتصل به؟ إنه إيمان إبليسي - كما قال بعض العلماء- إبليس أقر قال: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة ص الآية: 82].
أيها الإخوة الكرام ؛ تكاد تكون طاعة الله هي أول قربة إلى الله على وجه الإطلاق؛ ولكن العلماء يصرون على أن هذه القربة, وهي الطاعة لا تصح ولا تؤتي أكلها في القرب من الله إلا إذا رافقتها حالتان, حالة الخوف وحالة الرجاء, وإليكم الأدلة, قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) [سورة الإسراء الآية: 57].
أيها الإخوة الكرام: الطائر إذا أدرك الخطر, وطار إلى عشه حيث الأمن يطير بجناحين, والمؤمن إذا خاف الخطر يفرُّ إلى الله يبتغي عنده الأمن والسلامة بجناحي الخوف والرجاء.
أيها الإخوة الكرام: ليس من العسير أن يشتد خوفك, ولا أن يزداد رجاؤك, ولكن البطولة أن تجمع بينهما, أن تخافه بالقدر الذي ترجوه, وأن ترجوه بالقدر الذي تخافه, قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [سورة السجدة الآية: 16], (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة الأعراف الآية: 56].
أيها الإخوة الكرام: دققوا في هذه الآيات الثلاث: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة المائدة الآية: 98], (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [سورة البقرة الآية: 235], (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [سورة الحجر الآيات: 49 – 50 ].
أرأيتم إلى هذا التوازن, ينبغي أن تؤمن برحمته, وأن تؤمن بعقابه ينبغي أن تؤمن بجنته, وأن تؤمن بناره, ينبغي أن تؤمن بعطائه, وأن تؤمن بعقابه.
ورد في الأثر القدسي أن: "يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ فقال: أحب العباد إلي تقي القلب نقي اليدين لا يمشي إلى أحد بسوء, أحبني, وأحب من أحبني, وحببني إلى خلقي, فقال: يا رب إنك تعلم أني أحبك, وأحب من يحبك فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي".
ذكرهم بآلائي من أجل أن يعظموني, وذكرهم بنعمائي من أجل أن يحبوني, وذكرهم ببلائي من أجل أن يرهبوني. لابد من أن يجتمع في قلب المؤمن تعظيم لله: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 28]:
ولابد من أن يكون في قلبه محبة لله عن طريق النظر في نعماء الله ولابد من أن يكون في قلبه خوف من الله.
أيها الإخوة الكرام: إذا قلنا: إن طاعة الله هي أول وسيلة للتقرب منه, هذه الطاعة لا تكون فعالة ولا مجدية إلا بجناحي الخوف والرجاء, وأرجو الله -سبحانه وتعالى- في سلسلة خطب آتية أن يتَّضِح مفهوم الخوف من الله, ومفهوم الرجاء في رحمته.
أيها الإخوة الكرام: سيدنا الصديق -رضي الله عنه- كما قال -عليه الصلاة والسلام -ـ مشيداً بفضله: "ما ساءني قط, فاعرفوا له ذلك", سيدنا الصديق -رضي الله عنه-, قال للفاروق عمر -رضي الله عنهما- عن الصديق وعن عمر: "ألم تر يا عمر إنما أُنزلت آية الرجاء مع آية الشدة, وآية الشدة مع آية الرجاء, ليكون المؤمن راغباً راهباً, لا يرغب رغبة يتمناها على الله وهي ليست له.
أرأيتم إلى أدب النبي -عليه الصلاة والسلام -حين يدعو الله فيقول: "اللهم إني أسألك موجبات رحمتك...". فليكن المؤمن راغباً راهباً, لا يرغب رغبة يتمناها على الله وهي ليست له, ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه إلى التهلكة. اليأس القاتل تطرف, وغلو, الرجاء الساذج تطرف وغلو, والتوازن والوسطية أن تجمع بين الرجاء والخوف.
ألم تر يا عمر إنما ذكر الله تعالى أهل النار بأسوأ أعمالهم, فإن ذكرتها قلت: "إني لأرجو أن لا أكون منهم, وإنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم, وتجاوز عما كان منها من سيئ, فإذا ذكرتها قلت: أين عملي من عملهم؟".
أرادك الله في الدنيا أن تنطلق إليه بجناحي الرجاء والخوف, فإذا ازداد الرجاء حجب المؤمن, وإذا ازداد الخوف تجلى الله على قلبه فرفع معنوياته, والإنسان يربيه الله -عز وجل- تربية نفسية, إذا كان راغباً راهباً, يرجو ويخشى, فهو في حالة صحية, أما إذا ازداد رجاؤه, وقلَّ عمله أدبه الله, وأما إذا ازداد خوفه حتى أوقعه في اليأس رفعه الله -عز وجل-.
روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه, قال تعالى: "وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين, إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة, وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة".
