عناصر الخطبة
1/ أهمية الخشوع وبيانه 2/ من أنواع أحوال الخاشعين 3/ التحلي بالخشوع 4/ خشوعه عليه الصلاة والسلام 5/ فضل الخشوع 6/ تهيئة النفس بفعل أسباب الخشوع 7/ التأثر الوقتياهداف الخطبة
اقتباس
إن خشوع القلوب ورقتها ولينها وتأثرها وادكارها واعتبارها عند مساع القرآن؛ أمر مطلوب جد مطلوب، لكن ماذا يعني خشوع ولين وتأثر وادكار واعتبار وقتي لا أثر له؟ أو يقل أثره في حياة الخاشع فيما بعد، ماذا يعني، ماذا يعني؟، بل الأمر في حقه أشنع، والخطب بالنسبة له أفضع؛ لما في ذلك من إقامة الحجة، وإبراز المحجة على فاعله
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف:1-5].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون: لقد أنزل الله القرآن الكريم عظات وعبراً وحججاً قائمة ومذكراً، عظات وحججاً تتوارد على قلوب الواعين ونفوس الطيبين؛ بل ومشاعر الفطريين البعيدين عن الأهواء، فتعمل فيها عملها، توقظ النائم، وتنبه الغافل، وتعلم الجاهل وتزيد في يقظه، وإيمان وإيقان الطائع.
يقول سبحانه وتعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر:23] ويقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28] ويقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2]
ويقول في بيان نوع من أنواع أحوالهم عند سماعه وتأثر نفوسهم به حين توارده عليها: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:83] ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء:107-109]
أيها الأخوة المؤمنون: إن الله جلت قدرته بإنزاله لهذه الآيات وأمثالها ومدحه لمن تحلوا بها وثنائه عليهم؛ ليدعو المؤمنين ويأمر الناس أجمعين أن يتحلوا بهذا الأمر، أن يقبلوا على كتاب الله بقلوب خاشعة، ونفوس طائعة، بمشاعر صادقة، وجوارح مستسلمة له ظاهر عليها العمل به، يقول الله سبحانه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد:16] قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنوات" رواه مسلم.
فاتقوا الله -عباد الله- وارغبوا بجدية وتقى فيما رغبكم الله فيه من البكاء عند سماع بشائر ونذر كتاب الله بوجه خاص، ومن خشية الله بوجه عام؛ بكاء راج وخائف، راج وعد الله وثوابه، وخائف وعيده وعقابه، فلقد كان ذلكم خلق المؤمنين، وطابع عباد الله الصالحين، وفي مقدمتهم رسل الله الكرام -عليهم الصلاة والسلام-.
قال تعالى -في سورة مريم بعد ذكر زكريا ويحيى ومريم وابنها-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً) [مريم:41] وقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً) [مريم:51] وقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) [مريم:54] وقال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً) [مريم:56] وقال: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا -تعميم بعد تخصيص- إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) [مريم:58]
روى البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأ عليّ القرآن" قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"؛ فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء:41] قال: "حسبك الآن"؛ فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان.
وعن عبد الله بن الشخير قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" قال النووي حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح.
وأخرج البخاري وابن المنذر: "أن عمر -رضي الله عنه- صلى صلاة الصبح وقرأ سورة يوسف حتى بلغ قوله: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف:86] فسمع مشيجه -أي بكاءه".
ويقول -صلى الله عليه وسلم- في عموم البكاء من خشية الله: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" ذكرهم وقال: "ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" متفق عليه.
وهو يشهد لما رواه الترمذي من قوله: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله" الحديث، وما رواه أيضاً من قوله: "ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين قطرة دموع من خشية الله وقطرة دم تهراق في سبيل الله" الحديث.
فاتقوا الله -عباد الله-، وانهجوا هذا النهج؛ تصفوا نفوسكم، وتلين قلوبكم، وتلحقوا بعباد الله الصالحين الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً.
وإياكم والتعلل بأنه لا سبيل للخشوع ولا لذرف الدموع؛ فهو أمر طبعي لا نملكه فقد يكون ذلكم القول داخل في عموم قوله سبحانه: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال:19]
فالمؤمن الحق يبذل الجهد، ويهيء النفس، ويقدم الأسباب، أسباب جلب الخشوع من جدية في طلب الخير، وتنقية حسب المستطاع لمطعم ومشرب، وبعد عن مقسيات وملهيات القلوب، واستحضار لعظمة الله وإجلاله، واطلاعه على العبد، ولاسيما في هذا المقام، مقام (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس:61]
وغير ذلكم مما تهيأ به النفوس لتلاوته في الساعة التي نوه عنها سبحانه بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل:1-6] وقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [آل عمران:113]
ونحو ذلكم مما يفتح القلوب، ويهيء النفوس؛ لتقبل ما يجلب إليها الخشوع، ويسيل منها الدموع؛ خشية لله، ورغباً فيما عند الله، وبعداً عما ذمه الله، يقول جل ثناؤه: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم:62]
في الخطبة الثانية:
عباد الله: إن خشوع القلوب ورقتها ولينها وتأثرها وادكارها واعتبارها عند مساع القرآن؛ أمر مطلوب جد مطلوب، لكن ماذا يعني خشوع ولين وتأثر وادكار واعتبار وقتي لا أثر له؟، أو يقل أثره في حياة الخاشع فيما بعد، ماذا يعني، ماذا يعني؟، بل الأمر في حقه أشنع، والخطب بالنسبة له أفضع؛ لما في ذلك من إقامة الحجة، وإبراز المحجة على فاعله.
التعليقات