عناصر الخطبة
1/التدين فطرة في البشر 2/ارتكاب الدول الكبرى للإبادة في حق الشعوب الإسلامية بدافع الدين 3/غيرة الجمادات على انتهاك الإنسان لحرمات الله 4/أثر التدين على الفرد وبعض معاني التدين 5/المتدين غير معصوم عن الخطأ وبعض سمات التدين الحقيقي 6/التدين الصحيح هو السبيل الأمثل لتقويم الانحرافات 7/خطر ضعف التدين على المجتمعات والدول ودور الإعلام الفاسد في ذلك 8/الدين هو العلاج الناجع لمشكلات الأمة 9/الحث على غرس التدين في الناس وكيفية ذلكاهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: دينُ الإسلام، قدّم للمؤمنين سكينةَ النّفس، وطمأنينةَ القلب، حجَب عن المجتمع الانحرافَ والاضطراب، والتمزّقَ والضّياع، هيّأ السَّعادةَ والحضارة الزاكيَة الحقّة، كما تُسلَبُ الطمأنينة، ويضعُف الأمن، في انتزاع الإنسان نفسَه من الدّين، فـ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: التديُّن فِطرةٌ غرزَها الله في بني البَشر، ومِن خصائِص هذا الإنسانِ: أنّه بفطرتِه يميل إلى التديُّن، وقد كان الناس في أوّلِ الأمرِ على التوحيدِ قبلَ أن تزيِّن لهم الشياطين عبادةَ الطّواغيت، واتخاذَ الأصنام، فالدّين ضرورةٌ لحياةِ جميع النّاس، أياً كان هذا التدين حقاً كان أو باطلاً.
فليس هناك مجتمع على وجه الأرض ليس له ديناً يتخذه، وينطلق من خلاله، ويبني عليه تصرفاته، حتى الدول إنما تبني سياساتها الداخلية والخارجية على ما تدين به.
ومن هنا ينبغي أن نعلم: أن تصرفات جميع الدول إنما هي تصرفات دينية، فما تمارسه إسرائيل على سبيل المثال من إجرام ووحشية، وإبادة للشعب الفلسطيني، إنما منطلقها في ذلك منطلق ديني.
وما تمارسه أمريكا أيضاً من سياسات وتدخلات، بل وحروب إنما منطلقها أيضاً منطلق ديني في المقام الأول، كما صرح بذلك كبيرهم الذي علمهم السحر، بأن ما يقوم به إنما هي حرب صليبية.
ولا يمنع هذا من وجود مصالح أخرى، كأن تكون اقتصادية، ونحوها، بل ربما يجهل البعض بأن الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل منطلقه ديني أيضاً، وذلك؛ لأن طوائف النصارى تعتقد بعودة المسيح -عليه السلام- ليحكم الأرض، فمن هذا المنطلق كانت وما زالت الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بقوة، ضاربة بالأعراف الدولية، والجوانب الإنسانية، عرض الحائط، يكفيك أن تعرف أن إسرائيل حصلت على معونات اقتصادية وعسكرية بين عامي 82 - 89م ما يزيد على 24 مليار دولار، فكم هي الآن ؟
إذن، الدين صار هو الذي يحرك معظم الشعوب والدول، بغض النظر عن هذا الدين صحيحاً كان أم باطلاً.
والإسلام دينُ اللهِ الحقّ الذي رضيَه الله دينًا لعبادِه أجمعين.
عقيدتُه واضحة، يفهمه كل أحد، أوامره سهلة، لا يعجز عن تطبيقه أحد، رجلاً كان أو امرأة شاباً كان أو شيخاً، قال الله -تعالى-: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30].
ومن العجب: أن الكثير من المخلوقات -عدا ابن آدم- قد كمُلت في تدينها وعبوديتها لله -جل شأنه-، وخضوعها له، وذلِّها لقهره وربوبيته وألوهيته إلاّ بعض المخلوقات العاصية كالشياطين، وعصاة الجن، وبعض الدواب.
بل إن الله -جل وتعالى- قد أودع في بعض الجمادات من الغيرة على دينه، والتأذي من انتهاك ابن آدم لحرمات الله -سبحانه-، كما في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عليه بجنازة، فقال: "مستريحٌ ومستَراحٌ منه" فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح ؟ وما المستراح منه ؟ قال: "إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله -تعالى-، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب" [رواه البخاري].
