عناصر الخطبة
1/ بواعث البكاء 2/ ضابط البكاء المحمود والمذموم 3/ بعض صور البكاء المحموداهداف الخطبة
اقتباس
خروج الدموع من مآقيها، وإنسكابها على الوجنتين، وجريانها على الخدود، قد يكون لرغبة، أو رهبة، أو ندم وتفريط، أو رحمة، أو حزن، أو فرح، أو محبة، أو نصب، أو تمثيل، أو رياء. وحمد البكاء أو ذمه إنما يكون بمتعلقه، والحامل عليه، وموافقته لمواقع...
الخطبة الأولى:
خروج الدموع من مآقيها، وإنسكابها على الوجنتين، وجريانها على الخدود، قد يكون لرغبة، أو رهبة، أو ندم وتفريط، أو رحمة، أو حزن، أو فرح، أو محبة، أو نصب، أو تمثيل، أو رياء.
وحمد البكاء أو ذمه إنما يكون بمتعلقه، والحامل عليه، وموافقته لمواقع الرضا من الله، فقد يبكي العبد ويشتد نحيبه ولا يزيده ذلك إلا مقتا من الله، وبعدا عن رحمته، وقد يغفر الله لعبده ما تقدم من ذنبه بعبرة خرجت من قلب مخلص، فوافقت رضا الله، فرضي عنه وأسعده، وأدخلته في رحمته وجنته.
وإليكم -عباد الله- ألوانا من البكاء الدالة على حياة القلوب، المقرب لعلام الغيوب؛ لعلها تصادف منا آذانا صاغية، وقلوبا واعية، وأبصارا مستبصرة؛ فتنتفع بهدى الله، وستنير بهذه المثل في سيرها إلى الله، فيكون العبد قريبا من رحمة الله ورضوانه، بعيدا عن غضبه وعقابه.
فمن البكاء ما يكون: حزنا وأسى على أهل الإسلام حين التقصير في أمر الله، في صحيح البخاري قال الزُّهْريّ: "دخلتُ على أنس وهو يبكي، فقلت: "ما يُبكيكَ؟" قال: "لا أعرف شيئًا ممَّا أدركْتُ، إلا هذه الصلاةَ، وهذه الصلاةُ قد ضُيِّعتْ".
ومنه: ما يكون حزنا وأسى على فراق من أحبّ في الله، في الصحيحين: أن سعد بن عبادة اشتكى، فأتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم- يعوده في طائفة من أصحابه، فلما دخل عليه وجده في غَشِيَة، فقال: قد قَضَى؟ فقالوا: لا يا رسول الله، فبكى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى القومُ بكاءَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بَكَوْا، قال: ألا تسمعون؟ إنَّ الله لا يُعَذَّبُ بِدَمِع العْين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذِّبُ بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم".
وفي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- خطب، فقال: "إِنَّ الله -عز وجل- خَيَّرَ عبدا بين الدنيا، وبين ما عندَه، فاختار ذلك العبدُ ما عندَه" فبكى أبو بكر -رضي الله عنه-؛ حيث شَعَر بقرب وفاته عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح البخاري: أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته وهو مَسجّى بِبُرْده، فَكَشَفَ عن وَجْهِهِ، وَأَكَبَّ عليه فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكى، فقال: بِأبي أنْتَ وأُمي يا رسولَ اللهِ.
ومن البكاء: ما يكون ناشئا عن رحمة يجعلها الله في قلب عبده؛ ففي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بِنَفسِهِ، فَجعلت عينا رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: وَأَنت يَا رَسُول الله؟! فَقَالَ: "يَا ابْن عَوْف، إِنَّهَا رَحْمَة، ثمَّ أتبعهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ: إِن الْعين تَدْمَع، وَالْقلب يحزن، وَلَا نقُول إِلَّا مَا يُرْضِي رَبنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إِبْرَاهِيم لَمَحْزُونُونَ".
وفيهما: أنه عليه الصلاة والسلام وضع ابن ابنته فِي حجره وَنَفسه تتقعقع؛ فَفَاضَتْ عَيناهُ، فَقَالَ لَهُ سعد: مَا هَذَا؟! قَالَ: "إِنَّهَا رَحْمَة يَضَعهَا الله فِي قُلُوب من يَشَاء، وَإِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء".
ومن البكاء: ما يكون سرورا وفرحا بنعمة الله، واغتباطا بفضله، وطمعا فيما عنده سبحانه وتعالى، وشوقا إليه؛ في الصحيحين عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "رأَيتُنِي دَخلْتُ الجنة، فَإِذا أنا بالرُّمَيْصَاءَ امرأةِ أبي طلحةَ، وسمعت خَشَفَة، فقلت: مَن هذا؟ فقالوا: هذا بلال، ورأيتُ قصرا بفِنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردتُ أن أَدْخُلَه فأنظرَ إِليه، فذكرتُ غيرتَك، قال: فولّيتُ مدبرا" فبكى عمرُ، وقال: "أَعليك أَغَارُ يا رسول الله؟".
