عناصر الخطبة
1/مفهوم البراءة من الكافرين وأهميته 2/ضوابط البراءة من الكافرين ومعاداتهم 3/مظاهر البراءة من الكافرين 4/مراتب البراءة من الكافرين وأثرها 5/نماذج من البراءة من الكافرين.اقتباس
الْإِسْلَامُ دِينُ السَّمَاحَةِ وَالْعَدْلِ، لَمْ يَمْنَعِ الْإِحْسَانَ إِلَى الضَّعِيفِ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَالتَّصَدُّقَ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْهُمْ، وَزِيَارَةَ مَرِيضِهِمْ، وَرَدَّ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَالزَّوَاجَ مِنْ نِسَائِهِمُ الْعَفِيفَاتِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مَا دَامَ لَا يَصِلُ إِلَى مَحَبَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ دِينٍ وَعِبَادَةٍ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: مَا الَّذِي يَجْعَلُ صَاحِبَ الدَّارِ يَتْرُكُ دَارَهُ؟ مَا الَّذِي يَجْعَلُ الرَّجُلَ يَتْرُكُ زَوْجَهُ وَوَلَدَهُ وَأَهْلَهُ؟ مَا الَّذِي يَجْعَلُ الْمَرْءَ يَتَنَازَلُ عَنْ مَالِهِ كُلِّهِ وَيَخْرُجُ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؟ إِنَّهُ الْإِيمَانُ وَالْحُبُّ للهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكَرَاهِيَةُ وَالْبُغْضُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْكَافِرِينَ. فَمَاذَا تَعْنِي الْبَرَاءَةُ مِنَ الْكَافِرِينَ؟
الْبَرَاءَةُ مِنَ الْكَافِرِينَ تَعْنِي: الْبُغْضُ وَالْعَدَاءُ لَهُمْ لِأَجْلِ اللهِ -تَعَالَى-، وَهِيَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ، وَجُزْءٌ مِنْ مَعْنَى الشَّهَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:256]، بَلْ هِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْإِيمَانِ؛ فَلَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِالْكَافِرِينَ، وَلَمْ يُبْغِضْهُمْ وَيَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ؛ (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)[المجادلة:22]. (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[المائدة:81].
وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْكَافِرِينَ دَأْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ فَهُمُ الْقَادَةُ وَالْأَئِمَّةُ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاقْتِفَاءِ أَثَرِهِمْ، وَالسَّيْرِ عَلَى طَرِيقِهِمْ؛ فَهَذَا خَلِيلُ الرَّحْمَنِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَقُولُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)[الزخرف:28]، وَمَنْ يَقْرَأُ قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ يَلْمَسُ شِدَّةَ بِرِّهِ بِأَبِيهِ، وَتَلَطُّفَهُ مَعَهُ بِالدَّعْوَةِ وَالتَّعَامُلِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَعْدَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَاتَ عَلَى الشِّرْكِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَقَالَ اللهُ عَنْهُ: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)[التوبة:114]؛ وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ اللهُ لَنَا أُسْوَةً حَسَنَةً نَقْتَدِي بِهِ فَقَالَ: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة:4].