انظروا كيف يتأذى الشجر والدواب من الرجل الفاجر، وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب وبعد عن الدين، وإعلانٍ لمعصية الله -تعالى-، والتي لا يقتصر شؤمُها على ابن آدم فحسب.
أيها المسلمون: وفي الوقتِ الذي تتزايد فيه الانحرافات والجرائمُ والأمراض النفسيّة، وتبرزُ مظاهر التطرّف والغلوّ، تأتي النصوصُ الشرعيّة، وتسندُها الدّراسات العلميّة، والخبرات العمليّة، لتؤكِّدَ أنّ الدينَ حصانةٌ للمجتمع، والمتديّن أكثرُ سعادةً، وأفضل صحّةً، واستقرارًا في حياتِه.
إنَّ الفردَ حين يتديَّن، ويتمسَّك بتعاليم دينِه، يسمو فيثبُت ولا يتزعزَع طاعةً لله، وطلبًا لمرضاته.
ومِن أبرز أمثلةِ التديُّن: سلوكُ سحرةِ فرعونَ بعد التزامهم بدين الله، لمّا آمنوا بموسى أُلقِيَ السحرةُ ساجدين، فقال لهم فرعون: (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 49 - 51].
إن هؤلاء بعد ما لامس الإيمان قلوبهم، تحملوا في سبيله كل شيء، وباعوا له الدنيا طمعًا في مغفرةِ الله، وما عند الله خيرٌ وأبقى.
وفي تاريخ أمّة محمّد -صلى الله عليه وسلم- يظهر أثرُ التديُّن جلِيًّا في سلوك الأفراد، فقد فشا في المجتمعِ قبلَ الإسلام الخمرُ والميسر، والظلمُ والنّهب، والتناحُرُ والحروب، فلمّا جاء الدينُ طهَّر قلوبَهم، وهذّب سلوكهم، وضرَبوا أروعَ الأمثلة في تزكيةِ النفس، والإيثار والكرَم، وصلةِ الرحم، ودفعِ الظلم، ونُصرة الضَّعيف، حتّى إنّ أحدَهم ليقدّم نفسَه للقتل جزاءَ ذنبٍ اقترفَه، ولم يكن يعلَم به بشر، هذا هو أثر التديُّن بالدّين الحقّ.
إنّ أيَّ حضارةٍ مِن الحضارات لن تجدَ هويّتها بين الأمم إذا كانت بلا معتقدٍ دينيّ، والذي يقرأ تاريخ الأممِ السابقة التي كانت بلا عقيدةٍ، يجدها قد اندثرت حضارتُها في مدّةٍ قصيرة ولم تستطع البقاءَ، وتحوّلت بفضلِ التديُّن بدين الإسلام قبائلُ السّلب والنهبِ، إلى دولةٍ ذات حضارة، يحكمها منهجٌ صالح لكلّ زمانٍ ومكان، قال الله -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97].
أيها المسلمون: دينُ الإسلام، قدّم للمؤمنين سكينةَ النّفس، وطمأنينةَ القلب، حجَب عن المجتمع الانحرافَ والاضطراب، والتمزّقَ والضّياع، هيّأ السَّعادةَ والحضارة الزاكيَة الحقّة، كما تُسلَبُ الطمأنينة ويضعُف الأمن في انتزاع الإنسان نفسَه من الدّين، فالدّين شفاءُ الصّدر وتِرياقٌ لأمراض القلَق والحَيرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذاق طعمَ الإيمان من رضيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّد رسولاً" [رواه مسلم].
ومهمَا زادَت مخترعاتُ الحضارةِ والمترَفات الصناعيّة، فسيبقى النّاس في حاجةٍ إلى الدّين والتديّن، فالناسُ فقراءُ إلى خالقِهم وبارئهم، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15].
لكن ما معنى التدين ؟ ومن الذي يشرح تعاليم الدين للناس ؟
"التديُّن" يعني: الاستقامة والطهرَ والعفاف، وغضَّ البصر، والبعدَ عن الفجور، والخمور والمخدِّرات، وأذيّة المؤمنين باللّسان واليد.
"التديُّن" يمنَح صاحبَه عاطفة جيّاشةً تجعله نبعَ خيرٍ يتدفّق لتنميةِ المجتمع، وتقويةِ أواصره.
