عناصر الخطبة
1/أهمية التوسط والاعتدال 2/من صور الإسراف المذموم 3/ذمّ التبذير 4/فضل الاعتدال في النفقة 5/التحذير من الاستدراج بالنعم 6/نذير العقوبة المفاجئةاقتباس
وقد شنَّع -تعالى- على المبذرين فجعلهم إخوان الشياطين؛ وذلك لمشاركتهم لهم في التبذير والسفه وترك الطاعات، فكما أن المسلم أخو المسلم لمشاركته له في الطاعات، فالمبذر أخو الشيطان لمشاركته له في المعاصي والمخالفات....
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله مُوفِّق مَن شاء مِن عباده للاستقامة والاعتدال في شؤونه كلها، أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مسبغ النعم، ودافع النقم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي كان جلّ همّه الآخرة، صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه الذين كان تاريخ حياتهم حافل بالمسابقة إلى أعلى الدرجات في الآخرة، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- حق تقواه اعتدلوا في اللباس، وفي المأكل والمشرب والمسكن، والبسوا من الزينة ما أباح الله لكم، وكلوا واشربوا من طيبات ما رزقكم، ولا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام، واحذروا من المخيلة والسرف؛ امتثالاً لقوله -تعالى-: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[سورة الأعراف:31].
ولما رواه الإمام أحمد، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده".
بل إنه -تعالى- قد أنكر على مَن حرَّم شيئاً من المأكل والمشرب أو الملبس مِن تلقاء نفسه، فقال -تعالى-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)[سورة الأعراف:32]؛ وأخبرنا بأنها لمن آمَن به وعبَده في الحياة الدنيا، وإن شاركهم فيها الكفار حسّاً في الدنيا فهي لهم خاصة يوم القيامة؛ (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[سورة الأعراف:32]، وذلك لأن الجنة محرمة على الكافرين.
معشر المسلمين: من السرف والعبث: بناء ما لا حاجة إليه كالقباب فوق العمارات، والزخارف والمظاهر في الطرقات، وكذا نصب الشجر، بل ومن الاغترار بالدنيا وطول الأمل فيها، بناء القصور الشامخة حتى صارت لنا كأنها دار خلود، ولا يخفى ما حصل من العتاب لقوم هود في ذلك؛ قال -تعالى-: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)[سورة الشعراء:128-129].
فالريع المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون فوقها بنياناً محكماً هائلاً باهراً، لا لحاجة إليه؛ وإنما لمجرد اللعب واللهو، وإظهار القوة، قال ابن كثير -رحمه الله-: "إنه تضييع للزمان وإتعاب الأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة".
وفسَّر مجاهد "المصانع بالبروج المشيدة والبنيان المخلد".
وروى ابن أبي حاتم -رحمه الله-: أن أبا الدرداء -رضي الله عنه-، لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق فاجتمعوا إليه؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون؟! ألا تستحيون؟! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تُدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطلبون، فأصبح أملهم غروراً، وأصبح جَمعهم بوراً، وأصبحت مساكنهم قبوراً، ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً وركاباً، فمن يشتري مني ميراث عادٍ بدرهمين؟!
هكذا -يا عباد الله- كان شعور هذا الصحابي الجليل لما أحدثه المسلمون في دمشق في ذلك الزمان، فكيف لو رأى حالتنا اليوم ماذا سيقول فينا؟
عباد الله: لقد أُمرنا بالإنفاق في الحق، ونُهينا عن التبذير، ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)[سورة الإسراء:26]، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "التبذير: الإنفاق في غير الحق"، وكذا قال ابن عباس، وقال مجاهد: "لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مُبذِّراً، ولو أنفق مُدّاً في غير حق كان مبذراً"، وقال قتادة: "التبذير: النفقة في معصية الله -تعالى-، وفي غير الحق والفساد".
وقد شنَّع -تعالى- على المبذرين فجعلهم إخوان الشياطين؛ وذلك لمشاركتهم لهم في التبذير والسفه وترك الطاعات، فكما أن المسلم أخو المسلم لمشاركته له في الطاعات، فالمبذر أخو الشيطان لمشاركته له في المعاصي والمخالفات، ولقد أرشد -تعالى- إلى الاعتدال في النفقة؛ بقوله -تعالى-: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)[سورة الإسراء:29].
والاعتدال في النفقة من صفات عباد الرحمن؛ لقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[سورة الفرقان:67].
فيا أخي المسلم: اتق الله -تعالى-، واعتدل في نفقاتك كلها، لا تكن بخيلاً مَنُوعاً، ولا تسرف في الإنفاق فتقعد ملوماً محسوراً، لا تغتر بهذه الدنيا وزخرفها فما أسرع زوالها، وعليك بدار السلام؛ فإن الله يدعوك إليها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[سورة يونس:24-25].
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أسبغ علينا نِعَمه الظاهرة والباطنة، فسبحانه من إله عظيم لا نُحصي ثناءً عليه، أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق، فلا ربّ لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبيّ عرف حقيقة نعم الله عليه فقيَّدها بالشكر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نالوا السبق في الثناء والشكر، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وقيِّدوا نِعَمه بشكرها، واحذروا من معصية الله، فإن العبد إذا أغدق عليه وهو مُقيم على معصية الله فإنما ذلك استدراج له جزاء وفاقاً، بل إن الإغداق مع الغفلة عن طاعة الله نذير بالعقوبة المفاجئة؛ قال -تعالى-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[سورة الأنعام:44]؛ هذه هي سُنّة الله في خلقه.
فاتقوا الله -عباد الله- وتوبوا إليه، واعتدلوا في نفقاتكم، واعتبروا بما جرى لمن مضى، وليكن جُلّ همّكم لدار السلام التي يدعونا إليها المولى.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، واجعل الجنة مأوانا يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل منازلنا بجوارك في الفردوس الأعلى، يا ذا الجلال والإكرام.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات