عناصر الخطبة
1/ خصائص الأمة الثابتة على الحق 2/ الإسلام هو المنهج الإلهي الصحيح للبشرية 3/ تعريف الأمانة وحكمها 4/ ما الذي يدخل في الأمانة؟ 5/ أعظم الأمانات التي يجب رعايتهااقتباس
وما أخطر الأمانة في الوظائف العامة! فالقاضي والأمير والوزير والموظف والمعلم كلهم مؤتمنون على أمانات عظيمة، تخص مصالح المسلمين، فيجب على كل منهم أن يؤدي الأمانة بالعدل بين الناس والإحسان إلى الخلق، والنصح لهم، وقضاء حوائجهم، ومن تعمد ظلم الناس وغشهم وأكل أموالهم فقد ..
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. [حديث خطبة الحاجة أخرجه أبو داود:2118، وصححه الألباني].
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، وآمنوا به حق الإيمان، واحذروا مخالفة أوامر ربكم وعصيانه، وأدوا أماناتكم واحفظوها، واعلموا أن الأمانة التي حملها الإنسان عرضها الله قبل ذلك على عدد من مخلوقاته العظام، السموات والأرض والجبال، لكن هذه المخلوقات اعتذرت أن تحملها؛ لأنها أحست أنها لن تستطيع أن تفي بها، وأحست بعجزها عن أداء حق شكر النعم عليها، ولذلك اعتذرت عن حملها.
وجاء الإنسان وقَبِل حمل الأمانة، وإن الأخيار من هذه الأمة هم الذين يؤدون الأمانة، وهي عزيزة على نفوسهم، ويبذلون لها غالي الثمن، ويصبرون على المحن، ويذوقون في سبيلها من الآلام والتضحيات، فهؤلاء هم الذين يشعرون بقيمة الأمانة.
أيها المسلمون: الأمانة بمعناها الواسع تعم جميع وظائف الدين، فهي تنظم كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً وفعلاً، وحين تختفي الأمانة من حياة الناس تفسد حياتهم وتسوء معاملاتهم، ويعيشون حياة الغدر والغش والخيانة، وواقع الناس اليوم خير دليل على ذلك، حيث عم التعامل بالغدر والخيانة والغش والخداع والكذب سائر أحوالهم ومعاملاتهم إلا من رحم الله.
إن الناس في الدنيا قسمان: قسم خلقه الله لجهنم، وهؤلاء هم الذين ينكرون الحق ويكذبون به فلهم جهنم، كما قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179]، وقسم متمسكون بالحق، ويدعون الناس إليه، ويحكمون به، ويدافعون عنه، ولا ينحرفون عنه، قال -سبحانه-: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف:181].
عباد الله: إن الأمة الثابتة على الحق، العاملة به في كل حين، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، فهم يهدون بالحق، ويدعون إليه، ولا يقتصرون على معرفة الحق والعمل به، إنما يتجاوزونه إلى الهداية به والدعوة إليه، ويتجاوزون ذلك إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس، والحكم به بينهم، تحقيقًا للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق، فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يُعرف ويُدرس، ولا مجرد وعظ يهدى به فقط، إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله بلا استثناء، يحكم اعتقادهم، ويحكم شعائرهم التعبدية، ويحكم حياتهم الواقعية، ويحكم أخلاقهم وسلوكهم، ويحكم أفكارهم وعلومهم، يصبغها بلونه، ويضبطها بموازينه: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف:170].
هناك فتن قد تُقعد الناس عن الاستجابة لله والرسول خوفًا وبخلاً، والحياة الكريمة التي يدعو إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا بدَّ لها من تكاليف وتضحيات، ولقلع هذا الحرص ينبه الله عباده إلى فتنة الأموال والأولاد، فهي موضع فتنة وابتلاء، ويحذّرهم من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان، ومن التخلف عن دعوة الجهاد، وعن النكوص عن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة، واعتبار هذا كله خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض، وهي إعلاء كلمة الله في الأرض، وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل، وتنفيذ أوامر الله في عباده على مدار الزمان.