"التديُّن" يقذِف في قلب صاحبِه، رقابةً ذاتيّة، تجعله لبنةَ بناءٍ، يحرُس الفضيلة، ويحافِظ على أمنِ المجتمع، ويحميه من مجرمٍ رذيل أو فكرٍ دخيل.
"التديُّن" له أثرٌ في السّلوك، يربِّي على الأوبَة الصادِقة والإنابة العاجلة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].
أزلّ الشيطانُ آدم، وزيّن له الأكلَ من الشجرة، فعاد إلى ربِّه وصدَق في عهده: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 37].
"التدين" هو الالتزام بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتقاداً وقولاً وعملاً.
"التدين" هو أن يتوافق ظاهر الإنسان مع باطنه على هدي سيد المرسلين.
"التدين" إحساس داخلي يدفع صاحبه للعمل للإسلام، وشعور داخلي يدفعه لبغض من يحارب الإسلام.
"التدين" هو أن تأخذ الإسلام كاملاً كما أمر الله، ولا يقبل الانتقائية، ولا العبادات الموسمية.
هذا هو التدين.
أما الذي يشرحه ويفسره، فإنا لا نقبل أن يفسر التدين شخص واقعه العملي بعيد عن الدين.
لا نقبل أن يشرح لنا الدين كتاب الصحف والجرائد، ويخوضون في مسائل لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.
من الخطأ: أن يقبل الناس من كل أحد يتكلم في الدين، ويفصل في دقائق المسائل.
الدين لا يؤخذ إلا من عالم معتبر، موثوق في دينه وأمانته، ولم يتلوث بهذه الدنيا.
الدين يؤخذ من عالم مواقفه مضطردة، لا يراقب مخلوقاً ولا جهةً ولا نظاماً عندما يتكلم ويفتي.
والعجيب في أمر الناس أنهم يأخذون دينهم من كل أحد، ولا يقبلون في أمور الدنيا إلا من متخصص، وهذا من التناقضات في واقع الناس اليوم.
أيها المسلمون: المتديّنَ ليس معصومًا، فهو كغيرِه من البَشر، قد يزلّ، وقد يغفل، لكنه إذا تذكَّر تابَ وأناب، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].
فالذي يظن أن المتدين لا يخطئ فهو مخطئ، ولذا من الخطأ أن نحاسب المتدينين أنهم ملائكة، بل هم بشر، لكنهم يرجعون ويستغفرون.
التديّن -عبادَ الله- ليس مجموعةَ قيودٍ وأغلال تقضي على حريّة الإنسان كما يصوّره من لا يفقَه حقيقةَ الإسلام من المنافقين والعلمانيين، وكتاب الجرائد، وغيرهم، إنّما هو سموٌّ بالنّفس، طهارةٌ للقلب، مكارِم أخلاق.
إنّ التديُّن يجعل للحياةِ معنًى ساميًا، وهدفًا عاليًا، ونعيمًا لا يدانيه نعيمٌ، إلاّ نعيم الجنّة.
لقد شُوِّهت حقيقةُ التديُّن بسيل من الكتابات والمقالات مقصودة، وببرامج عبر القنوات والمحطات الفضائية، هدف أصحابها تشكيك الناس في الدين الذي يعتنقون، والإسلام الذي به يتمسكون.
وشُوِّهت حقيقة التدين أيضاً بممارساتِ تُجّار الدّين الذين جعلوا الدينَ شعارًا للابتزاز والتكسُّب، في مجالات مختلفة، يكون مظهر الشخص يدل على التدين، وسلوكه مصيبة من المصائب، وهذا أصابَ الدينَ في مقتل، وصرفَ عن الدّين الحقّ، سَأل رجلٌ الفضيلَ بن عياض: لِم كان كلام السّلف الصالح أنفعَ من كلامنا ؟ قال: "لأنّهم تكلَّموا لعزِّ الإسلام، ونجاةِ النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلّم لعزِّ النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق".
حتّى الكلام دخلت عليه الصّناعة، قال عليّ بن الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "يا أبتِ، ما أحلى كلامَ أصحابِ محمد -صلى الله عليه وسلم-! قال: "يا بنيّ، أوَ تَدري لِم حَلاَ؟ "قال: لا يا أبت، قال: "لأنّهم أرادوا به اللهَ -تبارك وتعالى-".
