عناصر الخطبة
1/أهمية الحديث عن التدبير والإنفاق والتكسُّب 2/أمر الشرع بالاعتدال في الإنفاق 3/ضبط النفس عند التكسُّب 4/توجيهات للكسب الطيباهداف الخطبة
اقتباس
إن التوازن والاعتدال من أبرز سمات هذا الدين، ولهذا وصف الحق -جل وعلا- عباده بأنهم: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]؛ لأن الإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، ومؤذن بخراب الديار، والتقتير مثله كذلك، فهو حبسٌ للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الآخرين من حوله.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد كانت الخطبة الماضية عن الكسب الحلال والنفقة الحلال، وأن خير معين على ذلك بعد توفيق الله -تعالى- هو القصد في المعيشة؛ ولا يزال الحديث اليوم، وفي جمع قادمة أيضاً، مستمراً.
ولعل سائلاً يسأل: لماذا الإطالة في هذا الموضوع؟ والجواب: إن ذلك لأسباب، منها:
أولا: طول التوجيه في القرآن الكريم، والسنة النبوية إلى الإنفاق والكسب الحلال، وتنوع أساليب الترغيب والترهيب الواردة بصدده.
ولعل ذلك لإدراك أمورٍ، منها بصرُ الإسلام بطبيعة النفس البشرية، وما يخالجها من الشح بالمال، وحاجتها إلى التحريك المستمر، والاستجاشة الدائبة، لتستعلي على الحرص، وتنطلق من الشح، وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس.
وطول توجيه الكتاب والسنة في هذا الأمر -أيضا- لما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم، ولكنه كان سخاء وكرماً يقصد به الذكر والصيت، وثناء الناس، وتناقل أخباره في المضارب و الخيام! ولم يكن أمراً ميسوراً أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لذلك كله، متجردين من كل شيء إلا الرغبة فيما عند الله، والاستسلام لدينه؛ فالأمر إذاً كان بحاجة إلى التربية الطويلة، والجهد الكثير، والهتاف المستمر بالتجرد والإخلاص.
واليوم، ظهرت خصال جديدة، فالناس عامة -بما فيهم طلبة العلم والدعاة- وإن كانوا يجدون أنفسهم ضمن ضحايا الروتين، وبعض العادات الاجتماعية والتقاليد والأعراف التي تلزمهم بنفقاتٍ باهظة، وتفرض عليهم مصاريف دون قناعة منهم بها في كثير من الأحيان، لكنهم مع ذلك لا يستطيعون الانعتاق منها، أو لا يعرفون أن يفكروا في خلافها، فقد ألفوا طابعاً معيناً من أشكال الحياة، وبرمجة خاصة لا يتحمسون لتغييرها. هذا من جانب.
ومن جانب آخر أنهم لا يدركون أهمية ونفع الصدقة عليهم نفسياً من وقاية الشح، وتفجُّر ينابيع الحكمة في القلب.
ومن جانب ثالث فإن خوف الفقر وهاجس تأمين لقمة العيش لليوم وغد وبعد غدٍ ألقت بثقلها في عملية مقاومة الإنفاق، والنهم في الكسب من أي طريق، وخاصة بعد ارتفاع الأسعار عالمياً.
ومن الأسباب الداعية للإطالة في هذا الموضوع، أنه بالإضافة إلى الترغيب في الكسب الحلال والنفقة الواردة في القرآن الكريم، فإن أفعال السلف حافلة بالإشادة بالقصد في المعيشة واختيار المسلك القويم فيها أيضاً.
أيها المسلمون: إن التوازن والاعتدال من أبرز سمات هذا الدين، ولهذا وصف الحق -جل وعلا- عباده بأنهم: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]؛ لأن الإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، ومؤذن بخراب الديار، والتقتير مثله كذلك، فهو حبسٌ للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الآخرين من حوله.
بل إن الشرع يصرح بأن الإنسان سيحاسب على مخالفة هذا النهج، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة، حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه" رواه الترمذي بسنده عن أبي برزة الأسلمي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحملنكم العسرُ على طلب الرزق من غير حله"، وقال: "رزق الله لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كره كاره".
فدل الحديث الأول على أهمية الكسب الحلال، وطلب الرزق بطرقه الشرعية من الأخذ بالأسباب، دون لهث ونهم وإجهاد للجسم فوق طاقته؛ إضافة إلى التوكل على الله -تعالى- دون تقصير أو تواكل.