ومع هذا التحذير، والتذكير بما عند الله من أجر عظيم، تقعد الأموال والأولاد بكثير من الناس عن التضحية والجهاد في سبيل الله، كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:27-28].
عباد الله: إن على الأمة المسلمة التي آمنت بالله أن تجاهد لتقرير عقيدة الإيمان في القلوب، وإقامة منهج الله في خلقه، وبذلك تكون قد أدت الأمانة التي حملتها، فالإسلام ليس كلمة تُقال باللسان فقط، وليس مجرد عبادات وأدعية وأذكار فقط، إنما هو مع ذلك منهج حياة كاملة شاملة لبناء واقع الحياة الإنسانية على قاعدة (أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)، وذلك بردّ الناس إلى العبودية لربهم الحق، وإلى حكمه وشرعه، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء، وتأمين الحق والعدل ومكارم الأخلاق للناس جميعًا، وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت، والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله، بمنهج الله، وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكل هذه أمانات عظيمة من لم ينهض بها فقد خانها، وخان عهد الله الذي عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله، وأداء ذلك كله يحتاج إلى الصبر والتضحية، وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد، وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم لمن أدى الأمانة: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:28].
لقد وهب الله عباده الأموال والأولاد ليبلوهم بها، ويفتنهم بها، فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء؛ ليرى الله فيها صنع العبد وتصرفه، أيشكر الله عليها؟ أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عونًا له على الحذر واليقظة؛ لئلا يفشل في الامتحان، ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض، فقد يضعف لثقل الأمر، خاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد، فيلوح الله له بما هو خير من ذلك وأبقى؛ ليستعين به على مقاومة الفتنة، ويتقوى ويثبت، فليطمئن المؤمن على ما له عند الله، وليصبر على تكاليف الجهاد، وليثبت على مرارة الفتنة والابتلاء، ف(مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى:36].
عباد الله: إن الإسلام هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة، وقد سبقته صور منه تناسب أطوارًا معينة من حياة البشرية، وسبقته تجارب في حياة الرسل والأمم السابقة، تمهّد كلها لهذه الصورة الكاملة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات، فقوم موسى الذين أرسله الله إليهم آذوه، وانحرفوا عن رسالته، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف:5].
فانتهت قوامة قوم موسى على دين الله، فلم يعودوا أمناء عليه، فقد زاغوا بعدما بُذلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغًا، فلم تعد قلوبهم صالحة للهدى، وكيف يهدون وهم غير مهتدين؟، وضلوا والله لا يهدي القوم الفاسقين، وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله، فلم يعودوا يصلحون لحمل أمانة الدين والدعوة إليه، وهم على هذا الزيغ والضلال.
ثم تتابعت الرسل من بني إسرائيل من بعده، فلما اختلف بنو إسرائيل في عيسى -صلى الله عليه وسلم- وآذوه، وانحرفوا عن عقيدة التوحيد، وضلوا عن شريعته، وأضلوا غيرهم، لم يعودوا صالحين لحمل الرسالة الإلهية للناس، فلما ضلَّ الناس، وانتشر الظلم والفساد في الأرض، ونُحِّيت شريعة الله من حياة الناس، فلم يُعمل بها، وكان مقررًا في علم الله أن يستقر دين الله في الأرض كاملاً شاملاً في صورته الأخيرة على يد رسوله الأخير.
فأرسل الله رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى البشرية كافة إلى يوم القيامة: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:9]، وقد ظهرت إرادة الله، فظهر هذا الدين على الدين كله، ظهر في ذاته كدين، فلا يثبت له دين آخر في حقيقته وصفائه، وشعائره وشرائعه، وأخلاقه وآدابه، فأما الديانات الوثنية فهي هزيلة ليست بشيء؛ لأنها من أوهام البشر، وأما الديانات الكتابية كاليهودية والنصرانية، فهذا الدين الإسلامي خاتمها، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها.