هناك من يفهَم الدّين على أنّه مجرّدُ مظاهرَ وشكلياتٍ، ومجموعة من الطّقوس، ويقيسون تديّنهم، وتديُّنَ الآخرين، بالحِفاظ على هذه الشّكليات.
أمّا جوهرُ الدين وترجمته إلى سلوكٍ في الحياة، فهذه أمورٌ لا تشغَل بالَ هؤلاء الذين جعلوا من الدّين جسدًا بلا روح، ولفظًا بلا مضمون.
إنّ الدينَ الحقيقيّ، لا يأبَه بالشّكليات، ولا يعوِّل على المظهريّة، قال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله لا ينظر إلى صورِكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالِكم" [أخرجه مسلم].
والتّقوى محلُّها الصّدر، وهذا لا يعني أن المظهر الشرعي غير مطلوب، نظر عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- إلى رجلٍ مُظهِرٍ للنّسك متماوتٍ، فضربه بدرّته قائلاً: "لا تُمِت علينا دينَنا".
هذا التديُّن الصناعيّ الظاهريّ لا تَنهضُ به حياةٌ، ولا يَرشُد به مجتَمَع.
شتّان ما بين تديُّن حقيقيٍّ، وتديّن مظهريّ، قال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الرجل ليعمل عملَ أهل الجنّة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإنّ الرجلَ ليعمل عملَ أهل النّار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنّة" [متفق عليه].
هذا الحديث يصِف ضروبًا من النّاس، تخالف ظواهرُ أحوالهم خفايا نفوسهم.
تلمحُ في أهلِ الدّنيا رجالاً تحسبُهم مغرقين في حبِّها، فإذا دقّقتَ النظرَ في طويّتهم سطعَت بحبِّ الله، والشوق إلى لقائِه، وقد تلمَح في أهل الدّين رجالاً عليهم سِيما الصّالحين، وإخباتُ المنيبين، فإذا رجعتَ الطّرفَ وجدتَ رغبةً في الحياة، وحِرصًا على زُخرفها.
إنّ هؤلاء وأولئك تناقِض ظواهرهم بواطنَهم.
أيها المسلمون: إن أي مجتمع يشتكي من انحرافات بعض أفراده سواء كان الانحراف في الفكر، أو انحراف في السلوك العملي، فإن الحل في التدين.
وهذا ينطبق أيضاً على الدول، وكذلك الأسر.
فالدول التي تشتكي من اضطرابات داخلية، وتمرد من بعض أفرادها على أنظمتها، وإحداث تخريب أو تدمير، فإن الحل المثالي والناجع لحصول الأمن والاستقرار هو غرس الدين في قلوب الفئة المتمردة.
ومن التجارب: أن المخلوق يصعب أن يسيطر عليه مخلوق مثله، ولو كان يملك من القوة والسلطة ما يملك.
وكذلك الحال للأسر التي تعاني ما تعاني من اعوجاج بعض أبنائها، وسلوكهم المشين، فإن الحل هو محاولة تحبيب التدين لهم.
إن الدين -يا عباد الله- هو الذي يضبط سلوك الناس.
ولذا فينبغي أن نعي جيداً: أن محاولات صرف الناس عن التدين عملية خطيرة تهدد أمن المجتمعات والدول، وليس في صالح أحد.
وينبغي أن نعلم أيضاً: أن للإعلام الفاسد وانفتاح الناس على ما يعرض في الفضائيات، وغيره، كل هذا مما أضعف تدين الناس من جهة، فقد ساهم في خلخلة أمن المجتمعات والدول من جهة أخرى.
ولذا لو كنا فعلاً ناصحين لأنفسنا ومجتمعاتنا ودولنا، فيجب علينا جميعاً: أن نساهم في زيادة نسبة التدين عند الناس، وأن نسعى جميعاً في تكثيف البرامج والمناهج التي تزرع التدين في قلوب الناس، من الدروس والمحاضرات والندوات والكتابات الجيدة النافعة في الصحف والجرائد، وأن نسعى إلى تكثيف المواد الشرعية في المناهج الدراسية، وأن نزيد من عدد المراكز الصيفية، وحلق تحفيظ القرآن، وغيرها من المناشط التي تقرب الناس من الدين والتدين؛ لأن بعد الناس عن الدين، بل انفلاتهم من التدين يعني انفلات المجتمع، وفقدان الأمن.
