عناصر الخطبة
1/ العزة ومعانيها 2/ تربية النشء على الاعتزاز بالدين والثقة بالنفس 3/ دوافع عزة المسلم 4/ الأشياء التي تجلب الذل والمذلةاهداف الخطبة
اقتباس
أنت أخي المسلم، بمجرد أنك مسلم فقط فأنت عزيز، وذاك الكافر بمجرد أنه كافر فهو ذليل، بغض النظر عن مكانتك ومكانته ومستواك ومستواه، وجاهك وجاهه.. كونك مسلماً فهي العزة، وكونه كافراً فهي الذلة؛ فهل عندك هذا ..
الخطبة الأولى:
أما بعد: إن الله -عز وجل-، ما خلق المسلم ولا أوجده ليكون ذليلاً، أبداً، لكن أوجده -سبحانه- وخلقه ليكون عزيزاً كريما.
الذلة ليست من صفات المسلم وليست من خُلق المؤمن، بل المؤمن عزيز؛ عزيز بإيمانه، عزيزٌ بدينه، عزيز بهذا الوحي وهذا النور الذي يحمله بين جنبيه، وكلما ضعف وخفت هذا النور من قلبه نقصت عنده العزة بمقدار نقصانها، واقترب إلى الذلة، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].
أنت أخي المسلم، بمجرد أنك مسلم فقط فأنت عزيز، وذاك الكافر بمجرد أنه كافر فهو ذليل، بغض النظر عن مكانتك ومكانته ومستواك ومستواه، وجاهك وجاهه.. كونك مسلماً فهي العزة، وكونه كافراً فهي الذلة؛ فهل عندك هذا الشعور أخي المسلم؟ هل هذه القضية واضحة في ذهنك وتصورك؟.
ذهب حكيم بن حزام إلى السوق يوماً، فوجد فيها حُلة تُباع، وكانت حلة نفيسة جميلة، فقال حلة من هذه؟ قالوا: هذه حلة ذي يزن ملك اليمن، فاشتراها حكيم -رضي الله عنه- بخمسون ديناراً ثم ذهب وأهداها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلبسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصعد بها المنبر، فما رأى حلة أجمل منها وهي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنزل -عليه الصلاة والسلام- وألبسها، لأسامة بن زيد -رضي الله عنه-؛ حِبّه وابن حِبّه، وذلك لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان عازفاً عن الدنيا.
فلبسها أسامة -رضي الله عنه-. وكان آنذاك فتىً صغيراً وكان -رضي الله عنه- دميم الخلقة، وكان أبوه مولىً فلبسها أسامة ونزل بها السوق، فرآه حكيم بن حزام -رضي الله عنه- ولم يكن قد أسلم بعدُ. فقال له: حلة من هذه؟، فقال: حلة ذي يزن ملك اليمن، فقال له حكيم: أو تلبس أنت حلة ملك اليمن؟!، قال: نعم، أنا خير من ذي يزن، قال: نعم. والله أنا خير منه، وأمي خير من أمه وأبي خير من أبيه.
الله أكبر، الله أكبر، تأملوا -رحمكم الله- إلى هذه العزة، وإلى هذه القوة، من هذا الفتى الصغير المسلم. لقد تربى في مدرسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا المدرسة التي خرجت قادة الدنيا، ودعاة العالم، ورسل الإصلاح والخير إلى كل مكان، لم يكن من منهج هذه المدرسة أن يحفظ الأولاد طه والطبلة، ولا الولد النظيف منظره ظريف. بل كان منهج تلك المدرسة أن تملئ قلوب الصغار بعزة الدين، وشعوره وهو فتىً صغير أنه خير من ملك اليمن في ذلك الزمان. لماذا؟ لأنه مسلم وذاك كان كافراً وهذا الشعور هو الذي لابد أن نشعره نحن لكي نغذي عليه أبنائنا، لا أن نشعر بالذلة، والضعف والمسكنة، وإن كنا لا نملك شيئاً، وإن كان لا حول لنا -الآن- ولا قوة، يكفي أننا مسلمون، ويكفينا أن نموت ونلقى الله -جل وعلا- على هذا المبدأ.
إن أصغر مسلم وأقل مسلم عندنا، أفضل من أعظم شخصية كافرة، أصغر رجل مسلم، هو أفضل عند الله -جل وعلا- من ملوك ورؤساء الدول الكافرة كلها. لا لشيء، سوى أن هذا مسلم وذلك كافر.
أيها الأحبة في الله: وبعد هذه المقدمة، أدخل في موضوع خطبتي هذه الجمعة، الذي أسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعلها جمعة خير وبركة، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوما.