فكلما اشتد خوفك من الله في الدنيا كان هذا مدعاة لأمنك يوم القيامة يوم يفزع الناس, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [سورة الحج الآيات: 1-2].
يوم الفزع الأكبر, يوم ترجف الراجفة, هذا اليوم الشديد الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين, إذا كنت في الدنيا تحاسب نفسك حساباً عسيراً إذا كنت تخاف من ربك أشد الخوف, فأن في هذا اليوم آمن. "وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين, إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة, وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة".
أيها الإخوة الكرام: روى الإمام الترمذي عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ". إذا خفت تنطلق في السير ليلاً, علامة الخوف أن تتحرك بعض علماء النفس أشار إلى قانون ينتظم العلاقة بينك وبين المحيط الخارجي هذا القانون مؤلف من كلمات ثلاث: إدراك, انفعال, سلوك.
وأضرب على ذلك مثلاً: لو أن إنساناً كان يتنزه في غابة فرأى أفعى, إن أدرك أنها أفعى, وأن لسعتها قاتلة, يضطرب, علامة إدراكه الصحيح اضطرابه النفسي, وإذا اضطرب اضطراباً صحياً يتحرك إما إلى قتلها وإما إلى الهروب منها, فإذا أدركت اضطرب قلبك, وإذا اضطرب قلبك تحرك جسمك, إن لم تكن هناك حركة ليس هناك انفعال, وإذا ادُعي هذا الانفعال فهو ادعاء كاذب, وإن لم يكن هناك اضطراب فليس هناك إدراك, علامة الإدراك الصحيح الانفعال الحقيقي, علامة الانفعال الحقيقي التحرك, قال -عليه الصلاة والسلام -: "الندم توبة" [أخرجه ابن ماجه وأحمد]. وقد جاء كلامه موجز, بمعنى أن الندم لابد من أن يسبقه إدراك, ولابد من أن يعقبه عمل.
أركان التوبة؛ علم, وندم, وسلوك, وأنت إن صحَّ إدراكك, يخشع قلبك, وإن خشع قلبك تحركت إلى طاعة الله -عز وجل-, فلذلك هذا الإنسان المسلم عواطفه إسلامية, فكره إسلامي مطالعاته إسلامية, يتمنى للمسلمين في بقاع العالم أن ينتصروا, ولا يتحرك, ولا يلتزم, ولا يقف عند حدود الله, ولا يأتمر بما أمر الله ولا ينتهي عما نهى عنه الله, هذا المسلم يُشك في إسلامه, ويُشك في إيمانه, ويُشك في معرفته, لأن المعرفة الصحيحة لابد من أن يعقبها عمل.
أيها الإخوة الكرام: أرأيتم لو أن إنساناً قال لآخر: على كتفك عقرب, فهذا الذي خُوطب على كتفه عقرب التفت إلى القائل مبتسماً, وشكره على هذه الملاحظة القيمة, وتمنى أن يمكنه الله من أن يفعل معه فعلاً طيباً نظير هذه الملاحظة, هل توقنون أنه سمع ما قال له, لو أنه سمع ما قال, أو فهم ما معنى عقرب, لخرج من جلده خوفاً, ولذعر, ولنفضه عن كتفه أما أن يبقى هادئاً, ويثني على القائل, فهذا دليل أنه ما عرف الحقيقة, ولا استوعب, علامة الإدراك الانفعال, علامة الانفعال السلوك.
فلذلك -أيها الأخ الكريم- تبصر في سلوكك اليومي, ما لم يكن هناك انضباط, وائتمار, وانتهاء, وفعل للخير, وترك للشر, وفعل للطاعات، وترك للمعاصي, ما لم يكن هناك هذا السلوك فعليك أن تعيد النظر بإيمانك ؛ لأنه عندئذ لا يجدي. "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ". وروى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" [ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد ومالك].
كل هذه النماذج السبعة فيها حركة, ذكر الله ففاضت عيناه, تصدق بيمينه ولم تعلم شماله ما أنفقت يمينه, دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين, اجتمعت مع فلان على طاعة, فلما عصى الله تركته, اجتمعا عليه, وافترقا عليه, رجل قلبه معلق بالمساجد, شاب نشأ في طاعة الله, إمام عادل هؤلاء السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله, يوم لا ظل إلا ظله.
أيها الإخوة الكرام: الحقيقة التي ينبغي أن تكون واضحة لنا جميعاً هي أن المؤمن, وكل فقرة من هذه الفقرات عليها أدلة مطولة تأتي في خطب قادمة -إن شاء الله-.