وَهَكَذَا حَالُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَآخِرُهُمْ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي سَارَ عَلَى طَرِيقِهِمْ، وَاقْتَدَى بِهُدَاهُمْ، حِينَ أَعْلَنَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ مُدَاهَنَةٍ، وَصَدَحَ بِهَا دُونَ مُجَامَلَةٍ، فَقَالَ: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)[الأنعام:19]. فَلَا يَجْتَمِعُ حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَ حُبِّ أَعْدَائِهِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قِيلَ:
أَتُحِبُّ أَعْدَاءَ الْحَبِيبِ وَتَدَّعِي*** حُبًّا لَهُ مَا ذَاكَ فِي الْإِمْكَانِ
شَرْطُ الْمَحَبَّةِ أَنْ تُوَافِقَ مَنْ تُحِبْـ***ـبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ بِلَا نُقْصَانِ
فَإِنِ ادَّعَيْتَ لَهُ الْمَحَبَّةَ مَعْ خِلَا*** فِكَ مَا يُحِبُّ فَأَنْتَ ذُو بُطْلَانِ
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْكَافِرِينَ تَعْنِي عَدَمَ مَحَبَّتِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ وَمُظَاهَرَتِهِمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، أَمَّا الْمُعَامَلَةُ الَّتِي تَجْرِي مَعَهُمْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، إِذَا كَانُوا مُعَاهَدِينَ، أَوْ مُسْتَأْمَنِينَ، أَوْ ذِمِّيِّينَ، أَيْ: غَيْرُ مُحَارِبِينَ. فَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَلَى جَوَازِ التَّعَامُلِ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ هَذَا شَأْنُهُمْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِيجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْتَرُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَيَبِيعُونَهُمْ، وَ"تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ"[رواه البخاري]، فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ عَلَى الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ قَوْلَهُ –تَعَالَى-: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8]، الْمَقْصُودُ بِهِمْ هُنَا غَيْرُ الْمُحَارِبِينَ مِنْهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ؛ كَالنِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: (أَنْ تَبَرُّوهُمْ)، وَلَمْ يَقُلْ: أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَتُحِبُّوهُم. كَمَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَالْإِسْلَامُ دِينُ السَّمَاحَةِ وَالْعَدْلِ، لَمْ يَمْنَعِ الْإِحْسَانَ إِلَى الضَّعِيفِ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَالتَّصَدُّقَ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْهُمْ، وَزِيَارَةَ مَرِيضِهِمْ، وَرَدَّ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَالزَّوَاجَ مِنْ نِسَائِهِمُ الْعَفِيفَاتِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مَا دَامَ لَا يَصِلُ إِلَى مَحَبَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ دِينٍ وَعِبَادَةٍ. وَلَعَلَّ فِي مُعَامَلَتِهِمْ بِالْحُسْنَى اسْتِمَالَةً لِقُلُوبِهِمْ إِلَى دِينِ اللهِ الْحَقِّ، وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مُوَالَاةَ الْكَافِرِينَ وَعَدَمَ الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ تَكُونُ فِي أُمُورٍ عِدَّةٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:
إِعَانَتُهُمْ وَمُنَاصَرَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَتْ، وَهِيَ أَخْطَرُ مَظَاهِرِ الْوَلَاءِ لِلْكَافِرِينَ، وَأَشَدُّهَا إِثْمًا، وَأَشْنَعُهَا جُرْمًا، يَلِيهَا الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ، وَاتِّخَاذُهُمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ، وَأُصِيبَ مَعَكَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ". وَقَدْ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِنَّ هَهُنَا غُلَامًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، لَمْ يُرَ قَطُّ أَحْفَظُ مِنْهُ، وَلَا أَكْتَبُ مِنْهُ، فَإِنْ رَأَيْتُ أَنْ تَتَّخِذَهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ، إِذَا كَانَتْ لَكَ الْحَاجَةُ شَهِدَكَ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: قَدِ اتَّخَذْتُ إِذَنْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ"[مُصنف ابن أبي شيبة].
وَمِنْ مَظَاهِرِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ: بُغْضُهُمْ، وَعَدَمُ حُبِّهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ وَالرِّضَا بِكُفْرِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ بِأَلْفَاظِ الِاحْتِرَامِ وَالتَّبْجِيلِ؛ فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدٌ؛ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ -عَزَّ وَجَلَّ-"[رواه أبو داود، وصححه الألباني].
وَمِنْهَا: عَدَمُ التَّسَمِّي بِأَسْمَائِهِمْ، وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي الْمَلْبَسِ وَالْكَلَامِ، وَمِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَمُشَارَكَتِهِمْ فِي أَعْيَادِهِمُ الدِّينِيَّةِ، أَوْ تَهْنِئَتِهِمْ عَلَيْهَا، أَوْ مُسَاعَدَتِهِمْ فِي إِقَامَتِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"[رواه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْكَافِرِينَ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى وَسَطِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَسَمَاحَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَخْجَلُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ، بَلْ هُوَ مَطْلَبٌ عَادِلٌ تَرْنُو إِلَيْهِ كُلُّ أُمَّةٍ تَبْتَغِي عِزَّتَهَا، فَيَكُونُ وَلَاؤُهَا لِمَنْ أَحَبَّهَا، وَبَرَاءَتُهَا مِمَّنْ أَبْغَضَهَا وَعَادَاهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي الْأَمْرِ بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ عَلَى مَرَاتِبَ:
فَمِنْهَا آيَاتٌ جَاءَتْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عُمُومِ الْكُفَّارِ؛ كَقَوْلِهِ –تَعَالَى-: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران:28]، وَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)[الممتحنة:1].