نسأل الله -جل وتعالى- أن يحفظ علينا إيماننا وأمننا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
أيها المسلمون: إنّ الدينَ هو العلاج الناجعُ لمشكلاتِ الأمّة بجميع ضروبِها، قال الله -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
لقد دعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلامِ دينًا قِيمًا ملَّةَ إبراهيمَ حنيفًا، وما دام هذا الصراطُ مستقيمًا، فإنّه لا يضلّ سالكه، ولا يُهدى تاركه، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، وليس أمامَ تاركِ النّور إلاّ الظّلمات: (فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس: 32].
إنّ أعظمَ مهمّةٍ في هذا العصرِ تغذيةُ منابع التديُّن، وترسيخُ العقيدةِ والمنهَج الوسَط، فالشبابُ بلا عقيدةٍ لا تطيب لهم حياةٌ، ولا تستقيم أمورُهم، بل يجترِفهم التيّار أينما سار، فهو مرّةً متشدِّدٌ، وتارةً متردِّد، وطورًا متبدِّد، قليلُ الخيرِ لنفسِه ولمجتمعِه، قال تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122].
ولو رأينا سلوكاً مشيناً على شبابنا أياً كان هذا السلوك، فلنعلم بأن الحل في التدين، ولا حل غير هذا.
أيها المسلمون: يجِب أن يُغرَس التديُّن على علمٍ صحيح، وفهمٍ سليم، من القرآن الكريم والسنّة النبويّة، لنقضيَ على المفاهيم المغلوطَة عن التديّن، خاصةَ من يزعم بلسانِ الحال، أو المقال: أنّ التديُّنَ عاملٌ رئيسي في بروز مظاهرِ الغلوّ والتطرّف.
ألم يكن أنبياء الله ورسلُه في أعلى مقامات التديُّن ؟! فهل نسِمُهم بالتطرّف والغلوّ أو نجعلهم سببًا في نشوئه ؟!
حاشا، وكلا، ومعاذَ الله، كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم.
هناك فئامٌ ضلّوا الطريقَ، وخرجوا عن المنهَج الوسط، هؤلاء لا يمثِّلون الأمّة، وليسوا حجّةً عليها، وعلى هذا، فإنّ الاصطيادَ في الماء العكِر من بعض الأقلام، وتعميمَ الأحكام على كلّ مؤمنٍ تقيٍّ، منكَرٌ من القول وزور.
انتقاصُ العلماءِ وتشويهُ شخصيّة المتديِّن والغمز واللمزُ للهيئات الشرعيّة، واللِّجان الدائمة، ونسبةَ أيِّ سلوكٍ خاطئ إليها ينبِئ عن خلَلٍ في الفِكر، وسوء الطويّة.
إنّ هذا العملَ الذي يسخَرُ من الإسلام، ويشوّه أهلَه، والممتثِلين هديَه، أنشأَ أجيالاً تشكر غيرَ المسلمين وتحترمهم، وتهاجِم الإسلامَ، وتحتقر أهلَه.
الذين يربطون أيَّ سلوكٍ منحرفٍ بالتديّن يقلِبون المفاهيم، ويزوِّرون الحقائق، ويضلّون الأمّةَ ويرتكبون جرمًا في حقّ الإسلام وأهلِه.
ونحن أمامَ جِيل جديدٍ يتطلّب الحالُ تقويةَ صلتِه بالدّين، واعتزازه بالإسلام، لنضمنَ له قوةً وبقاء، وللمجتمع سلامًا وأمانًا.
ومع كل هذا، فينبغي أن يُعلم بأن ظاهرة التدين في ديار المسلمين، ليست ظاهرة عابرة، يمكن وأدها بسياط الترهيب، أو التحريف، بل هي ظاهرة متأصلة في ديارنا، متجذّرة في شعوبنا.
نعم، ربما تنجح السجون في قهر الشعوب، وتحطيم كرامتها، لكنه نجاح هزيل عابر لا يصمد طويلاً أمام قوة الإيمان، وصلابة أهل القرآن، ولهذا نذكِّر أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم بالبغي والعدوان، بقول الحق -جل وعلا-: (قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا) [مريم: 75].
ألا وصلّوا -عبادَ الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
التعليقات