كما دل الحديث الثاني على ضبط النفس أن تنساق بفعل الضغوط المعيشية وراء الكسب الحرام، فتأكل شيئاً من غير حله.
وتضمن الحديث الثالث، وهو أن "رزق الله لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كره كاره"، النهيَ عن الشره في الطلب؛ لأن الرزق لا يستجلب بشدة الحرص، بل هو، كما ورد في حديث آخر: "أشد طلباً للعبد من أجَله".
اللهم وفقنا للكسب الحلال، والنفقة الحلال، ووسع لنا في رزقنا وبارك لنا فيه وسلطنا على هلكته في الحق، واجعله عوناً لنا على طاعتك.
وسبحانك اللهم وبحمدك نشهد ألا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وبارك وعلى آله وأصحابه.
وبعد: فطلب الرزق مطلوب، بل اكتسابه واجب، ولكن وفق ضوابط الشرع المتراوحة بين العمل بقدْر، والتوكل على الله -سبحانه وتعالى-.
وإليكم بعض التوجيهات للكسب الطيب:
أولاً: العمل، فمن أبرز سمات هذا الدين تفجيره لطاقات أبنائه، والكشف عن مواهبهم، ومن ثم تشغيلها وتوجيهها نحو البناء.
وقد تضافرت النصوص الشرعية من القرآن والسنة لتأكيد هذه الحقيقة، من ذلكم قول الله جل وتقدس: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:105]، وقوله -سبحانه-: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) [المزمل:20]، وقوله: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سبأ:13]، وقوله -جل شأنه-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ) [الجمعة:10]، وغيرها كثير.
ومن السنة ما رواه ابن عمر، قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أطيب الكسب، فقال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور".
وروى المقدام بن معدي كرب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وكان داود لا يأكل إلا من عمل يده" رواه البخاري وغيره، وعن الحسن قال: "مطعمان طيبان: حمل الرجل على ظهره، وعمله بيده"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان زكريا نجاراً"، وقال سفيان بن عيينة: "ليس من حبك الدنيا أن تطلب منها ما يصلحك".
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة، فليغرسها". وهذا الحديث حجة في العمل الصالح، وإن كان يبدو للعامل أنه لا ينفع به أحداً، فالعمل الصالح في نفسه مطلوب من كل امرئ، ولعل الله ينفعُ به، كما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة" رواه مسلم وغيره.
وروى الشيخان وأحمد عن موسى بن عقبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من خير أعمالكم الحرث والغنم، وهو عمل الأنبياء. وصاحب الحرث يؤجر في كل ما أصيب منه بعمله، أو بغير عمله، حتى إنه يؤجر فيما ضرب الطير وجرت النملة والذرة".
أيها المسلمون والشباب العاطل خاصة: إن العمل لكسب العيش ليس فيه عيب، ولا تثريب، ولا يُنقص قيمةَ الرجل حتى لو كان عالماً أو طالب علم، إلا أنه يحتاج إلى عزيمة، ويجب على المسلم أن لا يتحرج أو يخجل من العمل في التجارة أو المهنة التي يكون بها عيشهُ، واعفافُ نفسه، فالنفس تحتاج إلى مغالبة حتى تتروض على ذلك.
عن الحسن قال: "بينما عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذات يوم يمشي مع أصحابه، إذا صبيّة في السوق يطرحها الضعف والهزال على وجهها، فقال عمر: مَن يعرف هذه؟ فقال له ابنه عبد الله بنُ عمر: أو ما تعرفها؟ هذه إحدى بناتك! قال: أي بناتي؟ قال: ابنة عبد الله بن عمر، قال: فما بلغ بها ما أرى من الضيعة؟ قال: إمساكك ما عندك. قال: إمساكي ما عندي عنها يمنعك أن تطلب لبناتك ما يطلب الأقوام؟ والله مالك عندي إلا سهمك مع المسلمين، وشبَعَكَ، أو عْجَزَكَ شيء وبينكم كتاب الله عز وجل".
إن طلب الرزق حقٌ، والحقُ مرٌ، ولا بد أن يجد سالكُه عنتاً، وربما جاء العنت من أقرب الناس إليك كالأهل والولد، أو الوالد والأقارب، وإلا؛ فَمَن أزكى، وأورع، وأتبع للسنة من عبد الله بن عمر، ومع ذلك فقد ثقل عليه موقف والده حينما منع الفاروق إعطاءه كثيراً.
هذا وصلوا على النبي المختار...
التعليقات