موضوع هذه الخطبة هو محاولة تلمس بعض المواطن، وبعض الأمور التي تجلب الذلة للمسلم، هناك بعض القضايا، وبعض الأشياء جاء النهي عنها في شريعة الله؛ لأن التعرض لها أو فعلها وإتيانها تسبب الذلة، وتوقع المسلم في المذلة، وهذا خلاف الأصل الذي يجب أن يكون عليه المسلم وهو العزة.
(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آلعمران:139]، فأبدأ بأولى هذه الأمور، وهو الكفر فالكافر ذليل، ذليل في الدنيا والآخرة، وإن ظهر لنا أن بعضهم قد يؤتى من العزة والتمكين، ويتسلط على بعض الرقاب، لكنه ذليل، ومآله إلى ذلة وأعظم ذل له يوم القيامة، يوم يسحب ويلقى على رأسه في نار جهنم والعياذ بالله.
"ليبلغن هذا الأمر، ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام. وذلاً يذل به الكفر".
فالذلة ملازمة للكفر، والعزة ملازمة لشريعة الله، ولملة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المائدة:20-21].
ومن المواطن أو الأمور التي تبسبب الذلة، أن يعرض المسلم نفسه للبلاء وهو لا يطيق ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي في جامعه: "لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه"، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء ما لا يطيق".
فبعض -عباد الله- يتحمس للجهاد، وملاقاة العدو، بسبب شريط سمعه، أو خطبة ألهبت حماسه، فيتحمس ويذهب، ولم يبلغ به قوة الإيمان إلى الآن؛ لملاقاة السيوف، وتحمل الرصاص. فإذا ما رأى الجد ذل، ورجع القهقرى، وفر من أرض المعركة، ويكون بعمله هذا قد أذل نفسه بنفسه، وذلك بأن عرض نفسه لأمر لم يوجبه الله عليه وهو لا يطيقه، فملاقاة العدو، وإزهاق النفس رخيصة في سبيل الله، لا يقدر عليه كل أحد، وإنما يحتاج إلى قدر من التربية وقوة في الإيمان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومثله من يتحمس ويريد أن ينكر المنكرات ببيته، ويريد أن يغيّر الواقع الذي حوله بيده، وهو لا يطيق ذلك؛ لأنه لم يصل إلى القوة، وإلى المرتبة التي من خلالها يمكنه أن يغيّر وينكر بيده، فيذل نفسه؛ لأنه عرضها من البلاء ما لا يطيق.
ومما يجلب الذل للمسلم، شرب المسكر قال الإمام النسائي في سننه، باب ذكر ما أعد الله عز وجل لشارب المسكر من الذل والهوان وأليم العذاب، ثم ساق بسنده قوله -عليه الصلاة والسلام-: "كل مسكر حرام، إن الله -عز وجل- عهد لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال"، قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟. قال: "عرق أهل النار أو قال عصارة أهل النار".
شارب الخمر حتى وهو في النار، يكون من أذل أهلها وأحقرهم، فيكون شرابه عرق أهل النار وعصارة أهل النار من القيح والصديد، فكما أنه في الدنيا لم يمتثل أوامر الله ولم يرتدع عمّا حرم الله كان جزاؤه أن يشرب أيضاً في النار، عرق وعصارة أهلها. هذا في الآخرة. حتى في الدنيا تجد أن شاربي الخمر أذل الناس وأحقر الناس، أولاً، تجده يختبئ خلف الجدران، ويتوارى بالحيطان، وهو يمارس فعلته البشعة، لكي لا يراه أحد، فهو ذليل بفعله هذا، ثم لو خرج ورآه الناس لكان أذل وأحقر، يلعب به الصبيان، ويسخر منه عقلاء الناس؛ لأنه يخرج بلا عقل ولا توازن، فأية مذلة وراء هذه.
وكم كان هناك أناس لهم من الوجاهة والمكانة في المجتمع، وكانوا من أصحاب التجارات والأموال في يوم من الأيام، ثم لما تورطوا في شرب المسكر، وصل بهم الحال إلى أن صاروا من أرذل الناس، وأذل الناس وأخسهم، نفر منهم القريب، وتبرأ منهم البعيد، وصار يحتقرهم الصغير قبل الكبير. فيالله ما أحكمك وما أعلمك عندما حرمت المسكر على عبادك، فأبى بعض من تجرأ عليك إلا أن يذل نفسه.
وأيضاً مما يورث الذل أحياناً إذا لم يراعى فيه الإنسان حق الله -تعالى- الملك قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26] يقول صاحب المنار عند تفسيره لهذه الآية: "ولا تلازم بين العز والملك. فقد يكون الملك ذليلاً، إذا ضعف استغلاله بسوء السياسة وفساد التدبير حتى صارت الدول الأخرى تفتات عليه كما هو مشاهد، وكم من ذليل في مظهر عزيز، وكم من أمير أو ملك يغرُ الأغرار ما يرونه فيه من الأبهة والفخفخة فيحسبون أنه عزيز كريم وهو في نفسه ذليل مهين..".
