عناصر الخطبة
1/الله يمهل ولا يهمل 2/التحذير من الظلم وعواقبه 3/دعوة المظلوم مستجابة 4/من قصص إهلاك الله للظالميناقتباس
ألا فلنجتنب الظلم، ولنمنع وقوعه، فلا تظلم نفسك بالمعاصي، ولا تظلم غيرك إذا دعتك لذلك، فإن البغي يصرع أهله، والبغي مصرعه وخيم، فلا نغتر بإبطاء الغياث من ناصر متى شاء أن يغيث أغاث، فإنما يملي لهم كي يزدادوا إثماً...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد: فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله وتأملوا في تدبيره وقدره، وكيف أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء؟! وأنه المتصرف الذي لا يسأل عما يفعل -جل في علاه-.
عباد الله: إن لله عادة في خلقه فهو يمهل ولا يهمل، وإن أخذه أليم شديد، ولقد حث الله عباده على السير في الأرض وأخذ العبرة بما حل بالقوم الظالمين، وكيف كان مصيرهم؟ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)[الأنعام: 11]، وقال: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)[يونس: 39].
فالظلم -عباد الله- عاقبته وخيمة، وشره مستطير، وهو من الذنوب التي يعجل الله بعقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، وغالبا ما تكون العاقبة هي هلاكهم (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)[يونس: 13]، وقال: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)[الكهف: 59]، بل يكون هلاكهم بعقاب أليم؛ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102].
والظالم بغيظ إلى الله غير محبوب؛ (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آل عمران: 57]، كما أن الظالم ولو طالت مدته فإن الله لا يمكن له في الأرض؛ (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[البقرة: 124]، كما أن الظالم تحل عليه اللعنة؛ (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18]، وقد يعاقب بأن الله يمد له في طغيانه ولا يهديه للتوبة والرجوع؛ (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[البقرة: 258]، ولو أخذنا في ذكر ما أعده الله للظالمين مما ذكره في كتابه لطال الأمر، فلقد تكاثرت الآيات في كتاب الله في بيان حالهم ومآلهم، أعاذنا الله منهم ومن صفاتهم.
أيها المؤمنون: إن ما حدث ويحدث في الأرض مليء بالعبر والدروس التي ينبغي للمسلم ألا يشغل عنها، فإنه لما فتح المسلمون قبرص فُرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، قال جبير بن نفير: فرأيت أبا الدرداء جالسا يبكي، فقلت له: "يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟!"، فقال: "ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه وضيعوا أمره، فبينما هم أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى"، فالمؤمن العاقل الناصح لنفسه هو الذي يترك ما يخشى أن يكون فيه ظلما، فضلا عن الظالم نفسه، قال عمر بن عبد العزيز: "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك".
لا تظلمن إذا ماكنت مقتــدرا *** فالظلم آخـره يأتيك بالنــدم
واحذر أخيّ من المظلوم دعوته *** لا تأخذنك سهام الليل في الظلم
نامـت عيونك والمظلوم منتبه*** يدعو عليك وعيــن الله لم تنم
وجد خمارويه أحمد بن طولون -أحد الأمراء- مرة في جيبه رقعة لم يعرف من رفعها، ولا من قالها، فإذا فيها مكتوب: "أما بعد: فإنكم ملكتم فأسرتم، وقدرتم فأشرتم، ووسع عليكم، فضيقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء، فاحذروا سهام السحر؛ فإنها أنفذ من وخز الإبر، لا سيما وقد جرحتم قلوباً قد أوجعتموها، وأكباداً أجعتموها، وأحشاء أنكيتموها، ومقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون؛ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشعراء: 227]"، فبكى هذا الأمير بكاء شديداً، وجعل يتعهد قراءتها في غالب أوقاته، ويستعين بها على إجراء عبراته.
اللهم نعوذ بك أن نظلم أو نظلم، أقول هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أيها المؤمنون: لقد حذر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من الظلم أيما تحذير، فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر مرفوعا: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"، وأخرج البخاري ومسلم واللفظ له عن أبي موسى قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، قال ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102]، وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر قال: قال الله -تعالى-: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرما بينكم، فلا تظالموا".
وإن دعاء الناس على الظالم مستجاب، فإن الله ينتقم للمظلوم، أخرج الطبراني من حديث خزيمة بن ثابت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تحمل على الغمام يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"، قال الزبيدي: " إن المظلوم إذا شكا إلى الله -تعالى-، اقتضى عدل الله -تعالى- الإيقاع بظالمه، فيحب الله -تعالى- أن يجهر المظلوم بالشكوى؛ ليكون الإيقاع بالظالم مبسوط العذر عند الخلق، وزاجراً لأمثاله عن أمثال فاعله".
معاشر المسلمين: لقد حكى الله لنا في كتابه قصص الظالمين لنعتبر بها، فنهرب من الظلم صغيره وكبيره، فهذا فرعون الذي بلغ من الطغيان والجبروت ما بلغ، حتى إنه استعبد أهل مصر كلهم، وبلغ به من صلفه وغروره ما قاله الله -جل وعلا-: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)[القصص: 38 - 40].
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى اشتُرِيَ، وبسط الجور حتى افتُدِيَ"، أورد ابن كثير في البداية والنهاية عن وهب بن منبه هذه القصة، قال: "ركب ابن ملك من الملوك في جند من قومه وهو شاب، فصرع عن فرسه فدقت عنقه فمات في أرض قريبة من قرية من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم وأن يطأهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى الأفيال والخيل خمراً، وقال: طؤوهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال فلتطأه الخيل، فما أخطأته الخيل فلتطأه الرجال، فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم فجأروا إلى الله -سبحانه- وعجّوا إليه وابتهلوا يدعونه -تعالى-؛ ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم وما قصده من هلاكهم، فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله -تعالى-، إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الأفيال فطغت على الخيل وطغت الخيل على الرجال فقتل الملك ومن معه وطئاً بالأفيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم"، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[النمل: 62].
ألا فلنجتنب الظلم، ولنمنع وقوعه، فلا تظلم نفسك بالمعاصي، ولا تظلم غيرك إذا دعتك لذلك، فإن البغي يصرع أهله، والبغي مصرعه وخيم، فلا نغتر بإبطاء الغياث من ناصر متى شاء أن يغيث أغاث، فإنما يملي لهم كي يزدادوا إثماً.
أما والله إن الظلـم شـؤم *** ومازال المسيء هو الظلومُ
إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصـومُ
اللهم أعذنا من الظلم، وارزقنا قول الحق في السر والعلن يا رب العالمين.
التعليقات