إن أتباع الرسل في كل زمان ومكان وخاصة أتباع سيد الرسل وآخرهم محمد -صلى الله عليه وسلم- هم الأمناء على منهج الله في الأرض، وهم ورثة العقيدة والرسالة الإلهية بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهم المختارون من بين الأمم لهذه المهمة الكبرى، والأمانة العظمى.
فهل نؤدي الأمانة التي اختارنا الله لها، بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى، في العمل بالدين، وإبلاغه للبشرية كافة؟ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الفتح:28].
عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- ينادي المؤمنين، ويهتف بهم إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة، تجارة الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الصف:10]، تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة، فيكسب مغفرة ذنوبه كلها، والفوز بالجنات والمساكن والقصور، ورضوان من الله أكبر: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الصف:12].
إنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا، ويأخذ الآخرة، لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة من أول يوم حين بايع الأنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة في مكة، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مجلس، فقال: "تُبَايِعُونِي عَلَى أنْ لا تُشْرِكُوا بِالله شَيْئًا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأجْرُهُ عَلَى الله، وَمَنْ أصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَأمْرُهُ إِلَى الله إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ" [البخاري:7199، ومسلم:1709].
وقد منَّ الله على العرب الأميين، فاختارهم ليجعلهم أهل الكتاب المبين، ويرسل فيهم رسولاً منهم، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم، ويخرجهم من أميتهم وجاهليتهم إلى نور العلم والإيمان، ويميزهم على العالمين، قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الجمعة:2-3].
وقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم، فيجمعهم بعد فُرقة، ويعزّهم بعد ذلهم، وكانوا يستفتحون بذلك على العرب، ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب الأميين، فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الكاملة للبشرية، بعدما ضلت وزاغت وكفرت بآيات الله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89]. فقد انتهى دور اليهود في حمل أمانة الله، فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل، فهم كما وصفهم الله بقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الجمعة:5].
وإن اختيار الله لفرد أو جماعة أو أمة لحمل هذه الأمانة الكبرى، وليكون مستودع نور الله، إنه لفضلٌ عظيم لا يعدله فضل، فضل يربو على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته، والله -عزَّ وجلَّ- يذكر المؤمنين باختيارهم لحمل هذه الأمانة، ف(ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة:4].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير، فسبحانه من رب عظيم وإله غفور رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أيها الناس: اتقوا الله ربكم حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، والزموا شرعه، واتبعوا رسوله، واعلموا أن هذا الدين العظيم الذي أنزله الله أمانة كبرى، وهو الحق الذي لا تستقيم الحياة إلا به، ولا يقبل الله الزيغ عن هذه الأمانة أو تضييعها حتى من رسله الكرام، قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة:44-47] فمتى يشعر الإنسان بعظمة القاهر الجبار؟ ومتى يحس بضآلة نفسه أمام قدرة الله التي لا يقف لها شيء؟ ومتى يقدر عظمة الأمانة التي تحملها؟.
إن من يحيد أو يتلفت عن هذا المنهج الذي يريده الله للبشرية، ممثلاً فيما يجيء به الرسل من العقيدة والشريعة، فالله قادر على أخذه أخذًا شديدًا في الدنيا والآخرة، فهذا المنهج لم يجيء ليُهمَل ولا ليبدل، إنما يجيء ليُطَاع ويحترم، ويُقابَل بالاستجابة والتقوى، وإلا فهو الأخذ والقصم، وهناك الهول والروع فقد: (كذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ *وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ * وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً) [الحاقة:4-10].