حتى يقول في آخر كلامه -رحمه الله-: "فعسى أن يعتبر المسلمون في هذا الزمان بهذا ويفقهوا معي كون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ويحاسبوا أنفسهم وينصفوا منها ليعلموا مكانهم من الإيمان الذي حكم الله لصاحبه بالعزة (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24] " ا.هـ. كلامه -رحمه الله-.
إن كلام صاحب المنار -رحمه الله- يذكرنا ببعض ملوك المسلمين في بعض فترات التاريخ كأواخر من حكموا الأندلس، فهم وإن كانوا حكاماً لكن كانوا في ذلة، وذلك لضعف دولتهم وبداية الغرب في أخذ أراضيهم من جهة الشمال والتضييق عليهم، والسبب في ذلك -كما قال صاحب المنار- سوء السياسة وفساد التدبير. وبل والبعد عن منهج الله -جل وعلا-.
نسأل الله -جل وعز- أن يبصرنا في ديننا وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يختم بالصالحات أعمالنا وآجالنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله ...
أما بعد: وأيضاً مما يورث المسلمون الذل ترك الجهاد في سبيل الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم إذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ".
فإذا ترك المسملون الجهاد؛ فما الذي يحل مكانه؟ الذي يحل مكانه هو الاستسلام للعدو، والخضوع له، والرضا بأحكامه علينا، والتوقيع على ما يريد وفتح خيرات بلادنا له، يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء ويعبث كما يشاء، هذا هو ما يحصل وحصل بسبب ترك الجهاد.
ولو صدق المسلمون مع ربهم، كما صدق الأوائل ورفعوا راية الجهاد لأعزهم الله -جل وعلا-، وإن حصل لهم هزائم أو خسائر في بعض الجولات لكن ترك الجهاد بالكلية، بل التوقيع على ترك الجهاد وتعطيل هذه الشعيرة فهذا هو الذل بعينه، بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سمى واعتبر ترك الجهاد وإلغاءه من التفكير هو ترك لبعض الدين فقال في آخر الحديث: "سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
فأي ذل أعظم من أن يذهب الرجل برجله وباختياره إلى ديار الكفر؛ لنلغي هناك شعيرة الجهاد، ويلزم نفسه باستسلام أبدي غير محدود؟! أين هذا الموقف من موقف الغلام أسامة بن زيد، حينما قال: "والله أنا خير منه، وأمي خير من أمه، وأبي خير من أبيه" أما هذا وإن لم يقلها بلسانه فقد قالها بلسان حاله، هو خير مني وأمه خير من أمي وأبوه خير من أبي.
أين أولئك الرجال، الذين كانوا وهم في بلادهم كان ملوك الكفر يرتعدون خوفاً منهم، ولله در الشاعر عندما عبر عنها فقال:
يا من رأى عمراً تكسوه بردته *** والزيت أدّمٌ له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً *** من بأسه وملوك الروم تخشاه
أين الرشيد وقد طاف الغمام به *** فحين جاوز بغداداً تحداه
كم بالعراق وكم بالهند ذو شجن *** شكا فرددت الأهرام شكواه
وكيف ساس رعاة الإبل مملكة *** وأساسها قيصر من قبل ولا شاه؟
بالدين والدين من مغناهم انبعثا *** فطبقا الشرق أقصاه وأدناه
أيها الأخوة في الله: أَمُرّ مروراً سريعاً على باقي الأشياء التي تورث وتجلب الذلة للمسلم دون تفصيل خشية الإطالة، وبعضها ذكرها كافياً لها.
من ذلك: مخالفة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "جُعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري".
ومما يجلب الذل -أيضاً- المعاصي قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس:27].
ومن ذلك -أيضاً- عدم نصرة المؤمنين مع القدر على ذلك أو التسلط على المؤمنين بإذلالهم كما يفعل بعض الموظفين عندما يعطى بعض الصلاحيات فيتسلط على عباد الله، ويؤذي المراجعين وأصحاب المعاملات. عن سهل بن حنيف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله -عز وجل- على رؤوس الخلائق يوم القيامة ".
ومن ذلك أيضاً: التكبر على الناس ولبس بعض الثياب من أجل المفاخرة والشهرة والتكبر على العباد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة ثم تلهب فيه النار" رواه أبو داود في سننه وسنده حسن.
ومن ذلك -أيضاً- ما عنون له البخاري في صحيحه فقال: باب ما يُحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به ثم ساق البخاري بسنده حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخُل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل". قال ابن حجر وهو يشرح هذا الحديث: "بأن هذا يحمل على الذم لمن اشتغل بشيء فضيع بسببه ما أمر الله بحفظه، أو يحمل على من إذا لم يضيع ولكن تجاوز الحد في ذلك، فهذا أو هذا مما يسبب الذل للمسلم".
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد..
التعليقات