المؤمن الحق يخاف أن يعصي الله -عز وجل-, ويخاف أن يرتكب ما نهى الله عنه, بل إن المؤمن الحق يخاف الصغائر ومحقرات الأعمال, وهذه من لوازم الإيمان, والمؤمن الحق يخاف من الرياء في عمله أو في مقاله أو في حاله, والمؤمن الحق يخاف النفاق على نفسه, والمؤمن الحق يخاف أن يكون مقصراً في عهده مع الله, والمؤمن الحق يخاف من عدم قبول العمل من قِبَل الله -عز وجل-, المؤمن الحق يخاف أن يزيغ قلبه عن الهدى بعد إذ هداه الله, والمؤمن الحق يخاف سوء العاقبة, والمؤمن الحق يخاف مناقشة الحساب, والمؤمن الحق يخاف من موقف السؤال عن كل الأعمال, والمؤمن الحق يخاف مقام رب العالمين.
كل هذه المخاوف التي تزيد عن عشرة عليها أدلة من الكتاب والسنة. المؤمن الحق يخاف أن يعصي الله, قال تعالى مخاطباً النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [ سورة الأنعام الآية: 15], والمؤمن الحق لا يصرُّ على الذنب, قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [ سورة آل عمران الآية: 135], والمؤمن الحق لا يصرُّ على ذنب ارتكبه, وقاف عند كتاب الله يرجع إلى الحق. "بل أتوب إلى الله يا رسول الله".
والمؤمن الحق كما قال -عليه الصلاة والسلام -: "ارحموا تُرحموا, واغفروا يُغفر لكم, ويل لأقماع القول, ويل للمصرين, الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون من هم أقماع القول؟ قال: هؤلاء الذين يستمعون إلى المواعظ ولا يتعظون, ويذكرون فلا يتذكرون" تهاوناً, أو تكاسلاً, أو تكبراً, أو استهزاءً. قال -عليه الصلاة والسلام -يصف المرابين وآكلي المال الحارم: "إِنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ" [ أخرجه أحمد والدرامي], وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من غصب رجلاً أرضاً ظلماً لقي الله وهو عليه غضبان" [ رواه الطبراني في الكبير], عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ" [ أخرجه أحمد]. (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[ سورة الأنعام الآية: 15].
الخطبة الثانية:
الحمد لله
علامة إيمانك الخوف الشديد من الله, وكلما ازداد إيمانك ازداد خوفك إذا كان هناك مؤشراً للخوف, ومؤشراً للإيمان, إن هذين المؤشرين يتحركان معك, أنت تخاف الله بقدر معرفتك له، إنما يخشى الله من عباده العلماء, وكلما أدركت الخطر ازداد خوفك, لذلك لا تعجب من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما يقول: "ليت أم عمر لم تلد عمر ليتها كانت عقيمة". لم يقل هذا تباهياً, ولا فخراً, ولا استعراضاً لإيمانه, ولكنه قالها عن خوف حقيقي.
الجراثيم في الجسم كيف أنهم يحتاطون ويبالغون في تنظيف الخضار والفواكه؟ ازداد علمهم في فعل الجراثيم, وفي آثار التلوث, فازداد حرصهم على النظافة, أنت تخاف الله بقدر معرفتك له، ولو عرفت الله المعرفة الكاملة لخفت منه الخوف الأمثل, فإذا قلَّ خوفك يعني ذلك أن معرفتك قلت.
أيها الإخوة الكرام: أربع حق على الله ألاّ يدخلهم الجنة, وألاّ يذيقهم نعيمها ؛ مدمن خمر, وآكل الربا, وآكل مال اليتيم بغير حق, والعاق لوالديه.
روى الطبراني عن سهل بن سعد قال: "لما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حنين نزل قفراً من الأرض ليس فيها شيء -دققوا في هذه الطريقة في التعليم, هذه الطريقة العملية- نزل في أرض قفر ليس فيها شيء, فقال -عليه الصلاة والسلام -اجمعوا من وجد شيئاً فليأت به -اجمعوا كل شيء من هذه الأرض- من وجد عظماً أو سناً فليأت به, قال سهل: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاماً -عود, قشة, عظم, أي شيء, الصحابة جمعوا ركاماً خلال ساعة من هذه الأشياء, كومة كبيرة- فقال -عليه الصلاة السلام:- أترون هذا فكذلك تُجمع الذنوب على الرجل يوم القيامة, كما جمعتم فليتق الله رجل فلا يذنب ذنباً صغيراً ولا كبيراً فإنها محصاة عليه, وتلا قوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
أيها الإخوة الكرام: نحن في زمن هدنة, وإن السير بنا لسريع, وإن الدنيا دار ابتلاء وانقطاع, إنها دار عمل, إنها دار توبة, إنها دار تطهير, إنها دار الصلح مع الله, إنها دار الإقبال على الله, وكل هذه الأشياء بأيديكم ما دام القلب ينبض, وما دام في العمر فسحة, فبيدك أن تتوب, والله -سبحانه وتعالى- يحب التوابين, ويحب المتطهرين, وإذا رجع العبد إلى الله نادى مناد في السماوات والأرض أن هنؤوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.
اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, والحمد لله رب العالمين.
التعليقات