إنها تذكرة تلمس القلوب الخامدة، والآذان البليدة، التي تكذّب بعد كل ما سبق من النذر، وكل ما سبق من الآيات، وكل ما سبق من آلاء الله ونِعَمه على هؤلاء الغافلين، وكل هذه المشاهد المروعة، الهائلة القاصمة الحاسمة، تبدو صغيرة ضئيلة إلى جانب الهول والموقف الأكبر، هول الحاقة والقارعة والواقعة التي يكذّب بها المجرمون، والتي ستقع بلا شك (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) [الحاقة:13-15]. إنه مشهد عظيم مروع، يشعر معه الإنسان بضآلته، وضآلة عالمه، يوم يحشر الناس إلى ربهم، فيحاسب من قام بأداء الأمانة، ومن خان الأمانة فردًا فردًا، نية وقولاً وعملاً، ويجازي كل إنسان بما عمل من خير وشر: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدً) [الكهف:47].
عباد الله: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة كان يَعِدُ المؤمنين به، المبايعين له، وهم يبذلون الأموال والأنفس، ويضحون بالأوقات والشهوات، يعدهم بالجنة على الإيمان والعمل الصالح، ولقد كان القرآن ينشئ قلوبًا يعدّها لحمل الأمانة، واستقبال المكاره، هذه القلوب يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بمكان، بحيث لا تتطلع وهي تبذل كل شيء، وتحتمل كل شيء، إلى أي شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله، والفوز بالجنة.
قلوب مؤمنة علم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، فأتاها النصر في الأرض، وائتمنها على الحق لا لنفسها فقط، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي، وهي أهل لأداء الأمانة، تعمل بالدين، وتحكم بالدين في حياتها، وتدعو البشرية إلى الدين، لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تُعطاه، وقد تجردت لله حقًّا يوم كانت لا تعلم لها جزاءً إلا رضاه، والفوز بالجنة في الآخرة (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:72].
فينبغي للمؤمنين أن يكونوا قدوة للبشرية كلها إلى يوم القيامة في الإيمان، وفي العبادات، وفي المعاملات، وفي المعاشرات، وفي الأخلاق، تراها الأجيال، وتقتدي بها الأمم في كل زمان ومكان.
عباد الله: إن الله -عزَّ وجلَّ- يريد من المؤمنين أن يؤدوا أمانتهم التي استُحفظوا عليها في جميع الأحوال، أمانة العبادات والمعاملات، والأخلاق، أمانة العلم والاستقامة والدعوة، والجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، فيقفون في وجه الشر والفساد والطغيان، ولا يخافون لومة لائم، سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالسلطة، أو الأغنياء المتسلطين بالمال، أو الأشرار المتسلطين بالأذى، أو العامة المتسلطين بالهوى، وكل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، فتعم جميع وظائف الدين.
والأمانة لفظ عام يشمل كل ما استودعك الله أمره، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ القلوب والعقول عن كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما ائتُمنت عليه من حقوق العباد، وتعم الأمانات كذلك جميع الواجبات على الإنسان، سواء كانت واجبة لحق الله كالعبادات من صلاة وصيام ونحوهما، أو كانت واجبة لسبب من الأسباب كالكفارات والنذور ونحوهما من الحقوق الواجبة لله، أو كانت واجبة لحقوق العباد بعضهم على بعض، بسبب من الأسباب كالودائع والديون ونحوهما، ويدخل في ذلك الولايات كالإمامة والإمارة والوزارة والرئاسة والوظائف، وغير ذلك مما يُؤتَمن عليه الإنسان، فكل ذلك داخل في الأمانة التي أمرنا الله بأدائها.
ويدخل في الأمانة التي يجب حفظها حفظ الجوارح عن المحرمات، فاللسان أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، والقلب أمانة، والبطن أمانة، والفرج أمانة، واليد أمانة، والوقت أمانة، والمال أمانة، والأهل أمانة.
فاللسان أمانة يجب على المسلم استعماله في تلاوة القرآن، وقراءة الكتب النافعة، وتعليم أحكام الدين، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والوعظ والإرشاد، والإصلاح بين الناس، وما أوجبه الله من الأذكار، وما يُباح استعماله في حاجات المسلم كالبيع والشراء، والحديث النافع مع الأهل والضيف، ويحرم استعماله في الغيبة والنميمة، والسب والشتم، والسخرية والاستهزاء، وإفساد ذات البين، ومن فعل ذلك ونحوه فقد خان الأمانة، وحذَّر الله من ذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].