وَآيَاتٌ أُخْرَى جَاءَتْ بِالْأَمْرِ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى خَاصَّةً؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[المائدة:51]. وَآيَاتٌ جَاءَتْ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْقَرَابَةِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ إِذَا كَانُوا عَلَى الْكُفْرِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[التوبة:23].
وَكُلُّ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْكَافِرِينَ لَهَا أَثَرٌ عَلَى إِيمَانِ الْعَبْدِ وَدِينِهِ؛ فَفِيهَا كَمَالُ الْإِيمَانِ بِاللهِ؛ (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[المائدة:81]، وَفِيهَا الْبَرَاءَةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ؛ (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء: 138، 139]، كَمَا أَنَّ مُوَالَاةَ الْكَافِرِينَ جَالِبَةٌ لِسُخْطِ الْمَوْلَى –تَعَالَى-، وَسَبَبٌ فِي نُزُولِ عَذَابِهِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا)[النساء:144].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَوَلَّى أَوْلِيَاءَكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَتَبَرَّأُ مِنْ أَعْدَائِكَ الْكَافِرِينَ.
أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ ضَرَبَ الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ أَرْوَعَ أَمْثِلَةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ؛ فَفِيهِمْ نَزَلَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا قَوْلُهُ –تَعَالَى-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)[المجادلة: 22]، فَقَوْلُهُ: (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ) نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ الْمُشْرِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَوْلُهُ: (أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ قَدْ هَمَّ بِقَتْلِ وَلَدِهِ، فَأَفْلَتَ مِنْهُ وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: (أَوْ إِخْوَانَهُمْ)، نَزَلَتْ فِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدًا مُشْرِكًا، وَقَوْلُهُ: (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ قَتَلُوا عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَفِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَتَلَ خَالَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ ذَاتِهَا، فَكَانَتْ تِلْكَ الْأَحْدَاثُ بَرَاءَةً لَهُمْ، وَشَهَادَةً مِنَ اللهِ بِسُمُوِّ مَكَانِهِمْ.
عِبَادَ اللهِ: وَإِنَّنَا قَدْ نَغْفُلُ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَغْتَرُّ بِمَا عَلَيْهِ الْكُفَّارُ مِنْ تَعَامُلٍ وَقِيَمٍ قَدْ غَابَتْ عِنْدَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَتَرَاهُ يَفْغَرُ فَاهُ بِذِكْرِ مَحَاسِنِ الْقَوْمِ، وَيَمْدَحُ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَخْلَاقٍ، وَرُبَّمَا فَضَّلَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا قَدْ يُفْضِي بِهِ إِلَى مَيْلِ قَلْبِهِ تِجَاهَهُمْ، وَيَنْسَى أَنَّ اللهَ –تَعَالَى- يَقُولُ: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آل عمران: 196، 197]، وَالْقَائِلُ: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه:131].
ثُمَّ إِنَّهُ مَهْمَا تَطَوَّرَ عِلْمُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ، وَمَهْمَا تَضَاعَفَ إِنْتَاجُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَبْقُونَ فِي دَائِرَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ نَصِيبٌ؛ (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[الروم: 7]؛ فَإِذَا جَاءَتِ الْآخِرَةُ لَمْ تَنْفَعْهُمُ التِّكْنُولُوجْيَا الَّتِي كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِهَا، وَلَمْ يَشْفَعْ لَهُمُ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَالتِّقَنِيُّ الَّذِي كَانُوا يَتَسَابَقُونَ فِيهِ؛ (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)[الفرقان: 23].
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَزَّ بِالِانْتِمَاءِ وَالْوَلَاءِ لِهَذَا الدِّينِ الشَّامِلِ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَأَهْلِهِ الْعَامِلِينَ بِهِ، وَكُلُّ قُصُورٍ فِي بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ لَا يَطْعَنُ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ قَدْرِهِ؛ كَمَا أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَبُغْضَ مَا هُمْ عَلَيْهِ؛ لِيَنَالَ بِذَلِكَ رِضَا رَبِّهِ، وَيَسْلَمَ لَهُ دِينُهُ، وَيَحْشُرَهُ اللهُ –تَعَالَى- مَعَ أَحْبَابِهِ وَأَوْلِيَائِهِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نُحِبُّكَ وَنَتَوَلَّى رَسُولَكَ، وَنَرْتَضِي شَرِيعَتَكَ وَدِينَكَ، فَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ.
التعليقات