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأُبَيّ: "إن الله -عز وجل- أمرني أن أقرأَ عليك: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا)" قال: وسمَّاني؟ قال: "نعم"، فبكى".
وللبخاري: أن أبيا قال: وقد ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ العالمين؟ قال: "نعم"، فَذَرَفَتْ عيناه".
ومن البكاء: ما يكون ناشئا عن الخوف من الله وخشيته وإجلاله ومراقبته -جل جلاله-؛ روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَلِجُ النارَ رجل بكى من خشية الله، حتى يعودَ اللَّبَنُ في الضرْع ولا يَجْتَمِعُ على عبد غُبار في سبيل الله ودُخَانُ جهنَّم".
وفي الصحيحين: ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
وروى البخاري عن إبراهيم بن عبد الرحمن -رحمه الله-: قال: "أُتِيَ عبدُ الرحمن ابنُ عوفٍ بطعام، وكان صائما، فقال: قُتِلَ مُصْعَب بنُ عُمَيرٍ وهو خيرٌ مني، فكُفِّنَ في بُرْدَة إِن غُطِّيَ رأْسُه بَدَتْ رجلاه، وإِن غُطِّي رجلاه بَدَا رأسُه، وقُتِلَ حمزةُ، وهو خيرٌ مني -ورُوي: أَو رجلٌ آخَرُ، شَكَّ إِبراهيم- فلم يُوَجد ما يُكفَّنُ به، إِلا بُرْدَة، ثم بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِطَ -أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا- وقد خشيتُ أن يكون قد عُجِّلَتْ لنا طَيِّبَاتُنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي، حتى ترك الطعام".
ومنه: البكاء لمواعظ الله لخلقه بآياته البينات، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ كما قال تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 106 - 109]، وقال سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 83]، وقال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم: 58].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: قال: قال لي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقْرأْ عَليَّ القرآنَ؟"، فقلتُ: يا رسولَ الله، أقرَأُ عَليْكَ وعَليْكَ أُنزِلَ؟ قال: "إني أُحِبُّ أن أسمَعَهُ من غيري"، قال: فقرأتُ عليه سورةَ النساءِ، حتى جئتُ إلى هذه الآية: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) [النساء: 41] قال: "حسبُك الآن" فالتَفَتُّ إليه، فإذا عيناهُ تذرِفانِ.
وروى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن الشخير قال: "رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء".
وروى أبو داود والترمذي وصححه عن العِرباضِ بنِ سَارية -رضي الله عنه-، قَالَ: وَعَظَنَا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَوعظةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رسولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأوْصِنَا" الحديث.
وفي الصحيحين: أنهم سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- حتَّى أحْفَوْهُ في المسأَلِة، فصَعِد ذاتَ يومٍ المنبرَ، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بَيَّنْتُهُ لكم، فلما سمعوا ذلك أرَمُّوا ورَهِبُوا أن يكون بين يديْ أمْرٍ قد حَضَرَ، قال أَنس: فجعلتُ أنْظُرُ يمينا وشمالا، فإذا كلُّ رجلٍ لافٌّ رأسَهُ في ثوبه يَبْكِي.
وفي صحيح مسلم: أن شفي بن ماتع الأصبحي -رحمه الله-: أنه دخل على أبي هريرة -رضي الله عنه- فسأله أن يحدثه بحديث سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعقله وعلمه، فقال أبو هريرة: "لأُحَدِّثَنَّكَ حديثا حدَّثَنيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، عَقَلْتُهُ وعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبو هريرةَ نَشْغَة، فمكثْنا قليلا، ثم أفاق، فقَالَ: لأُحَدِّثَنَّكَ حَديثا حَدَّثنيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا البيت، ما معنا أَحدٌ غيري وغيرُه، ثمَّ نَشَغَ أبو هريرة نَشْغَة أخرى، ثُمَّ أَفَاقَ ومَسَحَ عن وَجْهِهِ، وقال: أَفعلُ، لأُحَدِّثَنَّكَ حديثا حدَّثنيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، أَنَا وهوَ في هذا البيتِ، مَا مَعنا أَحَدٌ غَيري وغَيرَهُ، ثمَّ نشغ أبو هُريرةَ نَشْغَة شديدة، ثُمَّ مَالَ خَارّا على وجهه، فَأسْنَدتُهُ طَويلا، ثُمَّ أفَاقَ، فقال: حدَّثني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَن اللهَ إِذَا كانَ يومُ القِيامَةِ يَنزِلُ إِلى العِبَادِ ليَقْضِيَ بَينَهُم، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأوَّلُ مَن يَدعُو به رجلٌ جَمَعَ القُرآنَ، ورجُلٌ قُتِلَ في سبيل الله، ورجلٌ كثيرُ المالِ، فيقولُ اللهُ للقارئ: أَلم أُعَلِّمْكَ مَا أَنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى، يا ربِّ، قال: فماذا عملتَ فيما علمتَ؟ قال: كنتُ أَقومُ به آناءَ الليل وآناءَ النهار، فيقولُ اللهُ لهُ: كَذَبتَ، وتقولُ له الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ لَهُ: بَل أَرَدْت أَن يُقَالَ: فُلانٌ قَارئ، وَقَدْ قِيلَ ذَلِك. ويُؤْتَى بِصَاحِبِ المالِ فيقولُ اللهُ: أَلم أُوَسِّعْ عليك، حتَّى لَم أَدَعْكَ تحتاجُ إِلى أَحَدٍ؟ قالَ: بَلى، يا ربِّ، قالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فيمَا آتَيتُكَ؟ قال: كنتُ أَصِلُ الرَّحِمِ، وَأَتَصَدَّق، فيقولُ الله لَهُ: كَذَبْتَ، وتَقُولُ لَهُ الملائِكَةُ: كَذبتَ، ويقولُ اللهُ: بَل أَردت أَن يُقالَ: فلانٌ جَوادٌ، فقيل ذلك. ثم يُؤتى بالذي قُتِلَ في سبيلِ الله، فيقول اللهُ: فيماذا قُتِلتَ؟ فيقولُ: أَمرتَ بالجهاد في سبيلِكَ، فقاتلتُ حتَّى قُتِلتُ، فيقولُ الله لَهُ: كَذَبتَ، وتقول له الملائكةُ: كَذَبْتَ، ويقولُ اللهُ: بَل أردتَ أَن يُقَالَ: فُلانٌ جَرِيءٌ" فقد قِيلَ ذلك، ثم ضَربَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على رُكْبتي، فقال: "يا أَبا هُريرة، أُولئك الثلاثة أَوَّلُ خَلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة".
وفي رواية الترمذي: أنه حدث بذلك معاوية -رضي الله عنه- فقال: قد فُعِلَ بهؤلاءِ هكذا، فَكَيفَ بِمَن بقي من النَّاسِ؟ ثم بَكَى معاوية بكاء شديدا، حتى ظَنَنا أَنَّهُ هَالِكٌ، وقُلنا: قد جاء هذا الرجلُ بِشرٍّ، ثُمَّ أَفاقَ معاويةُ، ومسحَ عن وجْهِهِ، وقال: صدقَ اللهُ ورسولُهُ: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولئِكَ الَّذينَ لَيْسَ لَهُم في الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ) [هود: 15 - 16].
الخطبة الثانية:
ومن البكاء: ما يكون ندما؛ كان هلال بن أمية أحد الثلاثة المخلفين عن غزوة تبوك، فجاءَتْ امرأته رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: "وَاللهِ ما زال يبكي، منذُ كان من أَمرِهِ ما كان إِلى يومه هذا".
ومنه: بكاء العبد على ما يظنه من فوات الخير والأجر والفضيلة؛ ففي الصحيحين قال: قال ابنُ عباس: "يومُ الخميس، وما يومُ الخميس؟ ثم بكى حتى بَل دمعُه الحصى، فقيل له: يا أبا عباس: ما يومُ الخميس؟ قال: اشتد برسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَجَعُهُ، فقال: "ائتوني بِكَتِف أكتبْ لكم كتابا لا تضلُّوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ تنازع" فقالوا: ما شأنه؟ هَجَر؟ استفهِموه، فذهبوا يَرُدُّون عليه، فقال: "ذَروني"، دَعُوني، "فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه".
وفي غزوة تبوك جاء رجال يريد الغزو ولا يجدون نفقته، فاستحملوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا أهل حاجة، فقال: "لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون"، فأنزل الله -تعالى-: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 91 - 92].
وفي حديث الإسراء والمعراج حين صَعِد عليه الصلاة والسلام حتى أتى السماء السادسة فإذا موسى -عليه السلام-، فرد عليه السلام وقال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، فلما جاوزه صلى الله عليه وسلم للسماء السابعة بكى موسى -عليه السلام-، فقيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي؛ لأن غلاما بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
وروى أحمد: أن أبا رافع -رضي الله عنه- بكى لما أعتق، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كان لي أجران فذهب أحدهما.
ومنه: بكاء ناشئ عن اعتبار ذوي الألباب فيما فعله الله بغيرهم: "لما فتحت قبرص مر بالسبي على أبي الدرداء، فبكى، فقال جبير له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: يا جبير، بينا هذه الأمة قاهرة ظاهرة إذ عصوا الله، فلقوا ما ترى. ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه".
التعليقات