والأذن أمانة يجب على المسلم أن يسمع بها ما ينفعه، وما أمره الله به؛ كالقرآن والحديث، وما فيه صلاح دينه ودنياه، ولا يجوز أن يسمع بها ما حرمه الله من السوء والفحشاء، واللغو والسب، والغيبة والنميمة، وإفساد ذات البين، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة.
والعين أمانة يجب على المسلم أن يبصر بها ما أباحه الله له، وما فيه نفعه في العاجل والآجل؛ كالنظر في ملكوت السموات والأرض، ومصالح معاشه، ولا يجوز أن ينظر بها إلى ما حرم الله من العورات والنساء الأجنبيات، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة.
والقلب أمانة، يجب عليه أن يملأه بالتوحيد والإيمان، والخوف والخشية من الله، والمحبة له، وتعظيمه، والذل له، والصدق والإخلاص، والخشوع والتقوى، ولا يجوز أن يملأه الإنسان بالشرك والنفاق، والكبر والحسد، ونحو ذلك، فإن فعل فقد خان الأمانة.
والبطن أمانة، فيجب أن لا يُدخل فيه إلا ما أحله الله من الطيبات بلا إسراف، ومن أدخل بطنه شيئًا من المحرمات من مأكول ومشروب فقد خان الأمانة.
والفرج أمانة فيجب حفظه فيما أحل الله من الزواج، ومن تجاوز ذلك إلى الزنا والفواحش فقد خان الأمانة.
واليد أمانة فيجب استعمالها في طاعة الله، وكفّها عما حرم الله، فمن استعمل يده في السرقة أو الغش أو تناول بها المحرمات أو قتل بها النفوس المعصومة فقد خان الأمانة.
والرِّجْل أمانة، فيجب استعمالها في طاعة الله، كالمشي إلى الصلوات والجهاد، ومجالس العلم والذكر، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام ونحو ذلك، ومن استعمل قدميه فيما حرم الله كالمشي للإفساد في الأرض، ومواطن الريب، وأماكن اللهو واللعب والخنا، فقد خان الأمانة.
والعقل أمانة، وأداء الأمانة فيه استعماله في طاعة الله ورسوله، بالتفكير في العلوم النافعة، وما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، ونحو ذلك، ومن استعمل عقله في المكر والكيد، والخديعة والظلم، والكذب والتزوير، والحيلة الباطلة، والإضرار بالمسلمين فقد خان أمانة العقل.
والعلم أمانة، وأداء الأمانة فيه العمل به، ودعوة الناس إليه، وتعليمهم إياه، والصبر على الأذى الذي يحصل بسببه، ومن لم يعمل بعلمه، ولم يدع الناس إليه، ولم يصبر على ذلك، فقد خان الأمانة.
والنفس أمانة، يجب حملها على طاعة الله ورسوله، والعمل بالدين، والدعوة إليه، ومن أطلق لنفسه العنان، وتركها ترتع في اللهو والشهوات فقد خان الأمانة.
والوقت أمانة، يجب حفظه بالعبادة والتعليم والدعوة والأعمال الصالحة، وطلب اللازم من المعاش، ومن أضاع أوقاته في الشهوات والقيل والقال، والأعمال السيئة فقد خان الأمانة.
والمال أمانة يجب كسبه من الحلال، وإنفاقه فيما يرضي الله، ونفع النفس والأهل والمسلمين به، ومواساة المحتاجين منه، ومن اكتسبه من المحرمات، وأنفقه في المحرمات فقد خان الأمانة.
والأهل والأولاد أمانة، يجب على المسلم رعاية هذه الأمانة، بشكر المنعم بها، وتربيتهم على الحق والدين، وحسن الأخلاق، وتعليمهم القرآن والسنة، والفقه الشرعي، وترغيبهم في معالي الأمور، وحفظهم من كل ما يضرهم، فإن من أرخى لزوجه وأولاده العنان، وترك لهم الحبل على الغارب، يفعلون ما يشاؤون، ويأكلون ما يشاؤون، ويسمعون ما يشاؤون، وينظرون إلى ما يشاؤون، فقد خان الأمانة، وأضاع من تحت يده، وغدر بأقرب الناس إليه.
عباد الله: ومن أعظم الأمانات التي يجب رعايتها، ما ائتمن الله عليه بعض عباده، من ولاية عامة أو خاصة، فوليّ أمر المسلمين يجب عليه أداء الأمانة، بالنصح لرعيته، وإيصال حقوقهم إليهم، والحكم بينهم بما أنزل الله، ونشر العدل والأمن، والضرب على أيدي العابثين، والمفسدين في الأرض، ونصر المظلوم، وقمع الظالم، والإحسان إلى الناس، وتعليمهم الدين، ونشر الدين، والجهاد في سبيل الله.
فإن من تولى أمور المسلمين فغشَّهم، ومنع حقوقهم، وحكم بينهم بالظلم والجور، ونشر الفساد، وقمع الدعاة، وأسكت العلماء، وقعد عن نصر الدين ونشره، فقد خان الأمانة، ويجب على الرعية طاعة إمام المسلمين، وأداء الأمانة له بالسمع والطاعة، وعدم شق عصا الطاعة، وعدم الخروج عليه، ولزوم النصح له، والتعاون معه على البر والتقوى، والدعاء له بالهداية والصلاح والنصر، وتجب طاعة الإمام ما لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، ومن غشَّ الإمام، وشقَّ عصا الطاعة، وخرج عليه ظلمًا وعدوانًا، فقد خان الأمانة.
عباد الله: وما أخطر الأمانة في الوظائف العامة! فالقاضي والأمير والوزير والموظف والمعلم كلهم مؤتمنون على أمانات عظيمة، تخص مصالح المسلمين، فيجب على كل منهم أن يؤدي الأمانة بالعدل بين الناس والإحسان إلى الخلق، والنصح لهم، وقضاء حوائجهم، ومن تعمد ظلم الناس وغشهم وأكل أموالهم فقد خان الأمانة.
عباد الله: ألا ما أعظم الأمانة، وما أشد حملها، وما أثقل أداءها، وإنه ليسير على من عرف ربه، وعرف جزيل إنعامه، وعرف ثوابها، وعرف عقوبة الخيانة، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء:58]، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ" [مسلم:2582].
لقد كانت الأمانة من أبرز أخلاق الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، فنوح وهود وصالح وغيرهم، كل رسول من هؤلاء قال لقومه: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء: 107-108]، وجبريل -صلى الله عليه وسلم- أمين الوحي كما وصفه الله بذلك بقوله: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء:192-194].
أيها الإخوة: ومن أدى الأمانة فاز بالجنة والرضوان، ومن ضيع الأمانة باء بالنار والخسران: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة:18-20]، وهذا هو مبدأ الجزاء العادل الذي يفرق بين المحسنين والمسيئين في الدنيا والآخرة، والذي يعلق الجزاء بالعمل على أساس العدل والإحسان.
فما يستوي المؤمنون والفاسقون، في طبيعة ولا شعور ولا سلوك، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا والآخرة سواء، فالمؤمنون متجهون إلى الله مؤمنون به عاملون بمنهجه، والفاسقون منحرفون شاردون، مفسدون في الأرض، لا يلتقون مع المؤمنين على منهج الله في الحياة، فلا عجب أن يختلف طريق المؤمنين وطريق الفاسقين في الآخرة، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده، وما قدمت يداه.
فجددوا -أيها الإخوة- إيمانكم، واحذروا تضييع أماناتكم، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه، ونسأله أن يصلح لنا قلوبنا. اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.
التعليقات